«قمة النقب.. السلام القديم يلتقي بالسلام الجديد»، بهذا التعبير الموجز والذي يحمل العديد من الدلالات، وصف معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي القمة الدبلوماسية التي جمعت وزارء خارجية مصر والإمارات والبحرين والمغرب بوزير الخارجية الإسرائيلي وبحضور وزير الخارجية الأمريكي في مدينة «سديه بوكير» بصحراء النقب جنوب دولة الاحتلال قرب منزل ومدفن رئيس الوزراء المؤسس للدولة العبرية ديفيد بن جوريون.

جلس المطبعون الجدد «الإمارات، والبحرين، والمغرب»، والمُطبع الأول «مصر»، مع عدوهم السابق صديقهم الحالي في حضور الراعي الأمريكي، على مائدة عشاء يتبادلون الابتسامات وعبارات الإشادة والترحيب، وفي نهاية القمة اصطف الجميع على منصة واحدة قرب منزل ومقبرة الزعيم الصهيوني الشهير بن جوريون، وشبكوا أيديهم أمام الكاميرات في صورة بألف كلمة مما تعدون، لا فرق بين أصحاب التطبيع البارد والتطبيع الساخن.

لم يكن بن جوريون يحلم بأن يقف أعداؤه على مقبرته باعتبارهم أصدقاء وحلفاء إقليميين، فالرجل الذي وضع استراتيجة «عقيدة المحيط» والتي سعى من خلالها لإقامة علاقات مع  تركيا وإيران وإثيوبيا لتجاوز العزلة العربية لإسرائيل والتطور على أطراف الشرق الأوسط، لم يضع في حسبانه يوما أن أعداءه العرب سيتحولون يوما إلى أصدقاء، وسيدخلون مع دولته الغاصبة في حلف واحد، يرتبون أجندة أهداف واحدة ويتفقون على مواجهة تحديات مشتركة.

فاقت قمة النقب الدبلوماسية في توقعاتها طموحات بن جوروين وكل قادة إسرائيل الذين خلفوه، جلس سامح شكري وعبد الله بن زايد وعبد اللطيف الزياني وناصر بوريطة مع يائير لابيد وأنتوني بلينكن على طاولة واحدة ليس لبحث مسار السلام بين العرب ودولة الاحتلال ولا لمناقشة إقامة الدولة الفلسطينية على أساس مقررات الأمم المتحدة والمبادرة العربية للسلام، بل لبحث تشكيل لجان أمنية لمواجهة تهديدات إيران فى المنطقة، بحسب ما أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي، الذي أكد أن الوزراء الست اتفقوا على تدشين شبكة أمنية للإنذار المبكر، وعلى انعقاد القمة بشكل دوري.

يُنظر إلى اجتماع النقب على أنه محاولة من جانب إسرائيل وحلفائها الجدد لتشكيل جبهة ضد العدو الإقليمي المشترك «إيران»، بحسب ما نقل موقع «تايمز أوف إسرائيل» العبري، وقال مسؤولون إسرائيليون للصحفيين في الموقع إن المحادثات تركزت حول إنشاء «هيكل أمني إقليمي»، وهو ما ربطه البعض مع دعوات تشكيل ما سُمي بـ «الناتو الشرق أوسطي»، والذي ستكون إسرائيل رأس حرب فيه.

لم تكن القضية الفلسطينية التي حاول البعض طرحها خلال المؤتمر الصحفي في ختام القمة محور مناقشات خلف الأبواب المغلقة، فالمسؤول بوزارة الخارجية الإسرائيلية عوديد يوسف قال للصحفيين بأن المناقشات التي عُقدت صباح الاثنين تناولت بشكل مباشر التحديات الأمنية التي تواجه الدول التي اجتمعت في سديه بوكير، «التحديات تشمل تلك التي تمثلها إيران ووكلاؤها المسلحون».

وأضاف يوسف أن «الهيكل الأمني الإقليمي يتضمن مواجهة التهديدات من إيران ووكلائها، وسوف يتميز بوجود أمريكي ذي مغزى، وسيشمل التعاون جميع المجالات التي يمكنكم التفكير فيها»، مشيرا إلى أن القضية الفلسطينية «طُرحت بالفعل في المحادثات الداخلية، لكنها لم تكن محور الحديث»، وهو ما يعني أن طرحها كان من باب «رفع العتب وإبراء الذمة».

حديث يوسف أكده وزير الخارجية الإسرائيلى الذي اعتبر أن قمة النقب رسالة قوية لإيران. أما وزير الخارجية الإماراتي والذي قادت بلاده قطار التطبيع الجديد مع الكيان الصهيوني فوصف الاجتماع بـ «اللحظة التاريخية»، وقال إن «إسرائيل جزء من هذه المنطقة منذ وقت طويل وحان الوقت لنعرف بعضنا».

وألمح بن زايد ضمنيا إلى الحاجة لتصحيح التاريخ بعد عقود طويلة بدون علاقات، وقال إن مصر «أظهرت لنا القيادة قبل 43 عاما في إضفاء الشرعية على إسرائيل». وبحسب ما نقل الإعلام العبري وجه بن زايد حديثه إلى وزير الخارجية المصري وقال:«لقد فقدنا تلك السنوات الـ43.. الآن نحن نحاول فقط اتباع خطواتكم».

شكري من جانبه اعتبر المسار الذي وضعته مصر مع إسرائيل منذ 43 عاما أنه كان «مثمرا ويبيّن أهمية الاستقرار في المنطقة». وشدد على أهمية حل الدولتين بين إسرائيل والفلسطينيين على أساس حدود 1967، محذرا من أي نشاط أحادي يزعزع الهدوء خلال شهر رمضان.

حديث بن زايد وشكري عن العلاقات مع إسرائيل بدا وكأنه مبارزة جانبية بين المبطعين الجدد والمطبع الأول، فالوزير الإمارتي أراد أن يبعث برسالة علنية إلى نظيره المصري مفادها «أنتم السابقون ونحن اللاحقون»، فيما حاول شكري ألا يتورط في كلمته خلال المؤتمر الختامي للقمة بتبني ما أعلنه وزير الخارجية الإسرائيلي حول التهديدات الإيرانية أو تشكيل أحلاف، كما اكتفى بإدانة عامة للإرهاب، مُتجنبا ذكر الهجوم الذي وقع في منطقة الخضيرة بإسرائيل أمس والذي أسفر عن مقتل شرطيين من حرس الحدود الإسرائيلي.

وعند عودته إلى القاهرة نفى شكري أن يكون الهدف من قمة النقب بناء تحالف في المنطقة ضد طرف معين، وقال خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره القطري محمد عبد الرحمن آل ثان، إن استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل أخذت حيزًا كبيرًا من مباحثات قمة النقب، مشيرًا إلى أن المنطقة تواجه تحديات متصلة بالإرهاب والتطرف.

نفي شكري مشاركة مصر في أحلاف بعد عودته إلى القاهرة، وعدم إصدار وزارته بيانا رسميا حول القمة وتجاهل منصات الإعلام المصري ومنها وكالة أنباء الشرق الأوسط ما دار في النقب حول الأحلاف أو شبكة الإنذار المبكر، يشير إلى أن مصر لا تريد أن تتورط في استعداء إيران، فالقاهرة تحرص على الحفاظ على شعرة معاوية مع نظام الملالي في طهران، وتشعر أن هناك محاولات إقليمية لدفعها إلى صدام غير محسوب العواقب، فيما يبحث خصوم إيران التاريخيين عن مسارات لتبريد العلاقات المتوترة مع جارتهم اللدود.

كانت مصر هي آخر دولة أعلنت عن مشاركتها في القمة، فحتى مساء الجمعة لم تكن القاهرة قد حسمت مشاركتها في الاجتماع الذي كان مقررا عقده في القدس، وتحفظ الجانب المصري على الحضور احتجاجا على عقده في القدس،  ما دفع تل أبيب إلى نقل الاجتماع إلى مدينة سديه بوكير في النقب، فقبلت القاهرة المشاركة على مضض، لكنها التزمت بعدم التورط والسقوط في فخاخ الأحلاف التي نصبتها بعض الأطراف، كما وضح لاحقا.

أولويات القمة وأهدافها لا تتناسب مع السياسة المصرية في تلك اللحظة، فالقاهرة التي لم ترحب باتفاقات إبراهام بين إسرائيل وبعض دول الخليج، لا تُفضل أن تدخل في عداء معلن مع إيران، لكن مع تغير الظروف وعلى وقع الأزمة الاقتصادية التي تصاعدت خلال الأسابيع الأخيرة إثر الصراع الروسي الأوكراني غيرت مصر استراتجيتها قليلا، واستضافت رئيس وزراء إسرائيل نفتالي بينت وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد في قمة ثلاثية بشرم الشيخ ثم قبلت المشاركة في قمة النقب.

وبحسب معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي فإن قبول مصر بالمشاركة في تلك الاجتماعات رغم محاذيرها غير المعلنة يهدف إلى تحقيق مصلحة استراتيجية كبيرة، «مساعدة الولايات المتحدة ودول الخليج وإسرائيل في مواجهة تحدياتها الاقتصادية الهائلة، والتي تفاقمت بسبب الحرب في أوكرانيا ما أثر على إمدادت القمح وهو الغذاء الرئيسي للمصريين، وارتفاع أسعار الطاقة».

ويقول تقرير للمعهد أن القضية الإيرانية والتي كانت محور مناقشات النقب لا تتصدر قائمة اهتمامات القاهرة، «رغم أن القاهرة ليس لديها نفس مشاعر العداء لطهران مثل حلفائها الخليجيين وإسرائيل، فإنها تعتبر إيران ووكلاءها تهديدا خطيرا لاستقرار وأمن المنطقة».

ويضيف التقرير أنه إلى جانب الأهمية الرمزية لمشاركتها في القمة، يمكن أن تلعب مصر دورًا في شبكة الأمن الإقليمي من خلال تعزيز نفوذ المحور السني المعتدل وإسرائيل على حساب النفوذ الإيراني في مجموعة متنوعة من الساحات، بما في ذلك غزة والعراق ولبنان. وسوريا واليمن والبحر الأحمر.

وتسعى إسرائيل ومعها حلفاؤها الجدد في الخليج إلى الاستعداد لتداعيات احتمالية إبرام اتفاق نووي جديد مع إيران، وتعتبر هذه الأطراف أن إحياء الاتفاق النووي يمثل تهديدا خطيرا لها، وفي ظل تراجع الثقة في موقف أمريكا ضد الجمهورية الإسلامية، بدأت تل أبيب تحركاتها الأخيرة والتي بدا أنها محاولة لتشكيل تحالف يضم دول الاعتدال السني في المنطقة ضد طهران ووكلائها.

وفي سبيل تحقيق أهدافها أقنعت إسرائيل حلفاءها في المنطقة أنها يمكن أن تفكك الخلافات التي نشأت بينهم وبين واشنطن، وأن تصبح جسرا للعلاقات التي شابها التوتر على خلفية رفض السعودية والإمارات لدعوة الرئيس الأمريكي جو بايدن بزيادة إنتاج النفط، وعدم تبني مصر موقف منحاز إلى الغرب في أزمته مع روسيا بسبب مصالحه المشتركة مع موسكو.

وفي الوقت الذي تسعى فيه إسرائيل إلى تشكيل حلف من دول الاعتدال العربي السني مدعوم من أمريكا، تبحث أيضا توفير قناة اتصال مع طهران، التي لم تتواصل معها منذ سقوط نظام الشاة قبل 4 عقود.

ويقول  كبير الباحثين في معهد آبا إيبان للدبلوماسية الدولية في إسرائيل داني سيترينو فيتش في تقرير نشره المجلس الأطلسي للدراسات إن علاقات تل أبيب بالإمارات لا تسعى فقط إلى بناء «ناتو شرق أوسطي» لحصار إيران، لكن كوسيلة لنزع فتيل التوتر معها.

ويوضح فيتش والذي عمل رئيسا لفرع إيران بالاستخبارات الإسرائيلية لفترة طويلة أن الإمارات المتاخمة لإيران وموطن لجالية إيرانية كبيرة، يشعر العديد من مواطنيها بالقلق من أن الصراع العسكري يمكن أن يدمر بنيتهم التحتية الهشة.

من ناحية أخرى ترى إسرائيل أن إيران ستمثل تهديدا وجوديا لو اقتربت من القدرة على تحقيق اختراق في الملف النووي، لكن إن لم يحدث ذلك فمن غير المرجح أن تتحرك إسرائيل والإمارت ضدها بشكل علني، بل يمكن أن تساعد أبو ظبي في نزع فتيل التوتر بين تل أبيب وطهران وتتحول إلى قناة اتصال بين الجانبين، من خلال إنشاء «خط ساخن» للحد من مخاطر الحسابات الخطأ التي قد تؤدي إلى حرب.

انتهت قمة النقب، ولم يصدر عنها بيان ختامي، حيث اختلف المجتمعون على بنود البيان،  بحسب ما صرحت بعض المصادر للصحفيين الإسرائيليين، وخلال المؤتمر الصحفي طرح وزير الخارجية الإسرائيلي رسائل بلاده التي فشل في إقناع بعض المشاركين بتبنيها، فأعلنها باعتبارها مخرجات للاجتماع، لكن باقي الأطراف ومنها وزير الخارجية الأمريكي لم يؤمنوا على كلامه.

عدم صدور بيان ختامي عن القمة لا يعني فشل إسرائيل، فدولة الاحتلال هي الرابح الأول، نجحت في  جمع وزارء الخارجية العرب على أجندتها وصدرت للرأي العام أنهم قبلوا ما طرح عليهم خلال المناقشات، وحققت ما كانت الإدارات الصهيونية المتعاقبة تحلم به، وهو القبول بدولتهم كلاعب طبيعي ورقم رئيسي في معادلة الإقليم.

حقق بعض الحضور من الجانب العربي بعض المكاسب الضيقة، فيما حققت مصر خسارة لا يمكن تداركها في المدى المنظور، فظهر وزير الخارجية المصري وكأنه ممثل لدولة صغيرة في الإقليم، شارك في اجتماع منح عدونا الاستراتيجي مكانة لا يستحقها وأضفى عليه شرعية للتمدد في مساحات جديدة نعتبرها امتداد لأمننا القومي.

بعد هذا الاجتماع وتلك الصورة المهينة، لم يتبق سوى أن تطلب إسرائيل الانضمام إلى جامعة الدول العربية، بعد تغيير اسمها إلى «الجامعة الإبراهيمية»، أو على الأقل منحها صفة مراقب بعدما فشلت في الحصول على تلك الصفة بالاتحاد الأفريقي، وللأسف ستجد من يدعم طلبها من حكام العرب الذين يحاولون أن يصنعوا لأنفسهم أدوارا لا تتناسب مع أوزانهم ولا إدراكهم لتحديات المنطقة.