ونحن نكتب عن كفاح المصريين في البحث عن الاستقلال الوطني في مائة عام يستوقفنا أمران:
أولهما: أن الاستعمار الأوروبي القديم سلم المنطقة بكاملها للاستعمار الأمريكي الجديد.
ثانيهما: أن الاستعمار الأمريكي يسلم -الآن- المنطقة بكاملها لإسرائيل.

حدث ذلك على مدى قرن ونصف من الزمان، ثلاثة أرباع قرن استغرقتها كل عملية من عمليات التسليم والتسلم .

دلالة ذلك، بوضوح شديد، أن المنطقة أخذت تنتقل من السيد الأوروبي، ثم إلى السيد الأمريكي، ثم ها هي مقادير المنطقة تؤول إلى يد السيد الإسرائيلي بترحيب من حكامها وصمت من شعوبها .

وهذه باختصار شديد، خلاصة مائة عام أو يزيد من كفاح المنطقة وأهلها في سبيل الاستقلال الوطني .

………………

لم يخطئ وزير خارجية مصر في آخر حكومات الوفد 1950 – 1952م الدكتور محمد صلاح الدين 1902 – 1991 حين قال لمن يفاوضهم من الإنجليز قولته المشهورة “إسرائيل شوكة في جنب مصر” ، وقد عاش الرجل ليرى أسرائيل تغزو مصر مرتين، وتحتل شبه جزيرة سيناء مرتين، وتصل بقواتها إلى الضفة الشرقية من قناة السويس مرتين في 1956 ثم في 1967 بل عبرت إلى الضفة الغربية من القناة ودخلت السويس ذاتها فيما عرف بثغرة الدفرسوار في حرب أكتوبر 1973 .

وما تريد هذه المقالة أن تلقي الأضواء عليه هو حقيقة أن :

1-تصفية القضية الفلسطينية أولا. 2-  ثم دفع العرب للتصالح مع إسرائيل ثانيا . 3 – ثم تمكين إسرائيل من بسط سلطانها على الإقليم ثالثا، كل ذلك له جذور قديمة ولدت مع نشأة إسرائيل ذاتها .

هذه الحقيقة واجهت الوزير صلاح الدين ومن معه من عناصر وطنية مستقيمة في آخر حكومات الوفد قبل ثورة 23 يوليو 1952، ثم واجهت الرئيس عبدالناصر حتى فارق الحياة في 28 سبتمبر 1970 .

وللأسف الشديد، تمت تصفية الوفد على يد ثورة 23 يوليو، ثم تمت تصفية ثورة 23 يوليو على يد إسرائيل في 5 يونيو 1976 .

وترتب على تصفية الوفد أن فقدت مصر مدرسة الاستقلال الوطني بمعناها الشعبي، ثم ترتب على تصفية ثورة 23 يوليو أن فقدت مصر مدرسة الاستقلال الوطني بمعناها المتمثل في جهاز الدولة الرسمية ذاتها .

أطفأت ثورة 23 يوليو روح الاستقلال الوطني في الوعي الشعبي حين حطمت التجربة الديمقراطية ثم حين حطمت الوفد ثم حين أسست الحكم الفردي المطلق .

وأطفأت هزيمة 5 يونيو 1967 روح التجربة الناصرية بما هي امتداد عالي الصوت وواسع الانتشار لتراث الوطنية المصرية الذي راكمه المصريون منذ الثورة العرابية  1881 – 1882، ثم مرورا بثورة 1919، ثم وصولا إلى ثورة 23 يوليو 1952، هذا التراث تبلور حول أن مصر للمصريين، وأن الاستقلال الناجز هو جوهر فكرة الوطنية، وأن هذا الاستقلال يتعذر وجوده مع وجود الاحتلال، وأن جلاء الاحتلال بصفاته العسكرية والمدنية لا خلاف عليه بين المصريين سواء المعتدلين منهم والمتشددين، ومن كان منهم على غير ذلك فإنه كان يخاطر بوضع نفسه خارج نطاق الوطنية المصرية .

………………….

وزير الخارجية الوفدي العظيم كان صورة مبكرة من جمال عبدالناصر، وكان جمال عبدالناصر صورة متطورة من الوزير صلاح الدين، كذلك كان التيار الوفدي المستقيم هو الأب الشرعي لثورة 23 يوليو 1952م، وكانت ثورة 23 يوليو 1952 امتدادا وإحياءَ وتجديدا للروح الوفدية فيما يخص الاستقلال والجلاء ورفض القواعد الأجنبية ورفض الأحلاف العسكرية ورفض الاعتراف بإسرائيل، حتى مسألة الاستفتاء على حق السودان في الاستقلال عن مصر أو الوحدة معها لا يعود إلى ثورة 23 يوليو كما يتهمها البعض أنها فرطت في السودان وإنما يعود إلى الوزير العظيم صلاح الدين في حكومة الوفد الأخيرة قبل حريق القاهرة قي 26 يناير 1956  .

والفارق الوحيد، ولكنه فارق مهم وخطير، بين صلاح الدين وناصر، ثم بين الوفد وثورة 23 يوليو، هو ديمقراطية صلاح الدين والوفد في مقابل ديكتاتورية عبدالناصر وثورة 23 يوليو .

ومثلما كان حريق القاهرة 26 يناير 1952 مقدمة لتصفية صلاح الدين والوفد، كانت هزيمة 5 يونيو 1967 مقدمة لتصفية عبدالناصر وثورة 23 يوليو .

كان ظن القوى الاستعمارية أن تصفية الوفد وتمهيد الأرض أمام صعود الضباط الأحرار كفيل بأمرين: التخلص من خصم عنيد هو الوفد، ثم كسب حليف ناشئ تنقصه الخبرة ويحتاج الدعم والإسناد هو ثورة 23 يوليو، لكن خاب الظن، فكما ظل في الوفد روح من الصلابة الوطنية المجاهدة حتى اللحظة الأخيرة من تحطيمه بقرار إلغاء الأحزاب في يناير 1953 يعني بعد عام واحد فقط من حريق القاهرة وبعد ستة أشهر من قيام ثورة يوليو، كذلك رغم ما تعرضت له الناصرية من انتكاسات في سنوات ما قبل الهزيمة فإنها حافظت حتى النزع الأخير على روح وطنية وقومية شريفة القصد .

كان خطأ المدرسة الوفدية في ثلاثة أمور :

–  أولهما أنها ظلت تحتفظ بقيادة مصطفى النحاس -رغم عظمته- ثلاثة عقود كانت مصر والمنطقة والعالم تغيرت خلالها عدة مرات .

– ثم ثانيها أنها لم تصعد للقيادة عنصرا واعدا مثل الوزير صلاح الدين بينما فتحت الباب لصعود عناصر كانت خصما من رصيد الوفد .

– ثم ثالثها أنها ظلت أسيرة للشرعية الملكية ولم تفكر في إسقاطها وإزاحتها بالكلية .

كل ذلك انتهى بالمدرسة الوفدية لفقدان الرصيد الأكبر من تأثيرها سواء في مواجهة الاحتلال أو في كسب ثقة الشعب .

وكان خطأ الناصرية في ثلاثة أمور :

– أولها أنها ألغت الشعب تماما من المعادلة الوطنية وجعلت منه مجرد رعية خاضعة لا أكثر .

– ثانيها أنها اختزلت كل السلطات في شخص الرئيس .

– ثالثها أنها أفسحت لأجهزة الأمن والإدارة لتكون حاجزا بين الشعب والحرية.

كل ذلك انتهى بالناصرية لتخرج من فشل الوحدة مع سوريا 1961 إلى فشل الحرب في اليمن 1966 إلى الهزيمة الكبرى قي 5 يونيو 1967، ثلاث هزائم كبرى في سنوات معدودة، تحطمت معها روح الناصرية وما رفعته من مثل عليا ومبادئ .

…………………..

عندما قال الرئيس أنور السادات إن حرب أكتوبر هي آخر الحروب وغقد سلاما مع إسرائيل وأعلن مبدأه الأشهر أن “99 في المائة من أوراق الشرق الأوسط في يد أمريكا”، عندما قال ثم أعلن ثم فعل ذلك، كان قد وضع نهاية لمدرسة الوطنية المصرية المستقيمة التي شادها وبناها كفاح الوفد وورثتها عنها وقاتلت دونها ثورة 23 يوليو، وفي مقابل ذلك فإن الرئيس السادات بما قال وبما أعلن وبما فعل فتح مسارا لتسود وتهيمن مدارس الاعتدال الوطني التي لم تمانع في التعاون مع الاحتلال، ثم لم تمانع في قبول مبدأ الأحلاف العسكرية، ثم كان لديها استعداد للتفاهم حول مقترحات القواعد الأجنبية، ثم في نهاية المطاف لم يكن لديها مانع للصلح مع إسرائيل .

لكن -في كل الأحوال- يظل الرئيس السادات 1918- 1981 هو ابن الوطنية المصرية بما فيها من تشدد وتساهل وبما فيها من تطرف واعتدال، هو فقط، ودون أن يدري ردم على تاريخ وشق الأرض عن تاريخ مضاد، عنده انتهت مدارس الاستقلال بشكلها التقليدي وفديا كان أم ناصريا، ومن عنده بدأت تنزاح الحواجز بين الوطنية والتعاون مع الغرب كما تنزاح الحواجز بين الوطنية والاعتراف ثم الصلح ثم تطبيع العلاقات مع إسرائيل .

دون أن يدري، ودون أن يقصد، فتح الرئيس أنور السادات لتصفية تدريجية بطيئة للمسألة الفلسطينية، ثم دون أن يقصد، ودون أن يدري فتح الباب لرفع الحرج عن احتماء الدول العربية ذات الضعف وذات الحاجة بإسرائيل، وساعد دون أن يقصد ودون أن يدري في نقل قيادة المنطقة من مصر إلى إسرائيل .

حتى هذه اللحظة، يبدو أن مدرسة السادات تشق طريقها بنجاح، إذ تعيد بعض الأطراف العربية اكتشافها والانطلاق منها والبناء عليها، نجحت في إخفاء ما قرره الوزير محمد صلاح الدين حين قال: “إسرائيل شوكة في جنب مصر” وتغافل عن حقيقة أن مصر تعرضت للغزو العسكري الإسرائيلي مرتين وأن إسرائيل نجحت في احتلال كامل سيناء مرتين .

باختصار شديد: برفع الأعلام الإسرائيلية فوق سفارة بالقاهرة، وبرفع الأعلام المصرية فوق سفارة مصرية في تل أبيب، بهذا وذاك رفع عن إسرائيل الحرج في دخول المزيد من عواصم العرب، كما رفع الملام عمن له مصلحة من العرب في الصلح والتطبيع والتحالف مع إسرائيل .

…………………

أثر الوزير محمد صلاح الدين في الوطنية المصرية أكبر من شهرته، فهو من القلائل الذين جمعوا بين العلم والثقافة والخبرة والاحتراف والنزاهة والنظافة والشرف، كان من شباب ثورة 1919، واقترب من سعد زغلول، وسعد زغلول هو من نصحه بالتدريب على المحاماة في مكتب مصطفى النحاس، وكان محل ثقة النحاس، وشارك من مواقع مختلفة في كل المفاوضات التي أجراها الوفد مع الإنجليز، ولم يتورط في فساد مالي أو أخلاقي من أي نوع ولا بأي مقدار، وكان ممن استقبلوا ثورة 23 يوليو بالترحيب، والثورة عاملته باحترام وتقدير، ولكنها لم تلبث أن انزعجت منه -بحكم نزوعها الديكتاتوري- واعتقلته ليقضي في السجن خمسة عشر عاما ظلما وعدوانا في واحدة من الخطايا التي لا تغتفر للرئيس عبدالناصر .

أثر صلاح الدين كان حاسما في لحظة مفصلية بين حقبتين وعهدين  :

– فخروج الوفد من شرنقة الوطنية المصرية إلى آفاق القومية العربية كان وراءه الوزير محمد صلاح الدين .

– ورفض الانتقال من قبضة مستعمر قديم إلى قبضة مستعمر جديد كان وراءها الوزير محمد صلاح الدين .

– تحويل الجامعة العربية من أداة في يد بريطانيا إلى مشروع عربي كان وراءه الوزير محمد صلاح الدين .

– رفض مصر التصفية المبكرة للقضية الفلسطينية كان يقف وراءه الوزير محمد صلاح الدين .

– رفض الانضواء تحت الأحلاف العسكرية على أساس أنه احتلال مقنع كان يقف وراءه الوزير محمد صلاح الدين .

– مد مصر يد المساعدة للشعوب العربية التي تكافح الاستعمار كان يقف وراءه الوزير محمد صلاح الدين .

لقد كان الوزير صلاح الدين من أعظم من أنجبت مصر في القرن العشرين وكان عليه أن يدفع ثمن طهارته عدة مرات :

– دفعه وهو يفاوض الإنجليز ثم تتصل من وراء ظهره العناصر المتهاونة في قيادة الوفد لتقول للإنجليز إن تشدد صلاح الدين لا يمثلهم ولا يعبر عنهم كقوى تفاهم واعتدال .

– ثم دفع الثمن باعتقال ظالم خمسة عشر عاما بتهمة التآمر على نظام الحكم حتى تقنع ثورة 23 يوليو نفسها أنها -وليست صلاح الدين والوفد- من أسس كل مبادئ الاستقلال الوطني والتحرر القومي .

باختصار شديد: اجتمعت ضد كل الأطراف من المعتدلين في قيادة الوفد، إلى الإنجليز، إلى الإسرئيليين، إلى الأمريكان، ثم ثورة 23 يوليو 1952 التي كانت مخلب القط فانتقمت منه بالإنابة عن الجميع وأودعته غياهب السجون .

………………..

كانت المفاوضات التي أدارها عن مصر الوزير محمد صلاح الدين هي الأصعب منذ شقت ثورة 1919 طريق المفازضات من سعد زغلول – ملنر 1920، ذلك لعدة أسباب :

– أولها أن الخطر السوفيتي جعل الإنجليز أقل استعدادا للتفاوض على فكرة الجلاء ورأوا أنه ليس الموضوع الأهم وأن الموضوع الأهم هو حماية مصر من الخطر الشيوعي .

– وثانيها أن الإنجليز لم يعودوا وحدهم لكن بات معهم الحلفاء الغربيون الذين خرجوا منتصرين من الحرب العالمية الثانية وفي مقدمتهم أمريكا رأس حربة الاستعمار الجديد .

–  وثالثها أن وضع مصر لم يعد -في نظرهم- مشكلة احتلال واستفلال وأنما باتت مصر -في وجهة نظره – قلب الصراعات العالمية المقبلة بما يحتم بقاءها في الحلف الغربي .

– ورابعها أن ما يستطيع الإنجليز تقديمه لمصر ليس جلاء قواتهم عنها وإنما الدفاع عنها ضد أي خطر سوفيتي .

وخامسها وهو الأخطر: أن ثمن جلاء القوات البريطانية هو الصلح مع إسرائيل .

وكانت بصيرة الوزير محمد صلاح الدين من الاستنارة بحيث فهم أن كل ماسبق له معنيان :

1 – أن المعروض على مصر هو إحلال احتلال غربي أوروبي – أمريكي شامل محل احتلال إنجليزي فرداني .

2 – فقدان مصر دورها الإقليمي لصالح إسرائيل .

……………….

كيف واجه صلاح الدين فكرتي التسليم للأحلاف الغربية والتسليم لإسرائيل ؟

الجواب في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله .