آراء لأبرز الخبراء الروس عن مسار “العملية العسكرية الخاصة” أو “الحرب” في أوكرانيا. وكذا عن المواجهة بين روسيا والتحالف الأطلسي نشرها مركز الدراسات العربية الأوراسية وجمعتها “وحدة الدراسات الروسية”. وذلك لطرح تصور عما يدور في الداخل الروسي من نقاشات حول المسار القادم لروسيا في صراعها مع الغرب.
ويضم التقرير رأيَي فيودور لوكيانوڤ تحدث مدير الأبحاث في نادي ڤالداي الدولي، ورئيس تحرير مجلة روسيا في الشؤون العالمية. وديمتري ترينين -أستاذ العلوم السياسية ديمتري ترينين مدير مركز كارنيغي موسكو وعضو مجلس السياسة الخارجية والدفاعية الروسي.
وتحت عنوان “روسيا والغرب.. تجربة ثلاثين عامًا” قال فيودور لوكيانوڤ بأن بدء الحرب بهذا الشكل “شكّل مفاجأة له ولكثيرين رغم توقع حدوثها”. ولكن لم يكن يتخيل أن تكون موسعة إلى هذا الحد، فهذه الحرب برأيه بمنزلة “نهاية لتجربة ثلاثين عامًا من النضال الروسي في محاولة الاندماج مع النظام العالمي المتمركز حول الغرب. وأنها ستخلق تغييرًا لا رجعة فيه. وبشكل جذري في الداخل الروسي”.
عقوبات غير متوقعة على روسيا
ويعتقد لوكيانوڤ أن العقوبات على روسيا “فاقت جميع التوقعات لدى الكرملين وتعد الأكبر في التاريخ”. وأكد أن العقوبات أوضحت مدى الاشتباك في المصالح بشأن الطاقة والمصارف بين روسيا والغرب. وهو ما سيرتد بالسلب على العولمة”.
“لن يعود العالم إلى العولمة التي اعتدناها جميعًا”. يقول “لوكيانوف” مضيفا: لدينا فرصة لأخذ مكان أكثر فائدة في النظام السياسي العالمي. لأنه في النظام الذي كان من قبل -الذي أُنشِئ دون مشاركتنا- فقدنا اللحظة.
العلاقة مع الصين
يرى لوكيانوف أن العلاقات مع اللاعبين الآسيويين ستساعد روسيا إذا أمكن بناؤها بناءً صحيحًا. لكن هذه مهمة صعبة. ويعود ذلك إلى أسباب أولها حالة التنافس والمواجهة بين اللاعبين الآسيويين. وأضاف: “كنا دائمًا أكثر قدرة على إدارة تناقضاتنا مع أوروبا والغرب أكثر من الشرق. ولدينا خبرة أقل بكثير في هذه المنطقة. لأنها لم تكن مركزية على الإطلاق للسياسة الروسية. والآن أصبحت في المقدمة”.
وتابع أن من بين أسباب صعوبة التقارب مع آسيا أن روسيا “أصبحت تعتمد بشدة على الصين. هذا يعني أنه في مسائل التفاعل مع الآسيويين الآخرين ستكون أفعالنا مقيدة. ولأن الصين لا تحتاج إلى وجود منافس جديد في آسيا فإن الصين مهتمة مثلا بألا نبيع أسلحة للهند. كذلك فإن العلاقات مع آسيا يمكن أن تساعد بالطبع على تجاوز بعض العقوبات. لكنها لن تحل مشكلاتنا”.
يؤكد لوكيانوف على التفوق الأوروبي الأمريكي بميزة تكنولوجية كبيرة عن الهند والصين. وألمح إلى أن الصين والهند لن تنقلبا على الأمريكيين إذا قررت واشنطن اتخاذ إجراءات ضدهما إذا خرقتا العقوبات على روسيا. متوقعا أن روسيا ستتغير. ويكاد يكون من المستحيل التنبؤ بما ستؤول إليه أوضاعها. لكن على الأقل يمكن للمرء أن يحاول. يبدو أن الثنائية القطبية لن تتحقق. ولا مجال لها -حسب قوله- سيكون هناك كثير من اللاعبين الدوليين الذين يتصرفون بطريقة ما ويؤثرون على الوضع العالمي. لكن في المقابل من المنطقي افتراض وجود قطبية ثنائية. لأن الأمريكيين يجمعون حلفاءهم معًا. بما في ذلك إعادة إنشاء آليات الحرب الباردة بما في ذلك العسكرة ونشر القوات في أوروبا. كما أن الصين تظهر مزيدًا من الدلائل على أنها “لن تعقد أي صفقات مع الأمريكيين”. وهذا يعني أن الصين ستستمر في الوجود بشكل منفصل. وفي ظل حقيقة أن روسيا الآن -بصراحة- ضعيفة فإن دولًا أخرى سوف تتقارب وتقترن بالصين.
ماذا لو فازت روسيا أو هُزمت؟
في هذه الحالة -حسب لوكيانوف- سيكون من الممكن التصرف بشكل صحيح لاتخاذ أفضل المواقف. مضيفا: “تحقيق روسيا لأهدافها في أوكرانيا سيناريو متفائل. ولو حدث سيكون هناك رد فعل قوي سيتطلب إعادة هيكلة كبيرة في العلاقات الدولية التي ما زالت متمحورة حول الغرب. ما سيتيح لروسيا هامشًا واسعًا للمناورة. أما السيناريو المتشائم فهو عدم تحقيق الأهداف المحددة في أوكرانيا بعد أن تعرضت روسيا لكل هذه الأضرار الكبرى في الاقتصاد والسمعة. ما يهدد بحدوث تغييرات داخلية وخارجية غير قابلة للسيطرة.
إنه الجيوبوليتيك يا غبي
تحت هذا العنوان كتب ديمتري ترينين عن النسخة الجديدة من سياسات الاتحاد الروسي. فقد انقلبت مقولة “إنه الاقتصاد يا غبي” إلى “نه الجيوبوليتيك يا غبي!”.
وقال ترينين: لقد شكل يوم 24 فبراير 2022 -بدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا- مرحلة جديدة في التاريخ الروسي. فعلاقات روسيا مع الغرب دُمرت بالكامل الآن. فالغرب بات يهدد بتحويل روسيا إلى دولة “منبوذة دوليًّا”. محاول التأثير في المجتمع الروسي بعزله عن العالم الخارجي. وهو أمر سيستمر مدة طويلة حتى لو تم التوصل إلى حل بين الطرفين.
استبدال الأقلمة بالعولمة
الآن تقترب روسيا والصين -حسب ترينين- لتشكيل تحالفات قوى عظمى جديدة في العالم. تتعارض بعضها مع بعض بشأن أهم قضايا النظام العالمي والقيم الأساسية. ليتم استبدال الأقلمة بالعولمة. وينقسم العالم إلى تكتلات عسكرية سياسية ومالية واقتصادية وتكنولوجية متعارضة. فالصيغة المعروفة منذ ثلاثين عاما انقلبت رأسًا على عقب. وباتت “الجيوبوليتيك يا غبي” -أي لم يعد الاقتصاد وحده هو من يحرك السياسة بل الجيوبوليتيك.
ويرى ترينين ضرورة “إعادة إصدار نسخة جديدة من سياسات الاتحاد الروسي”. متمثلا في التدابير الحكومية في تعبئة جميع الموارد المتاحة والتوسع الأقصى للحريات الاقتصادية داخل البلاد. مع دعم الشرائح الضعيفة اجتماعيًّا من السكان. لكن بعيدا عن هذه الإجراءات العاجلة فالبلد بحاجة إلى تغييرات جوهرية: “سد القنوات التي تغذي الفساد. إعادة توجيه الشركات الكبرى نحو المصالح الوطنية. انتهاج سياسة وظيفية جديدة لتحسين جودة الإدارة العامة بشكل كبير على جميع المستويات. تبني سياسة تكافل اجتماعي حقيقية. عودة القيم الأساسية -وليس النقدية- كأساس للحياة”.
هذه التغييرات -حسب ترينين- من المتعذر حدوثها دون التغلب على العناصر المتبقية من رأسمالية الأوليغارشية في الخارج. والتناوب الواسع النطاق في المراكز القيادية للدولة. وتحسين النخبة الحاكمة. مؤكدا أن أهم جبهة للمواجهة هي في الأساس داخل روسيا. إذ يمكن التغلب على التحديات الخارجية بشرط “تطهير الذات”.
وأكد ضرورة تعامل الدولة مع المواطنين تعاملًا مختلفًا ليصبحوا مواطنين بالمعنى الكامل للكلمة. وتحديد كيفية حصول كل إنسان روسي على أهدافه وطموحاته: “وإلا فنحن نكذب على الآخرين وعلى أنفسنا”.
وتابع: “لدينا فرصة الآن. فالدولة الروسية لا يمكن قهرها عمليًّا من الخارج. لكنها تنهار على الأرض من الداخل عندما يصاب عدد كبير من الشعب بخيبة أمل في حكامهم والنظام الاجتماعي الظالم أو المختل وظيفيًّا”.
الانتقال من المواجهة إلى الحرب الهجينة
في السياسة الخارجية لروسيا حدث انتقال من “المواجهة” مع الغرب الجماعي. والتي بدأت عام 2014. إلى حرب هجينة نشطة معه.
هذه الحرب الهجينة -حسب ترينين- اتخذت طابعًا حادًا بما في ذلك النزاعات المسلحة. والحرب الهجينة هي شكل حاد من أشكال النضال من أجل نظام عالمي جديد.
وأوضح: “الانتقال من المواجهة إلى الحرب الهجينة يعني أن زمن المناورات ومحاولات إقناع الشركاء أو الزملاء قد انتهى. واستبدلت بالمواجهة اللزجة معهم مواجهة حادة. انتقل تدهور العلاقات على مدى العقدين الماضيين من فجوة القيمة المزعومة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى فقدان الثقة بالعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وعداء مفتوح في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. الولايات المتحدة وحلفاؤها ليسوا الآن خصومًا لروسيا لكنهم معادون لروسيا”.
الأهداف المتعارضة بين موسكو والغرب
يوضح ترينين أن أهداف الطرفين المتعارضين هي الأكثر حسمًا الآن من العلاقة فيما بينهما. بالنسبة إلى الغرب بقيادة واشنطن فإن الهدف الرئيسي ليس فقط تغيير النظام السياسي في روسيا. ولكن أيضًا القضاء على روسيا ككيان مستقل كبير على المسرح العالمي. ومن الناحية المثالية حبس روسيا في صراعات وتناقضات داخلية. أما بالنسبة لروسيا فالهدف الرئيسي هو أن تصبح مكتفية ذاتيًّا ومستقلة عن الغرب اقتصاديا وتكنولوجيا. وأن تصبح أحد مراكز وقادة النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب. هذه الأهداف لا تترك مجالًا للتسوية الاستراتيجية.
علاقات روسيا المعقدة مع آسيا
وعن علاقات روسيا مع أكبر قوتين في آسيا -الصين والهند- يقول ترينين إن لها أهمية استراتيجية كبرى.
وتابع: “بفضل التطور التدريجي للعلاقات الروسية-الصينية على مدى العقود الثلاثة الماضية أصبحت الشراكة بين موسكو وبكين عالية بشكل غير مسبوق. تؤدي المواجهة الحادة بين الولايات المتحدة وروسيا فضلًا عن المواجهة المتزايدة بين أمريكا والصين إلى نوع جديد من التحالف الذي يمكن تسميته تحالفًا (بلا حدود)”. أي دون التزامات صارمة بين روسيا والصين -بحسب ترينين.
أما العلاقات الروسية-الهندية فقائمة على تقاليد قديمة من الصداقة والتعاطف المتبادل. فنمو أهمية ودور الهند في العالم يصب في مصلحة روسيا وزيادة القوة الاقتصادية للهند وتطورها التكنولوجي يوسع من إمكانات التفاعل مع روسيا.
لكن التناقضات بين نيودلهي وبكين وكذلك التقارب السياسي والاقتصادي بين الهند والولايات المتحدة والتعاون الوثيق بين الاتحاد الروسي والصين تشكل تحديًا خطيرًا للعلاقات الروسية الهندية.
الاتجاه نحو المنظمات غير الغربية
تهيمن الولايات المتحدة وحلفاؤها على معظم المنظمات الدولية التي تشارك فيها روسيا. ومن الأمثلة النموذجية منظمة حظر الأسلحة الكيميائية ومجلس أوروبا.
وهنا يقول ترينين إن خروج الاتحاد الروسي من مجلس أوروبا خطوة طال انتظارها. حتى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. التي نشأت في زمن الاتحاد السوڤييتي. تخضع للتأثير الحاسم للدول الغربية. الاستثناء هو الأمم المتحدة. حيث تتمتع روسيا بعضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي وحق النقض.
وهنا ومن خلال اتخاذ موقف نشط في الأمم المتحدة ومؤسساتها فمن المنطقي لموسكو التركيز أكثر على منظمات الدول غير الغربية- البريكس. ومنظمة شنغهاي للتعاون. فضلًا عن المنظمات التي تؤدي فيها روسيا دورًا رائدًا -الاتحاد الاقتصادي الأوراسي- ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي.
على كل هذه المنصات من الضروري تطوير وتعزيز الأجندة العالمية التي تم تحديد الخطوط العريضة لها في البيان الروسي- الصيني المشترك. الذي صدر في 4 فبراير 2022.
أولوية السياسة الخارجية الروسية
أولويات روسيا خارجيا -حسب ترينين- هي: الردع الاستراتيجي للخصم -الولايات المتحدة والناتو- وتجنب الانزلاق إلى حرب نووية.
وأضاف: “خلق ظروف مواتية للتنمية الذاتية لروسيا بالاعتماد على الموارد الداخلية. بالإضافة إلى تطوير التنسيق والتفاعل الوثيقين مع الحليف الرئيسي للاتحاد الروسي -دولة بيلاروس- وتطوير التكامل الاقتصادي وتعزيز التعاون العسكري مع دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ودول منظمة معاهدة الأمن الجماعي. فضلا عن زيادة توسيع مجالات التفاعل العملي للاتحاد الروسي- الصين والهند. والتطوير الفعال للعلاقات مع تركيا وإيران ودول أخرى في آسيا وأمريكا اللاتينية. فيما أفريقيا لم تنضم بعد إلى نظام العقوبات على روسيا.
ما الذي تبقى من أوجه التعاون الأمريكي-الروسي؟
يقول ترينين إنه رغم التدهور الذي يبدو لا رجعة فيه في العلاقات مع الولايات المتحدة. فإن أمر الحفاظ على حالة استقرار استراتيجي بينهما مهم.
العلاقة الروسية-الأوكرانية ما بعد الحرب
بعد انتهاء الصراع مع أوكرانيا من الضروري أن تهتم السياسة الخارجية الروسية بتكوين علاقات جديدة بين البلدين. مع استبعاد تحول أوكرانيا إلى تهديد لأمن روسيا.
وأضاف: الهدف الواعد هو تشكيل واقع جيوسياسي جديد في شرق أوروبا على أساس العلاقات الودية بين روسيا وبيلاروس وجمهوريات الدونباس. فضلًا عن العلاقات المقبولة لدى الاتحاد الروسي مع أوكرانيا. كذلك من الضروري إعادة توزيع الموارد الدبلوماسية لروسيا من الغرب إلى الشرق والجنوب. بدءًا من دول رابطة الدول المستقلة المجاورة. حيث من الواضح أن نشاط السياسة الخارجية لروسيا وفاعليتها غير كافيين.
العودة إلى الفكرة الروسية
وينصح ترينين بأنه من الضروري تحويل مركزية المعلومات والدعاية السياسية الخارجية من الدول الغربية. حيث تم تشكيل إجماع قوي مناهض لروسيا في المجتمعات. إلى الدول غير الغربية. وتطوير حوارات هادفة ومحترمة في المقام الأول مع مجتمعات الدول التي اتخذت موقفًا محايدًا في الحرب العالمية الهجينة على روسيا.
وأكد الحاجة إلى صياغة فكرة إرشادية جديدة للسياسة الخارجية لروسيا في القرن الحادي والعشرين. فالبراجماتية كاستراتيجية في الظروف الحالية لم تعد مقبولة: “نحتاج إلى فكرة روسية حديثة المظهر. تستند إلى قيم عضوية لشعب روسيا. وتتضمن أهدافا كسيادة الدول وعدم قابلية الأمن الدولي للتجزئة. والعدالة على أساس القانون والتنمية المشتركة وحفاظ التنوع الثقافي”.