من الأكاذيب وقنابل الدخان الاستراتيجية شديدة المكر التي تم الترويج لها من النخبة السياسية والإعلامية الأمريكية وانتشرت بعد ذلك وكأنها حقيقة! أن الولايات المتحدة انسحبت من الشرق الأوسط وأن المنطقة لم تعد أولوية متقدمة من أولويات سياستها الكونية وأنها لم تعد تعطي لهيمنتها شبه المطلقة على هذه البقعة  الحيوية من العالم ما باتت تعطيه لصراعها مع روسيا في أوروبا، وتاليا مع الصين في آسيا والمحيط الهادئ، وأن واشنطن تنوي ترك الشرق الأوسط  في حالة فوضى نهبا للقوى الدولية والإقليمية الأخرى لتملأ الفراغ الذي ستتركه، وأنها تخلت عن ضمان أمن حلفائها التقليديين  خاصة في دول الخليج والأردن، كما ضمنته وصانت النظم والأسر الحاكمة فيه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على مدى يزيد عن 75 عاما  .

صحيح أن التقييم الاستراتيجي الأمريكي تحول في اتجاه أن الخطرين الحقيقيين على استمرار هيمنة البيت الأبيض قطبا وحيدا على العالم إنما هو التهديد الصيني والتهديد الروسي. ولكن بسبب هذا التقييم نفسه فإنه لا أمل لأمريكا في مواجهة هذا التهديد ومنع منافسة بكين وموسكو لها في إدارة شؤون العالم إلا باستمرار هيمنتها على الشرق الأوسط والعالم العربي في قلبه حيث الموقع الفريد الذي يسيطر على أهم  وأقصر طرق  الملاحة والتجارة الدولية وتحركات الأساطيل وحاملات الطائرات والصواريخ الباليستية، وحيث المصدر الأساسي لامدادات الطاقة الأحفورية من النفط والغاز في العالم .

إذن ما الذي تغير فعليا؟

ما تغير فقط هو طريقة أمريكا في الاحتفاظ بالمنطقة في قبضتها، فمع إدراك الأمريكيين أن عليهم أن يركزوا على أوروبا لحصار روسيا وتقزيمها، وعلى المحيط الهادئ وآسيا لمنع تطور المشاركة الصينية الاقتصادية لها إلى مشاركة سياسية في القيادة العالمية، قررت واشنطن أن تستمر سيطرتها على منطقتنا المنكوبة عبر «وكيل» أو «مقاول فرعي» تثق في ولائه، أي أن يكون مربوطا بها في دورة حياته ارتباط الجنين بأمه وتثق في قدراته المخابراتية والعسكرية والتكنولوجية المتقدمة إلى مستوى قريب من مستويات الغرب.

وتنطبق هذه الشروط انطباقا تاما على إسرائيل، مع إمكانية أن تلعب تركيا دورا ثانويا في العمل كقوة إقليمية تالية لإسرائيل في وظيفة إبقاء الشرق الأوسط تحت العلم الأمريكي كما هو الحال  في الـ48 عاما الأخيرة. يمكن هنا ملاحظة التحسن الصاروخي في العلاقات التركية الإسرائيلية في الفترة الأخيرة، بعد مدة من العداء المصطنع.

كان الحائل الوحيد هو كيف يمكن تحويل دول العالم العربي خاصة الدول الحليفة لأمريكا في الخليج -صاحبة الدور الهام في إمدادات الطاقة وودائع واستثمارات البترودولار- إلى قبول قيادة إسرائيل الإقليمية للمنطقة وكيلا عن الأمريكيين بما في ذلك أن تقوم بجزء رئيسي وليس كل المهام في ضمان أمن هذه الدول، والتي كانت تقوم بها كلها الولايات المتحدة، هنا ظهرت اتفاقات «إبراهام» التي شملت رسميا الإمارات والبحرين والمغرب وعمليا السودان وكردستان العراق .

هذه الكذبة أو الخديعة الاستراتيجية باتت أساسا للمقولة السائدة التي تمارس دجلا يزعم أن أمريكا تخلت عن المنطقة ونبذت حلفاءها وتركتهم أمام التهديد الإيراني “النووي” والتدخل عن طريق الأقليات الشيعية في دول الخليج وعن طريق حوثيي اليمن في الجزيرة العربية، وأنه لا حل أمام هؤلاء لصيانة أمنهم ونظم حكمهم إلا الاستعانة باسرائيل في حلف أمني عسكري تقوم فيه إسرائيل بدور المزود بالمعلومات الاستخبارية وتنسيق وقيادة المواجهة الشاملة مع إيران وحماية الضفة العربية من الخليج من العدو الفارسي !

تكشف التقارير الإسرائيلية الرسمية وشبه الرسمية عن أن ما عرفت بـ«قمة النقب»  هذا الأسبوع ليست إلا بداية لمنتدى إقليمي أمني استراتيجي دوري ومستمر لن يقتصر على من حضر، بل سيتحول لناد مفتوح تحت الإشراف الأمريكي لأعضاء آخرين سينقلون إسرائيل وعلاقتها السرية بهم من وضع العشيقة إلى وضع الزوجة الشرعية كما تتباهى الآن المصادر الإسرائيلية (لاحظ حضور وزير الخارجية الأمريكي اللافت كشاهد على عقد توقيع المنتدى) لمواجهة التهديد الإيراني “النووي” الذي لم يتم أصلا، والتهديد “التقليدي” عن طريق وكلائها في المنطقة .

لم يقتصر الوصف الإسرائيلي- الأمريكي لوكلاء إيران الإقليمين على الحوثيين بل امتد لحزب الله اللبناني وكل من منظمتي الجهاد وحماس الفلسطينيتين. وهذا يعني أن دول الخليج -في التصور الإسرائيلي- عليها أن تدفع مقابل الحماية الإسرائيلية من التهديدات الإيرانية الحقيقية أو المزعومة دعما معنويا وماليا لإسرائيل لكي تحقق ما عجزت عنه وحدها سنوات من سحق المقاومة وكسر شوكتها في فلسطين المحتلة ولبنان.

التوقيت؟

هو العنصر الحاسم في إتمام عقد الزواج (الخليجي- الإسرائيلي)  بحسب التعبيرات القادمة من المصادر والصحافة العبرية، ويتمثل هذا التوقيت في تشابك تطورين مهمين هما قرب إتمام الاتفاق مع إيران الهادف لمنع تحول برنامجها النووي إلى برنامج عسكري مقابل رفع العقوبات وتطورات الأزمة الأوكرانية ورغبة واشنطن في تحويلها لهزيمة استراتيجية لروسيا تعيدها إلى مرحلة الانهيار والتقزم المهينة التي ذاقت موسكو مرارتها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وفي عهد  يلتسين .

الحدثان يقودان إلى الشرق الأوسط وإلى ضرورة إتمام الوكالة الإسرائيلية كقوة إقليمية عظمى تنوب عن واشنطن تماما كما نابت شركة الهند الشرقية ونائب الملك في نيودلهي عن الإمبراطورية البريطانية في حكم شبه القارة الهندية بأكملها وصياغة معظم التحالفات القبلية التي شكلت تدريجيا  ممالك ودول منطقة الخليج الحالية .

جزء مهم من نجاح واشنطن في مسعاها لهزيمة روسيا في الأزمة الأوكرانية هو إضعاف هيمنة موسكو على توريد الطاقة النفطية والغازية لأوروبا ولن يتم هذا سوى بإعادة سيطرتها على سوق النفط عبر إعادة تحالفها مع دول الخليج إلى سابق عهده بما في ذلك إقناعها بزيادة إنتاجها لتعويض النقص المتوقع في الصادرات الروسية لأوروبا، أيضا إفساح المجال لاحقا  لمزيد من إضعاف روسيا كمنتج ولمزيد من خفض فاتورة أسعار الطاقة الكبيرة على الدول الغربية في حال عودة إيران كمنتج كبير إلى سوق النفط إذا وقع الاتفاق النووي وتم رفع الحظر على بيع  بترولها .

جزء مهم أيضا هو قرب توقيع الاتفاق النووي، ويقود هذا التطور الأميريكيين إلى العمل بسرعة لوضع اسرائيل على رأس تجمع  من حلفائها في المنطقة. والهدف هو احتواء ومحاصرة إيران بنطاق إقليمي معاد يكبح جماح حضورها الإقليمي ويفهمها بوضوح أن الاتفاق ورفع العقوبات إذا حدثا ليس معناه مزيدا من التمدد الإقليمي، بل العكس أن الهدف هو منع تحول إيران لقوة نووية وإبقاء إسرائيل القوة النووية الوحيدة في المنطقة دون رادع وأن عليها التخلي عن نهج بسط النفوذ في سوريا والعراق واليمن والتخلي عن تسليحها للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية.

إن واشنطن أيضا وقد يئست تقريبا من تغيير نظام الجمهورية الإسلامية بالقوة على الأقل في المدى القصير فإنها لم تيأس تماما من استعادة الجوهرة الإيرانية التي فقدتها منذ سقوط شاه إيران عام 79.

إيران  هي الجائزة الكبرى في الشرق الأوسط التي عن طريق احتوائها بـ«عصا» حلف إقليمي و«جزرة» رفع العقوبات التي تأمل أمريكا أن تحصل عليها إما بتغيير سلوك النظام الإيراني أو بتغيير النظام من الداخل.

المتأمل لوضع إيران الجيوسياسي الفريد المجاور لروسيا ويقع على الطريق على الصين وحزامها الحريري يعرف كيف تخطط الولايات المتحدة صراعها المقبل مع الصين وصراعها الحالي مع روسيا عن طريق وكالة إقليمية إسرائيلية تحت إشرافها وتوجيهها، وكيف أن الدول العربية بدلا من الاستفادة من مساحات الحركة- التي يتيحها تراخي القبضة الأمريكية على العالم ومزاحمة قوى صاعدة لها -في المناورة  والحصول من هذا الطرف أو ذاك على أفضل شروط تناسب مصالحها الوطنية إذا بها تنزلق إلى سياسة محاور جديدة تحارب فيها أطرافا إقليمية أصيلة جيو سياسيا وحضاريا لحساب قوى دخيلة تلعب دورا وظيفيا لصالح قوى كبرى خارج المنطقة .

إذا سُمح لهذه الخديعة الاستراتيجية ودخانها الكثيف أن تُعمي العيون والبصائر وأن تتحقق عملية توكيل إسرائيل قائدا إقليميا ينوب عن الإمبراطور الأمريكي، فإن هذه المنطقة لن تعرف استقرارا  ولا تنمية بل حروبا دموية، وسيتم حينها استبدال صراع حقيقي (عربي/ إسرائيلي) بصراع وهمي (عربي/ فارسي) ،و(سني/ شيعي) يفتح  باب جهنم على شعوبنا.