ألهمت الحرب الروسية في أوكرانيا ألمانيا لتشهد تحولًا جذريًا في سياستها الخارجية والدفاعية. فبعد عقود من التقليل إلى أدنى حد من الالتزامات فيما يتعلق بمسألة الدفاع في مقابل توسيع العلاقات التجارية مع موسكو، تعهدت برلين فجأة بتكثيف الإنفاق على الدفاع وتحديث سلاحها العسكري. وكذا تقديم المساعدة العسكرية لأوكرانيا، وتقليل اعتمادها على الطاقة الروسية.

وقد وصف المستشار الألماني أولاف شولتز، في جلسة خاصة يوم 27 فبراير/شباط، الغزو الروسي بأنه نقطة تحول بالنسبة لأوروبا. واعترافًا بالتحدي، تعهد شولتز بتجاوز هدف الإنفاق الخاص بحلف الناتو البالغ 2% من الناتج المحلي الإجمالي. كما التزم بإنشاء صندوق بقيمة 100 مليار يورو لتحديث الجيش الألماني المتعثر.

تحول ألمانيا عسكريًا.. دور أوروبي أكبر وترحيب أمريكي

تقول الباحثة الدكتورة دانييلا شفارتسر، في مقال بـ”فورين أفيرز“، إنه بين عشية وضحاها، أصبحت ميزانية الدفاع الألمانية المخطط لها الأكبر في أوروبا. وهو أمر أدى إلى تغيير كبير في ميزان القوى داخل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. كما أنه ينبئ بدور أكبر لبرلين.

وقد حاز التحول الألماني هذا ترحيب واشنطن. فعلى مدى سنوات، حثت الولايات المتحدة ألمانيا على تحمل المزيد من العبء الجماعي. ودفع كل من الرئيسين الأمريكيين دونالد ترامب وجو بايدن برلين للتخلي عن خط “نورد ستريم 2”. وهو خط أنابيب غاز مخطط بقيمة 11 مليار دولار بين ألمانيا وروسيا. ذلك قبل أن تتوصل إدارة بايدن إلى اتفاق مع ألمانيا الصيف الماضي، يسمح بالمضي قدمًا في المشروع دون فرض عقوبات أمريكية.

والواقع أن الغزو الروسي لأوكرانيا لم يدفع واشنطن وبرلين للتوصل إلى اتفاق بشأن “نورد ستريم 2″، الذي تم إيقافه الآن مؤقتًا. لكنه أزال بعض انعدام الثقة المتبادل الذي شهدته سنوات ترامب. والآن أصبحت واشنطن وبرلين أكثر ارتباطًا بكيفية التعامل مع روسيا. كما أنهما في وضع أفضل للتعاون في مواجهة التحديات الرئيسية الأخرى. بما في ذلك التهديد الوشيك الذي تشكله الصين.

لكن الخوف من عودة الولايات المتحدة إلى سياسة ترامب في عام 2024 لا يزال مسيطرًا على الأجواء في ألمانيا. ما يجعل قادة البلاد حذرين من الاعتماد على الولايات المتحدة.

تقول شفارتسر إنه يجب على كلا البلدين الاستثمار في جعل شراكتهما قوية بما يكفي لتدوم فترة رئاسة بايدن – بغض النظر عمن يخلفه.

عودة الولايات المتحدة إلى ألمانيا وأوروبا

لقد اندمجت ألمانيا على مدى العقود الماضية في التعددية الأوروبية. ودعم التزام برلين بالتكامل الأوروبي والتعاون عبر الأطلسي الصعود الاقتصادي لألمانيا ذاتها. وهو ما مكنها من أن تصبح رابع أكبر قوة في العالم والزعيم الاقتصادي لقارتها. لذا لم يكن مفاجئًا أن العلاقات الأمريكية مع ألمانيا عانت خلال رئاسة ترامب. حين حاولت الحكومة الألمانية الدفاع عن المنظمات الدولية من هجمات ترامب. حتى أنها تعاونت مع فرنسا في عام 2019 لإطلاق التحالف من أجل التعددية. وهي شبكة من 88 دولة ملتزمة بحماية الاتفاقيات والمؤسسات الدولية. كما أعدت ألمانيا كتابًا أبيض حول التعددية. لكنها لم تنشره إلا بعد أن تولى بايدن منصبًا.

ترى شفارتسر أنه لهذه الأسباب، تسبب فوز بايدن في عام 2020 بتنهيدة عميقة بشكل خاص في برلين. تقول: بعد فترة وجيزة من توليه منصبه، عاد بايدن إلى اتفاقية باريس للمناخ. كما انخرط من جديد في منظمة الصحة العالمية. وأيضًا تعهد بمبلغ 4 مليارات دولار لـ COVAX. تلك المبادرة العالمية للوصول إلى لقاح COVID-19.

وقد أعلن بايدن عن خطط لقمة الديمقراطية. وقال وزير خارجية ألمانيا آنذاك، هايكو ماس، في مايو 2021: مع عودة الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس بشأن تغير المناخ والمنتديات الرئيسية الأخرى للتعاون متعدد الأطراف، فإن الأساس لنظام عالمي قائم على القواعد وقيمه تحسن وتحسن معه المستقبل بشكل ملحوظ”.

عودة الولايات المتحدة لم ترض أوروبا بالشكل الكافي

لم يتنمر بايدن على ألمانيا لزيادة ميزانيتها، كما فعل ترامب. وقد ألغى الانسحاب المخطط للقوات الأمريكية من القواعد في ألمانيا. بينما أوضحت إدارته في وقت مبكر أنها تريد أن تلعب برلين دورًا أكبر في الدفاع الجماعي.

وكانت ألمانيا أشارت قبل الغزو الروسي لأوكرانيا إلى أنها لن تفي بالتزامات الإنفاق على الناتو لألمانيا بحلول عام 2024.

لقد اتسم التعاون الأمني ​​بين الولايات المتحدة وألمانيا بخيبة أمل خلال عام بايدن الأول. خاصة في أفغانستان. ففي وقت مبكر من رئاسة بايدن، كررت أنجريت كرامب كارينباور، وزيرة الدفاع الألمانية -في ذلك الوقت، علانيةً استعداد ألمانيا للبقاء في أفغانستان إلى جانب الولايات المتحدة. لكن بعد ذلك انسحبت إدارة بايدن في أغسطس/آب 2021. ما صدم القادة الألمان بالفشل في التنسيق معهم أو حتى تحذيرهم مسبقًا.

وبعد شهر واحد فقط، أذهلت ألمانيا (ومعظم أوروبا) بإعلان إدارة بايدن عن AUKUS. وهي شراكة جديدة مع أستراليا والمملكة المتحدة، كلفت فرنسا صفقة غواصات ذات أهمية استراتيجية. وهو أمر أظهر للأوروبيين حاجتهم لتعزيز التعاون الدفاعي مع بعضهم البعض. بما يجعل الصناعات الدفاعية الخاصة بهم أكثر تنافسية.

الطاقة التي وثقت علاقة روسيا وألمانيا

ظهرت روسيا كمنطقة أخرى من الاحتكاك بين واشنطن وبرلين قبل الحرب في أوكرانيا. إذ أنه رغم ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وثماني سنوات من الحرب في شرق أوكرانيا، كانت ألمانيا لا تزال تقيم علاقاتها مع موسكو على أساس أن العلاقات الاقتصادية الوثيقة ستضمن إقامة علاقة بناءة.

وكانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد وثقت في أن موسكو ستكون شريكًا جيدًا في مجال الطاقة. فاختارت عدم تقليل انغماس ألمانيا في الغاز الروسي.

وحتى مع اندلاع الحرب، رأى جزء من المؤسسة الألمانية أن ادعاء روسيا بمجال نفوذ في جوارها أمر مفهوم. ذلك طالما أن موسكو تتعاون مع الأوروبيين.

وقبل الغزو، جادل أعضاء هذا المعسكر، الذين يخلطون بين الروسوفوبيا ومعاداة أمريكا، بأن ألمانيا بحاجة إلى الحفاظ على العلاقات مع موسكو. وبالتالي لا ينبغي أن تتبنى موقف الولايات المتحدة المتشدد تجاه أوكرانيا وروسيا.

ثم جاء التعزيز الهائل للقوات الروسية في منطقة كونفيني الأوكرانية. فتبادلت الولايات المتحدة المعلومات الاستخباراتية مع حلفائها وشركائها الأوروبيين.

حينها أبلغت الصحف المحلية بخطط روسيا الحربية. وقد سعت واشنطن إلى تشكيل جبهة موحدة عبر الأطلسي ضد موسكو. فدفعت برلين على وجه الخصوص لتغيير موقفها الذي عفا عليه الزمن تجاه روسيا، كما تقول شفارتسر.

لماذا تحول الموقف الألماني تجاه روسيا؟

تضيف شفارتسر: في البداية، قاومت حكومة شولتز إجراءات مثل العقوبات التي كان يمكن أن تردع روسيا أو التي من شأنها أن تعزز أوكرانيا. بما في ذلك تسليم الأسلحة. وقد أثار هذا الموقف انتقادات من واشنطن ومن عواصم أوروبا الشرقية. ولكن بمجرد أن بدا هجومًا روسيًا وشيكًا، اتخذ الحاكم الألماني موقفًأ مغايرًا تمامًا.

وفي 22 فبراير/شباط، وبعد أن اعترفت روسيا رسميًا بالمنطقتين الانفصاليتين دونيتسك ولوهانسك، جمدت برلين خط نورد ستريم 2. بينما أعلن شولتز لاحقًا أن ألمانيا ستقلل اعتمادها على الطاقة في روسيا. كما وعدت حكومته بزيادة الإنفاق الدفاعي. وكذلك بدأت في تسليم أسلحة دفاعية إلى أوكرانيا. ذلك باستثناء اللوائح الألمانية التي تحظر تصدير الأسلحة إلى مناطق الصراع.

تفسر شفارتسر تحول ألمانيا بأنه يعني أن الولايات المتحدة سيكون لها شريك أوروبي أقوى في الدفاع. إذ لا تزال برلين ملتزمة تمامًا بالاتفاقيات المهمة. وأيضًا فإنها تنوي شراء طائرات مقاتلة أمريكية من طراز F-35. كما أنها ملتزمة بالمشاركة في الردع النووي.

ستلعب ألمانيا دورًا فعالًا في تعزيز التعاون الدفاعي الأوروبي. وقد حقق قفزة إلى الأمام هذا الأسبوع بمشروع “البوصلة الاستراتيجية” باعتماد وثيقة استراتيجية للاتحاد الأوروبي وخطة عمل لتعزيز التعاون الدفاعي الأوروبي، بالتنسيق مع الناتو.

التحدي الآخر من حيث القوة العظمى

مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، يتجه اهتمام الولايات المتحدة وألمانيا بشكل مفهوم إلى بوتين وروسيا. لكن التحدي الاستراتيجي الأكبر للولايات المتحدة وألمانيا (والاتحاد الأوروبي) يظل التعامل مع الصين، كما تقول شفارتسر. إذ أن الصين تظل بالنسبة للغرب شريكًا اقتصاديًا مهمًا، ومنافسًا منهجيًا. كما أنها محاور ضروري لإدارة المخاطر العالمية، مثل تغير المناخ والأوبئة.

عندما اتخذت الولايات المتحدة موقفًا أكثر تشددًا ضد بكين في عهد ترامب، وجدت نفسها على نحو متزايد بعيدة عن ألمانيا. خاصة مع زيارات ميركل المتكررة إلى الصين. لقد أقامت المستشارة السابقة علاقات تجارية عميقة مع بكين. وعندما تولت ألمانيا رئاسة الاتحاد الأوروبي، ضغطت من أجل صفقة استثمار بين الصين والاتحاد الأوروبي، عارضتها واشنطن.

إلا أن شولز غير هذه اللهجة الألمانية تجاه الصين. فلفت الانتباه إلى التهديد الذي تشكله بكين على النظام الدولي القائم على القواعد. ومثل الولايات المتحدة وبقية أوروبا، تسعى ألمانيا أيضًا إلى تقليل اعتمادها في سلسلة التوريد على الصين. مع الضغط من أجل قواعد عادلة للمنافسة والملكية الفكرية. ونتيجة لذلك، يبدو أن النهج الأمريكي والأوروبي المشترك تجاه الصين يبدو الآن أكثر قوة مما كان عليه قبل الوباء، كما تقول شفارتسر.

ومع ذلك، لن يتغير النموذج الاقتصادي الألماني بين عشية وضحاها. إذ لا تزال التجارة والاستثمار في الصين يمثلان جزءًا كبيرًا من نمو البلاد. كما أن أي انخفاض في أي منهما من شأنه أن يضاعف تكاليف العلاقة الألمانية المتغيرة بالفعل مع روسيا.

ولكن مع اشتداد التنافس مع القوى الاستبدادية، ستحتاج ألمانيا إلى إعادة التفكير في تبعياتها -الاقتصادية والمالية والتكنولوجية- وتحسين قدراتها الدفاعية. هنا، سيكون خيارها الأكثر قابلية للتطبيق هو تعميق التعاون الأوروبي وعبر الأطلسي، طالما بقيت الإدارة الأمريكية الداعمة في مكانها.

نمت الحاجة إلى ألمانيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تنسيق سياستهم تجاه الصين. ذلك بسبب التوترات المتصاعدة حول تايوان والصراع في أوكرانيا. حيث يمكن لبكين أن تلعب دورًا محوريًا -إما دعم روسيا أو تركها تتعثر.

معًا أقوى

تقول شفارتسر إنه رغم التحول في اللهجة الألمانية تجاه أوكرانيا والأزمة الأخيرة وجعلها أقرب إلى المواءمة مع الولايات المتحدة. إلا أن الأضرار التي لحقت بالعلاقة في سنوات ترامب لم يتم إصلاحها بالكامل. فالمخاوف بشأن قدرة واشنطن على البقاء منخرطة دوليًا وموثوق بها باقية في ألمانيا، كما هو الحال في أماكن أخرى في أوروبا. تخشى أوروبا العودة إلى سياسة “أمريكا أولًا” مجددًا إذا فاز الجمهوري بالبيت الأبيض عام 2024.

لذلك، يجب على كل من ألمانيا والولايات المتحدة ضمان أن علاقتهما التي تم إحياؤها وتوطيدها يمكن أن تدوم ليس فقط لبايدن ولكن أيضًا لزعيم أمريكي شعبوي شبيه بترامب. وللقيام بذلك، ستحتاج البلدان إلى تعزيز العلاقات بين الولايات المتحدة وألمانيا. ذلك بما يتجاوز تلك التي تربط برلين بالسلطة التنفيذية الأمريكية، والاستثمار في العلاقات بين أعضاء المجالس التشريعية في كلا البلدين، والمجتمعات المدنية، وقطاعات الأعمال. ذلك فضلًا عن المؤسسات الدولية التي تربط ألمانيا الى الولايات المتحدة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الدكتورة دانييلا شفارتسر
الدكتورة دانييلا شفارتسر

الدكتورة دانييلا شفارتسر هي المديرة التنفيذية لمؤسسات المجتمع المفتوح في أوروبا وأوراسيا. شوارتسر هو خبير مشهور في الشؤون الأوروبية والعلاقات عبر الأطلسي والعلاقات الدولية. وهي أستاذة فخرية للعلوم السياسية في جامعة Freie Universität برلين وزميلة أولى في مركز بيلفر بكلية هارفارد كينيدي.