تكررت جملة “صناعة غربية” على نخب وحكام كثيرين في العالم. وكررها البعض بخصوص الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. واعتبروه صناعة غربية وحملوه مسؤولية ما يجري في أوكرانيا. في حين أننا في حاجة لفحص هذا المفهوم والتدقيق فيه بعيدا عن صحة المواقف السياسية للرئيس الأوكراني من عدمها.

والمؤكد أن الغرب والولايات المتحدة استثمرتا سياسيا وعسكريا في أوكرانيا. صحيح أن البلد عرف رئيسا محسوبا على روسيا وهو “فكتور يانوكوفيتش”. الذي تعرض في 2014 لموجة احتجاجات ضخمة قيل وقتها إنها مدعومة من أمريكا دفعته للهروب خارج البلاد. وعادت أوكرانيا واختارت رؤساء محسوبين على الغرب كما هي الحال بالنسبة للرئيس الحالي.

والحقيقة أن الرئيس زيلينسكي حصل على دعم عسكري واقتصادي وسياسي كبير من قبل الغرب. دون أن يصل إلى تدخل عسكري مباشر. رغم مطالباته المتعددة بذلك. ومع هذا صمدت أوكرانيا أمام القوات الروسية المهاجمة رغم كل ما يقال عن رفاهية المواطن الأوروبي واعتياده الحياة الرغدة والسهلة. وغير كثيرا من حسابات الحرب.

والسؤال: “هل يكفي لتفسير هذا الصمود القول فقط إنه بسبب الدعم الأمريكي والغربي. أم أن هناك أسبابا أخرى قد تكون أكثر أهمية دفعت إلى هذه المقاومة وهذا الرفض للغزو الروسي؟”.

الحقيقة أن الدعم الغربي لأوكرانيا مؤكد وقد يكون أحد الأسباب الرئيسية وراء صمودها. ولكن السبب الأهم هو شعور جزء كبير من الشعب الأوكراني أنهم جزء من القيم الغربية والأوروبية. وأنهم يرفضون الالتحاق بروسيا مثلما يشعر الغالبية العظمى من سكان “إقليم القرم” بانتمائهم لروسيا ويقاتلون مع جيشها.

ولعله قد يكون مفيدا في هذا السياق المقارنة مع نظام حكم آخر صنعته أمريكا والغرب. وهو النظام الأفغاني. وفشل في البقاء وتهاوى في أشهر قليلة أمام حركة طالبان.

وتبدو حالة أفغانستان ذات دلالة قاطعة خاصة إذا قورنت بحالة أوكرانيا، فكلتاهما يمكن أن يطلق عليه أنه عرف صناعة نخبة من قبل الولايات المتحدة والغرب. ولكن في واقع ثقافي واجتماعي وحضاري مختلف تماما عن الآخر. فأنبت في الأولى أشرف غني الذي هرب بالأموال. وفي الثانية زيلينسكي الذي حارب بالسلاح.

صحيح أن في أفغانستان كانت المواجهة مع قوى محلية هي حركة طالبان وليس غزوا خارجيا. إنما النتيجة تقول إن محاولات صناعة نخبة شيوعية في سبعينيات القرن الماضي في نفس البلد قد فشلت رغم الغزو السوفييتي. وأن محاولات أمريكا الاستثمار في تصنيع نخبة موالية لها على مدار عشرين عاما وعقب غزو مسلح أيضا قد فشلت.

إن عودة طالبان لحكم أفغانستان بعد 20 عاما من الوجود الأمريكي لم يعنِ فقط نهاية لتجربة دولة حليفة أو تابعة لأمريكا. إنما نهاية “المشروع الأمريكي” في زرع نخب ومنظومة سياسية أعدت خارج الحدود في بيئة محلية لا تقبلها. فتبقى على السطح دون أن تنجح في الوصول إلى عمق المجتمع.

إن كثيرا من قادة الحكومة الأفغانية السابقة امتلكوا جنسيات أجنبية وولاء مزدوجا أيضا. فأخذوا من الأولى الشكل والمظهر لا الجوهر. فلم يبنوا دولة قانون ديمقراطية مثلما هي الحال في بلادهم الغربية الثانية. ولم يسعوا لتحقيق تنمية اقتصادية حقيقية بل كرسوا للفساد وسوء الإدارة وانفصلوا تماما عن واقع مجتمعهم.

لقد أنفقت الولايات المتحدة 88 مليار دولار في أفغانستان ذهب جانب كبير منها لبناء الجيش الأفغاني ودفع رواتب لآلاف الموظفين والمتعاونين معها. وفي تصنيع نخب أفغانية موالية. ومع ذلك انهار “هذا النموذج” في أشهر قليلة. بالمقابل فإن الاستثمار الغربي في صناعة نماذج بلدان أوروبا الشرقية ودول البلطيق وأوكرانيا كان في بيئة تقبلت هذه الصناعة بصدر رحب وربما سعوا إليها وحققوا نتائج مختلفة.

إن الحديث عن الاستثمار الغربي في الثورة البرتقالية في أوكرانيا أثمر عن نظام سياسي ديمقراطي. رغم الانتكاسات ولم يعتبر انتماؤه للغرب وأمريكا عمالة ولا ينظر أغلب مجتمعه على أنها كذلك. في حين أن استثمار أمريكا في أفغانستان أنتج نخبة فاشلة اعتبرها أغلب المجتمع عميلة.

ويكفي مقارنة خطابات الرئيس الأمريكي بايدن العام الماضي حول أفغانستان وما يقوله حاليا بخصوص أوكرانيا لمعرفة الفارق في التعامل مع الخبرتين. ففي الحالة الأولى أسهب الرجل في الحديث عن مثالب الحكومة الأفغانية والرئيس والجيش. في حين تحدث بإعجاب ودعم كامل لما وصفه بـ”المقاومة الأوكرانية العظيمة من أجل الدفاع عن الديمقراطية”. وأكد ضمنا العام الماضي على معنى تصاعد في السنوات الأخيرة داخل الولايات المتحدة. وعبرت عنه قوى يمينية وشعبوية كثيرة رأت أن تترك المنطقة العربية والإسلامية تدير صراعاتها وحروبها ومشكلاتها بنفسها وتنسى قضية نشر الديمقراطية. والمطلوب فقط ألا تكون هذه البلاد مصدرا لتصدير الإرهاب أو اللاجئين.

وبدا واضحا كيف استقبلت أوروبا بالورود اللاجئين الأوكرانيين الذي بلغوا نحو 4 ملايين لاجئ. وفي الوقت نفسه أغلقت حدودها في وجه اللاجئين العرب والأفارقة باستثناء ما فعلته ألمانيا بقبول نحو مليون لاجئ سوري.

صحيح أن هذا لا يعني أن الديمقراطية لا تصلح في العالم العربي والإسلامي وتصلح فقط في الغرب. ولكن يعني أن الخبرة الأمريكية في “تصنيع” النخب وارد أن يصلح في مجتمعات لديها نفس القيم المشتركة ولديها نفس الإرث الثقافي. في حين أن مسألة تصنيعها داخل مجتمعات أخرى خارج الإطار الحضاري الغربي تكاد تكون مستحيلة.

لا يمكن اختزال ما جرى في أوكرانيا بأنه فقط صناعة لنخبة غربية. لأنه بافتراض صحتها فإن هذا “الزرع الغربي” جاء في بيئة قبلته فأنتج حصادا يختلف تماما عما جرى في أفغانستان والعراق وغيرهما.