لا يمكننا أن نتكلم عن الديمقراطية بأكثر مما تكلّم المنظرون لها، ولا يمكننا أن نؤكد أهمية المناخ الديمقراطي والثقافة الديمقراطية بأكثر مما أكدها هؤلاء الذين تمرسوا بها وتبين لهم أنّ الديمقراطية ثقافة قبل أن تكون آلية لاختيار الحاكم، وأنّ غياب هذا الشرط، يجعل الديمقراطية شعارًا فارغًا، وقناعًا يتستر به الاستبداد.

تنطلق هذه المقالة إذن من هذه المُصادرة، وهي أن الديمقراطية ثقافة، وتختبر هذه الفرضية وهي أنّ الخطاب الإسلامي الذي يشكل رافدًا مهمًا من مجمل الخطاب الثقافي لديه منها موقف مضطرب.

*

    يبدأ الوعيّ العربيّ الحديث- كما يؤكد كثير من الدارسين – مع مدافع نابليون، أي قبل قرنين من الآن تقريبًا، وتحديدًا منذ العام 1789م، وقد نتجادل اليوم حول الطريقة المثلي التي كان يجب أن تمرّ بها مجتمعاتنا للخروج من ظلام القرون الوسطى، وهذا الجدل مقدر تمامًا في سياق المراجعة التي يجب أن تنجز لمشروع النهضة الذي ابتدأ منذ ذلك الزمان، والمراجعة في حدّ ذاتها فعل ضروريّ، لكي نعي ذواتنا وما تملكه دون أن ننفصل عن الوعي العميق باللحظة الحالية، وهو ما يمكننا في النهاية من التفاعل الثقافي والمعرفي مع ما يطرحه الآخرون من نظم وأفكار دون استلاب، بل ويمكننا أيضا من الإضافة إليه مما يثريه ويدعمه.

ومن المهم أيضا– ونحن بصدد المراجعة والفهم– أن نعي الآثار التي ترتبت على فكرة التوجه صوب الغرب عبر “البعثات”، باعتبارها الحل الأمثل أو الأسرع الذي يمكنه أن يجسر الفجوة الهائلة بين الوعي الحديث كما عرفته أوروبا وفرنسا تحديدًا، والوعي المتحجر الذي كانت تعيشه الشعوب العربية.

   لقد رافق هذا التوجه منذ البداية جدل كبير، حتى ليصح لنا القول:

إن ميلاد هذا التوجه تزامن معه توجه آخر مضاد يتخذ التراث حصنًا له، موقنًا أنّ هذه الأمة لن يفلح آخرها إلا بما فلح به أوائلها، لقد بدا هذا التوجه قويا ومؤثرًا، بحكم امتلاكه حجة “السلطة” المهيمنة – ثقافيا- على طريقة تفكيرنا، وباعتبارها الأداة التي يمكن من خلالها السيطرة على شعوب امتلأ وجدانها بيقين الماضي وحرارة إيمانه.

ربما لهذا السبب بدا التوجه التحديثي التنويريّ معظم الوقت عاجزًا عن التأثير في الجماهير، بالتأكيد، توجد معوقات حقيقية يصعب معها إنجاز مثل ذلك التواصل، كانتشار الجهل وسيطرة الخرافة، بالإضافة إلى اقتصار التعليم على طبقة معينة في البداية، ثم تراجع نوعيته حين أتيح للجماهير الواسعة وصار كالماء والهواء، وهذه المعوقات نفسها كانت أرضًا خصبة للتيار التراثيّ المسلح ليترسخ حضوره ويتأكد.

وعليه، فنحن إزاء ثقافة نخبوية تنويرية، لم تقترب إلا هونًا من عموم العقل العربي النّاهض، وعلى امتداد أكثر من قرنين من الزمان حدثت تقلبات سياسية واجتماعية واسعة، لم تسفر في مجملها عن زحزحة هذه العلاقة بين الثقافة التنويرية العقلانية والجماهير، فما كان إلا أن ازدادت – الثقافة – انعزالًا عن الناس، لا يصل خطابها إليهم، ولا يصلون هم إليها، وهذا المساحة الفارغة بين الخطاب وجمهوره المفترض استغلها الخطاب المضاد؛ فملأ العقل العام بالقناعات التاريخية والمسلمات والشعارات التي لا تثبت أمام أية مراجعة، فظلت الجماهير – بهذا الخطاب – مشدودة إلى العصور الأولى، حيث “الخلافة الراشدة” أو حلم الإمبراطورية الإسلامية الذي بإمكانه أن ينهض بالشعوب العربية من غفوتها مرة أخرى ليضعها على الطريق السليم، الذي لن تتمكن فيه من الوحدة فحسب، بل إنها ستتمكن فيه أيضا من الهيمنة.

وكشأن كل ثنائية فكرية كبرى، ينبثق منها طرف ثالث يحاول أن يجمع مزايا الطرفين المتقابلين ويتجاوز عن عيوبهما، فهو المعاصرة والتراث معًا، ولكن هذا التيار رغم وجاهة طرحه وسلامة منطقه أحيانًا، أو على الأقل من حيث الشكل، إلا أنه ظل أيضا نخبويًّا غير قادر على التأثير، يمكنك أن تجد بعض أصواته إلى اليوم معزولة في الجامعة، وقد تجدها على استحياء خارج الجامعة.

والمحصلة النهائية لهذا الجدل ولهذه الاختيارات أنّ الوعيّ العام ظلّ مشدودًا إلى تصورات جماعية دينية تاريخية، يلتقي فيها التاريخ بالدّين والدين بالتاريخ، فصبغ هذا بذاك على نحو يجعل كل محاولة تفكيكهما محاولة متهمة دينيًّا، ليس فقط من قبل النخب التراثية، وإنّما من جماهير هذه النخب التي سلَّمت أمرها لنخبها الماضوية، فغدت بذاتها سلطة، يصعب حجاجها أو إقناعها، ولعلّ هذا ما جعلها تستعصي دائمًا على التغيير.

خطابان في الثقافة العربية

في الثقافة العربية إذن ومنذ ذلك الزمان خطابان، خطاب يمكن وصفه بـ”التحديثي”، يتخذ من التقدم الغربي نموذجه الإرشادي أو مرجعيته، ويتغير أو يتحول هذا الخطاب بتحول مرجعيته الغربية في تصورها الشامل، وما تطرحه من قيم، وما تتخذه من وسائل وإجراءات تمكنها من جعل هذه القيم واقعًا معيشًا، بالتأكيد توجد تنويعات عدة داخل هذا الخطاب، إلا أننا نكتفي هنا بالوصف الكلي له. ولدينا خطاب آخر مضاد، يتجه صوب التراث، ويتحدث عما يصفه بالقيم الإسلامية التي تشكل هوية هذه المجتمعات، وتعصمها من الذَّوْب في الآخر، وهو أيضا يضم بداخله تنويعات.

ومن المهم هنا أن نشير إلى أن هذه الثنائية، وكما لاحظ كثير من الدارسين، هي جوهر أزمة مشروع النهضة بشكل عام؛ فدعاة التحديث وفق النموذج الغربيّ يقلدون نموذجًا استعماريا، يحاولون تطبيق المنجز الغربي ويعادونه في الوقت نفسه، وهم فضلا عن ذلك قد وضعوا مشروعهم موضع اتهام، إن لم يكن على أساس دينيّ فعلى أساس الوطنية، والتراثيون أيضا لم يتمكنوا من تقديم معرفة تراثية، تعي التراث في ذاته، وتعيه مرة أخرى في ضوء واقع جديد متغير ذي أسئلة جديدة، فما كان منهم والأمر كذلك، إلا أن ضخموا بعض الأفكار التراثية لتنطق بلسان غربيّ غير مبين، وكأنهم – دون وعي – قد وضعوا التراث كله مرمى الآخر الغربيّ، ففاتهم – بالتأكيد – معرفة التراث في ذاته أولًا، وفاتهم معرفة الطرح الغربيّ في ذاته ثانيًا، وفاتهم الوعيّ بالواقع المعيش وأسئلته ثالثًا.

وفي هذا السياق يمكننا أن نختبر مفردة الديمقراطية، ولعلنا في غير حاجة إلى التأكيد على مركزيتها وأهميتها في المرجعية الغربية، وهي بالتالي تأخذ القيمة نفسها لدى أصحاب النموذج التحديثيّ الغربيّ، كما أننا وقد انتهينا إلى نخبوية هذا الخطاب مقارنة بالتيار التراثي الذي بدا مهيمنًا على جماهير أوسع ومؤثرًا بشكل يُمكِّنه من القيادة والتأثير، فمن المهم أن نتبين فهمه للديمقراطية وكيف يمكن تطبيقها على المجتمعات العربية والإسلامية.

لنقرر بداية أنَّ التيار التراثيّ أيضا ليس كتلة واحدة؛ فهو وإن أجمع على اتخاذ التراث نموذجًا إرشاديا إلا أنه لا يخلو من تباينات، يمكننا نلمح فيها هنا تباينين أو توجهين، وذلك تبعًا لشكل علاقته بالتراث، انغلاقًا وانفتاحًا:

التوجه الأول: التوجه التراثيّ المنغلق

وهذا التوجه يرفض الديمقراطية بشكل عام، باعتبارها ليس فقط بدعة جديدة من بدع الغرب، الذي يدبّر للإسلام وأهله، وإنما يرفضها انطلاقًا من مفهومها نفسه، الذي يؤسس لسيادة الشعب تشريعًا ورقابة ومحاسبة، فهذا – وفق هذا التوجه – تأسيس مرفوض تمامًا، بل إنه يصل لدى بعضهم إلى درجة تكفير القائل به؛ فالإسلام عقيدة وشريعة، تنظم شريعته مناحي الحياة المختلفة، وتتدخل لتبين حالة كل فعل من حيث الإباحة والحرمة وما بينهما من ندب وإباحة وكراهة، وعليه فلا ينبغي أن يكون الحكم إلا لله وحده، وما على الشعب إلا الخضوع لهذا الحكم، إن كان شعبًا مؤمنا حقًا، وهو كذلك.

ولا يقدم هذا التوجه تصورًا عمليا عن الحكم أكثر من هذه المبادئ العامة، وقد يتوسع ويضع إجراء لا يتجاوز التصور الذي وضعه المسلمون الأوائل؛ فهناك جماعة هم أهل الحل والعقد، وهؤلاء هم الذين يختارون الحاكم، وهم من يشيرون عليه إن احتاج للمشورة، وهناك جدل داخل هذا التيار حول كون الشورى نفسها مُعْلمة أم ملزمة.

يؤكد هذا التوجه تحديدًا على ضرورة طاعة الحاكم /الإمام، طبقًا للنصوص المقررة من قرآن وسنة، ومن ذلك قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].

بالطبع تتعدد التخريجات والتأويلات لهذه الآية، لكنها كلها تدور في وجوب الطاعة وألا يخرج الناس على أميرهم، وألا ينازعوه في شيء، وإن حدث تنازع لا يخرجون عليه وإنما يردون الأمر إلى الله ورسوله للفصل في الخلاف. قد يرى بعض المفسرين مثل ابن عباس ومجاهد وعطاء أن العلماء هم المقصود بـ”أولي الأمر” هنا، وقد يتوسع البعض الآخر ليضم إليهم الأمراء والولاة، وهذا لن يغير من الأمر شيئًا.

طبعًا هذه الآية مدعومة بأحاديث عدة تجعل الخروج على الحاكم إثما دينيا عظيمًا، مثل:

1- ” السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب وكرِه، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أُمِر بمعصية، فلا سمع عليه ولا طاعة”.

2- “من رأى من أميره شيئًا يكرهه، فليصبر عليه؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرًا فيموت إلا مات ميتة جاهلية”.

3 – وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، قال: “إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان”.

4 – “اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ”.

يرتكز هذا التوجه إذن على مجموعة من النصوص التي لا ترفض الديمقراطية فحسب، وإنّما ترفض معها معظم القيم أو الحقوق التي تمنحها الديمقراطية للفرد والجماعة على حد سواء، مثل فكرة الحرية، وهي فكرة مركزية، تنهض في الأساس على حرية العقل، بما يتشعب عنها من حرية الاعتقاد والرأي.

هذه إذن المرتكزات الأساسية لرفض الديمقراطية من قبل هذا التوجه، وهذا هو تصورهم لنظام الحكم، ومن الواضح أنه تصور يخلط بين السياسيّ والدينيّ، أو لا يرى ضرورة التمييز بينهما، ما يؤول في التصور الأخير إلى جعل طاعة الأمير من طاعة الله، وعصيانه أيضا من عصيان الله، وقد لا ينص هنا على عصمة الأمير، كما ترى الشيعة مثلا، غير أنّ مفهوم الطاعة يجعل الأمير في منزلة المعصوم وإنّ لم يقر له بالعصمة، ثم إنه لا يحاسب من قبل الشعب، فهم ليسوا وكلاءه، ولم تكن لهم أدنى مشيئة في اختياره، فكيف يحاسبوه ؟

وإذا كان ذلك، فكيف يرى التوجه التراثيّ المنفتح مفهوم الديمقراطية؟

ثانيا: التوجه التراثيّ المنفتح

يحتفي هذا التوجه دائمًا بالقيم الإيجابية في التراث، لا سيما القيم التي يجد بينها وبين الوافد الغربي شبهًا ما، فيضخم القيم التراثية لتغدو كالوافد الغربيّ أو أكبر، والأمثلة على ذلك مختلفة ومتنوعة، لا تقتصر على مجال دون آخر، خاصة ما يتعلق بالمدارس والنظريات الاجتماعية والمذهبية التي يتوفر فيها عنصر المشابهة.

ولا يرى أصحاب هذا التوجه “الديمقراطية” كلمة غريبة على تراثنا، فمفكر أصيل مثل العقاد،  محسوب على التيار الليبرالي، ولكنه عرف أيضا بدفاعه عن الإسلام وعن قضاياه، شأنه شأن غيره من أساتذة هذا الجيل، نجد العقاد في كتابه “الديمقراطية في الإسلام” يتخذ الموقع نفسه، الذي يبرز مفهوم الحقوق في الإسلام، وأسبقية الإسلام في هذا الجانب، حيث يقول:

” إنّ شريعة الإسلام كانت أسبق الشرائع إلى تقرير الديمقراطية الإنسانية، وهي الديمقراطية التي يكسبها الإنسان؛ لأنها حقّ له، يخوّله أن يختار حكومته، وليس حيلة من حيل الحكم لاتقاء شرٍّ أو حسْمِ فتنة، ولا هي إجراء من إجراءات التدبير تعمد إليها الحكومات؛ لتيسير الطاعة والانتفاع بخدمات العاملين وأصحاب الأجور”.( الديمقراطية في الإسلام، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة 2013م ص 33)

  وهذا الذي يقرره العقاد نظريا بوضوح وحسم، لا يبدو كذلك حين يبدأ في مناقشة مفهوم “السيادة” في النظام الديمقراطي، فما مصدر السيادة ؟ هل هي للشعب كما تقرر النظرية الغربية، أم السيادة لله ورسوله وهو ما يقولون به ؟

يؤكد “العقاد” خطورة هذه المسألة، وأن تحريرها ضرورة، لأنها هي التي تحدد نوع الحكم في عمومه، ويرى – رحمه الله – أن سند “السيادة” في الإسلام يأتي من كونها عقدًا بين الله والخلق من ناحية، والراعي والرعية من جهة أخرى…!

وهنا يبدو الأمر معقدًا إلى حد كبير، فكيف يكون العقد بين الله والخلق، ثم يكون من وجهة ثانية بين الراعي والرعية؛ فالذي يمتلك السيادة هو الذي يشرّع طبقًا لما يرى فيه منفعته أو مصلحته، وهو الذي يعزل حاكمه حين يقرر ذلك… ولعلّ العقاد قد استشعر هنا نوعًا من الاضطراب، فحاول أن يستهدي بما انتهت إليه الأمم الإسلامية الناشئة التي حاولت أن تكون دولة ديمقراطية حديثة، دون أن تتخلى عن الصفة الأصيلة “الإسلام”، فيستدل بما قرره الدكتور “اشتياق حسنين قريشي” في رسالة باكستان، الدولة الإسلامية الناشئة وقتها، فقد تحدث الدكتور “اشتياق” بما يكشف أزمة العقل الإسلامي تجاه هذا المفهوم، خاصة وهو يريد أن يصف نظامه بالديمقراطي، ويهمنا هنا من كلامه تفرقته بين نوعين من السيادة، الأولى: السيادة السياسية، وهي حقّ خالص للشعب الذي يملك حقّ انتخاب المشرعين والحكومات وإقالتهم. والثانية: وهي ما يصفه بـ”السيادة الحقيقية”، ويقصد بها مبادئ الإسلام… وسبيل تقريرها أن يتعلمها الشعب والأبناء بشكل دائم مستمر كي تبقى حية وفاعلة.

وهذا كلام يستحسنه العقاد، بل يذهب أبعد من ذلك فيقرر أنه لا تعارض بين كون الأمة مصدر السيادة وكون القرآن والسنة مصدرا التشريع، حيث يقول: “فالأمة هي التي تفهم الكتاب والسنة وتعمل بهما، وتنظر في أحوالها لترى مواضع التطبيق ومواضع الوقف والتعديل وتقرّ الإمام على ما يأمر به من الأحكام أو تأباه”.

تبدو المشكلة هنا أعمق على مستوي التنظير والإجراء معًا، أو هي تنظيرية إجرائية معًا، فهذا الكلام الذي انتهى إليه العقاد لا يمنح الأمة أو الشعب السيادة المطلقة ليقرر لنفسه ما يشاء، طبقًا لما يرى فيه مصلحته، وإنما يجعل مصلحته مرهونة بما يفهم من الكتاب والسنة، وهنا يمكنك أن تتساءل: كيف يمكن إنجاز هذه الرؤية دون أن يختلط السياسي بالديني، أو دون أن يكتسب الرئيس أو مؤسسات الدولة والحكم أي قيمة دينية عبر هذا القران المستمر بين الديني والسياسي؟

وفي وقت لاحق – ولأن الأمر لم يحسم مع جيل العقاد، ومن قبله جيل محمد عبده – يعود الحديث مرة أخرى في نهايات القرن العشرين، ومع تيارات أكثر تشددًا إلى المربع الأول، وبشكل خاص مع مفهوم “الحاكمية” الذي صاغه “أبو الأعلى المودودي”، وفيه يرى أن نظرية الحكم في الإسلام تتمثل في نزع سلطات الأمر والتشريع من أيدي البشر لأن ذلك كله مختص به الله وحده.

بالتأكيد سوف تواجه هذه الفكرة باعتراضات قوية، خصوصًا من التيارات الإسلامية التي أخذت في الانخراط المباشر في الشأن الاجتماعيّ والسياسيّ، وعليه فسوف نجد كاتبًا مثل “محمد عمارة” يعترض عليها ويحاول تفنيدها، منطلقا من قاعدة “عدم التعارض بين الإسلام والديمقراطية”، وسوف يذهب إلى ما هو أبعد حين يقر بـ”إسلامية” المبدأ الدستوري الحديث القائل بأن “الأمة مصدر السلطات”، الذي يمنحها الحق في التشريع والمراقبة ومحاسبة الحاكم وعزله متى شاءت….!

ولا يرى عمارة خطرًا على الأمة أشد من هذا الخطر الذي يقرره مبدأ الحاكمية، فهو ينتقد حرص من وصفهم بـ”جيل الصحوة الإسلامية” على صبغ مؤسسات الدولة بصبغة الدين، ويؤكد أن هذا الفهم من شأنه أن يضفي على الحاكم قداسة ليست له، ويفتح له الباب واسعًا للهرب من المساءلة الشعبية، ولذا نراه يُقرر في وضوح :

” أن مردّ الكثير من نقاط الضعف والسلبيات التي يعاني منها المسلمون اليوم هو سلب السلطة الحقيقية والسلطان الفعلي من جماهير المسلمين”.(الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية، دار الشروق ص12)

يراجع عمارة كل دلالات المادة “حكم” في القرآن، ويؤكد أنها لم تأتِ إطلاقًا بمعنى سياسة الناس، وإنما تدور بين دلالات القضاء والفصل في المنازعات والفقه والعلم والنبوة، وهذا نهج قويم في مناقشة المفهوم، خصوصًا أنه يزعم قرآنيته، ورغم ذلك تبقى المشكلة الحقيقية الماثلة في تذويب التناقض بين سلطة الشعب وسلطة الشريعة، حق الشعب في التشريع وفق مصلحته، وحق الشريعة في ضبط هذا الحق، وما السبيل إلى إنجاز ذلك، دون أن نصطفي جماعة ما تراقب هذه العلاقة وتأخذ قداسة دينية ليست لها، باعتبارها وكيلًا لله أو لمراد الله على كتابه.

*

مما سبق يمكننا أن نقول: إن مسألة الديمقراطية لم تحسم من الزاوية الدينية طوال العقود السابقة، ولعل هذا الخلط والتخليط لم يجعلها قضية ذات أهمية أولى بالنسبة للنخب الإسلامية وأتباعها، صحيح أن بعض الإسلاميين ينخرطون في عمليات انتخابية في بعض المجتمعات، إلا أن ذلك لا يمثل عموم الإسلاميين، كما أنها تجربة لا زالت غضة يصعب الحكم عليها، بالإضافة إلى أن هذه الممارسة لا تنفي الإشكال النظري أعلاه، بل إنها قد تؤكده وتبث الارتياب في النفس حول جدوى الديمقراطية في إطار هذا الفهم.