عندما استخدم رئيس مجلس الأمن، بصفته مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، حق الڤيتو للاعتراض على مشروع قرار يدين العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا فى شهر فبراير، تذكَّرْتُ على الفور المادة 27 من ميثاق الأمم المتحدة. ثم تذكَّرْتُ نفس المادة مجدداً عندما تقدمَّت روسيا بمشروع قرار حول الوضع الإنسانى فى أوكرانيا خلال شهر مارس، وصوتت لصالحه هى والصين، لكنه لم يمُرّْ لأن باقى أعضاء المجلس امتنعوا عن التصويت.

تنظِّمُ المادة 27 من ميثاق الأمم المتحدة إجراءات التصويت داخل مجلس الأمن. وهى تنص على الآتى:
“١-لكل عضو من أعضاء مجلس الأمن صوتٌ واحد.
٢-يتم اعتماد قرارات مجلس الأمن بشأن المسائل الإجرائية بأغلبية تسعة أصوات.
٣-يتم اعتماد قرارات مجلس الأمن بشأن جميع المسائل الأخرى بأغلبية تسعة أصوات بما فيها أصوات الأعضاء الخمسة الدائمين؛ على أن يمتنع عضو المجلس الذى يكون طرفاً فى نزاعٍ ما عن الإدلاء بصوته بشأن القرارات التى تقع تحت الفصل السادس أو الفقرة ٣ من المادة ٥٢.”

تؤسس الفقرة ٣ من المادة ٢٧ حق الڤيتو للأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن. لكن النصف الثانى من الفقرة يطَبِّقُ قاعدةً قانونيةً هامةً على عملية التصويت فى مجلس الأمن، هى قاعدة تعارض المصالح. إذ لا يُسمح لدولةٍ أن تكون طرفاً فى نزاع ما وأن تشارك فى اتخاذ القرار بشأنه داخل المجلس فى نفس الوقت. لكن هناك كذلك استثناءً هاماً على تلك القاعدة. إذ على الدول أن تمتنع عن الإدلاء بصوتها فقط بشأن القرارات التى يتم تناولها تحت الفصل السادس من الميثاق المتعلق بتسوية النزاعات بالطرق السلمية، أو تحت الفقرة ٣ من المادة ٥٢ المتعلقة بالحل السلمى للنزاعات من خلال الترتيبات أو المنظمات الإقليمية. أى أن قاعدة تعارض المصالح لا تنطبق على الفصل السابع من الميثاق الذى يتناول نشاط مجلس الأمن بشأن “تهديد السلام، وخرق السلام، وأعمال العدوان”، وهو الفصل الذى ينظم الاستخدام الشرعى للقوة من قِبَلِ المجتمع الدولى لاستعادة السلم ومواجهة العدوان.

هذا الاستثناء غير عادل بلا شك. لكن يمكن تفهم دوافعه بالنظر إلى الظروف التى تم فى إطارها وضع الميثاق. فقد كان على الأمم المتحدة أن تعتمد على الدول المنتصرة من أجل الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، فى أعقاب الحرب العالمية المُدَمِّرة. ولم يكن من الممكن للأمم المتحدة أن تفرض على تلك الدول استخدام القوة فى مواجهة بعضها، أو أن تجبرها على استخدام القوة بصفة عامة رغماً عنها؛ وإلا لما استطاع المجتمع الدولى تشكيل منظمة دولية جديدة لخلافة عصبة الأمم التى انهارت بعد فشلها فى منع نشوب الحرب العالمية الثانية. هذا، ومن المهم أن نلاحظ كذلك أن المجتمع الدولى يفضل دائماً الحل السلمى للنزاعات مقارنةً باستخدام القوة. كما أن الأمم المتحدة ومجلس الأمن غالباً ما تبدأ بمحاولة استخدام الفصل السادس من الميثاق قبل اللجوء للفصل السابع.

وقد علِمْتُ بالفقرة ٣ من المادة ٢٧ من ميثاق الأمم المتحدة عام ١٩٨٣ من خلال أستاذى الفاضل الدكتور حسن نافعة حفظه الله وثبَّتَه، أثناء دراستى لمادة التنظيم الدولى فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. وقد بدأت التفكير فى تلك الفقرة عملياً عندما التحقْتُ أول مرة ببعثة مصر الدائمة لدى الأمم المتحدة عام ١٩٩٠ فى أعقاب الغزو العراقى للكويت مباشرة، بعدما لاحظْتُ أن التحالف الدولى الذى حرر الكويت يضم ثلاثة من الأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن. وفكَّرْتُ فى نفس الفقرة مجدداً عام ٢٠٠٣ عندما قادت الولايات المتحدة تحالفاً دولياً آخر لاحتلال العراق بحجة نزع أسلحة الدمار الشامل. لكن يجب أن ندرك بالطبع أن مجلس الأمن كان غالباً ما يتعامل مع العراق فى إطار الفصل السابع من الميثاق.

عندما احتلت روسيا شبه جزيرة القرم فى مارس ٢٠١٤ كنتُ مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة. وقد سألتُ عدداً من الزملاء المندوبين الدائمين لأعضاء دائمين فى مجلس الأمن ومستشاريهم القانونيين، عمَّا إذا كانوا يعتزمون استخدام تلك القاعدة الواردة فى الفقرة ٣ من المادة ٢٧. وقد فوجئْتُ بأن بعضهم لم يسمع بها من الأصل، والبعض الآخر لم يبد اهتماماً بذلك. فافترضْتُ أن هناك تفاهماً ما بين الدول دائمة العضوية فى هذا الخصوص. هذا، وقد استخدمت روسيا وقتها حق الڤيتو لمنع صدور مشروع القرار الذى تقدمت به الولايات المتحدة ودول غربية أخرى فى مجلس الأمن للمطالبة بالانسحاب الفورى للقوات الروسية من شبه جزيرة القرم.

وعندما بدأت روسيا ما أطلقت عليه “العملية العسكرية الخاصة” ضد أوكرانيا فى ٢٤ فبراير، وجَّهْتُ نفس السؤال لعدد من الأصدقاء السفراء، من المندوبين الدائمين لدول غربية -ليست من الأعضاء الدائمين- أو العاملين فى سكرتارية الأمم المتحدة. وقد كانت ردودهم متطابقة. فقد ذكروا أنهم يعتقدون أن هناك اتفاقاً ضمنياً بين الدول دائمة العضوية على عدم استخدام تلك الفقرة حتى لا يؤثر ذلك على ميزة الڤيتو التى تتمتع بها داخل مجلس الأمن. وقد أكد ذلك افتراضى السابق. هذا، علماً بأن الدول دائمة العضوية لم تصرح بمواقف معلنة في هذا الشأن، ولا شك أنه سيكون من المفيد الاستماع إلى وجهات نظرها الرسمية حيال ذلك.

لا تحتاج الفقرة ٣ من المادة ٢٧ مزيداً من الشرح. ما يحتاج إلى تفسير في الواقع هو لماذا تم بالتدريج التغاضي عن النصف الثاني من تلك الفقرة حتى كادت أن تصبح غير موجودة عملياً —إذ أن آخر مرة تم تطبيقها فيها كان عام ١٩٦٠، منذ نَيْفٍ وستين عاماً؛ ويتراوح عدد المرات التي طبقت فيها من مرة واحدة فقط على أقل تقدير وفقاً لبعض الدراسات، إلى حوالي عشرين مرة على الأكثر وفقاً لتقدير دراسات أخرى.*

وإذا نظرنا إلى السوابق، فيمكن ملاحظة أمرين رئيسيين. الأول، أنه تم تطبيق الفقرة خلال الخمسة عشر عاماً الأولى للأمم المتحدة، أى فى فترة مبكرة نسبياً بعد تحرير الميثاق. والثاني، أن الدول التى التزمت بتطبيقها في الماضى فعلت ذلك بصورة طوعية، إذ أن قواعد إجراءات مجلس الأمن لا تتضمن أى آلية لإجبار الدول على الامتناع عن الإدلاء بصوتها داخل المجلس. وفى معظم الحالات كانت الدول التى التزمت بتنفيذ تلك الفقرة من الدول التى لا تتمتع بالعضوية الدائمة في المجلس: الأرجنتين، وباكستان، ومصر، والهند.* وقد امتنعت عدد من الدول دائمة العضوية عن الإدلاء بأصواتها طواعية في حالات أخرى، مع تعمُّد الإشارة إلى أن ذلك لم يتم تنفيذاً لتلك الفقرة.* وفى إحدى الحالات، عام ١٩٧٦، استخدم مندوب فرنسا في مجلس الأمن حجةً مثيرة للاهتمام، وصفها هو نفسه بأنها حجةٌ عبثية، لتبرير استخدامه لحق الڤيتو لمنع صدور مشروع قرار كان سيعتبر أن جزيرة مايوت جزءٌ لا يتجزَّأ من جمهورية جزر القمر. فرغم أن القرار كان يتم تناوله في إطار الفصل السادس من الميثاق، ذكر مندوب فرنسا أن “مثل هذه المواقف لا يجب أن تمنع الدول الأعضاء في مجلس الأمن المعنية بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالموضوع من الإدلاء بأصواتها؛ إذ أن تلك الدول كان سيحق لها الإدلاء بأصواتها دون شك لو كان الأمر يخضع للفصل السابع من الميثاق”. ثم أضاف “أن التصرف بأى شكل آخر -أى حرمان تلك الدول من الإدلاء بأصواتها بسبب تناول الموضوع فى إطار الفصل السادس- سيؤثر سلباً على أهداف الميثاق، لأنه سيشجع تلك الدول على استخدام القوة حتى يتم تناول الموضوع في إطار الفصل السابع لتضمن حقها في الإدلاء بأصواتها”. واختتم كلمته بأنه “لا يحتاج إلى إبراز مدى عبثية الوضع الذى يمكن أن نصل إليه إذا تم تبنى مثل هذا التفسير”.*

من الناحية الموضوعية، فإن استخدام الفقرة ٣ من المادة ٢٧ لمنع الولايات المتحدة، أو روسيا، أو أى دولة أخرى من الإدلاء بصوتها فى مجلس الأمن بشأن العراق، أو سوريا، أو أوكرانيا، أو أى نزاع آخر يتم تناوله فى إطار الفصل السادس ما كان لِيُحْدِثَ تغييراً يُذْكَرُ على الأرض. لكنه كان بلا شك سيعزز من مصداقية الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ويؤكد دورهما فى تأسيس وتطوير القيم والمعايير الدولية. كما كان سيُثْبِتُ أن الدول دائمة العضوية تحترم ميثاق الأمم المتحدة، وتأخذه مأخذ الجد. إن استمرار إهمال هذه القاعدة عندما يتعلق الأمر بالمصالح المباشرة للأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن لا يؤدى إلا إلى ترسيخ الاعتقاد السائد بأن الأمم المتحدة قد عفا عليها الزمن، وأنها لا تستطيع معالجة المسائل التى تهدد السلم والأمن الدوليين، لا سيما عندما يتداخل ذلك مع مصالح أعضائها الأكثر نفوذاً.

لا أقصد بذلك أن الأمم المتحدة قد فقدت أهميتها. بل على العكس؛ فإذا نظرنا إلى ما حققته على صعيد إنهاء الاستعمار، والقانون الدولى، وحقوق الإنسان، ونزع السلاح، والتنمية المستدامة لأدركنا مدى أهميتها للنظام الدولى العالمى. فَلَو أننا تمسَّكْنا بتنفيذ أحكام الميثاق كما هى لكُنَّا فى موقف أفضل لتحقيق السلم وردع العدوان.

لكننا فى نفس الوقت لا يجب أن نفوت أى فرصة لتعزيز الميثاق وجعله أكثر اتِّساقاً مع التحديات الراهنة. ويدفعُنا ذلك إلى ضرورة النظر إلى عملية إصلاح الأمم المتحدة بنظرة جديدة. إذ تركز المناقشات المتعلقة بإصلاح مجلس الأمن على توسيع العضوية العادية والعضوية الدائمة للمجلس، وامتداد حق الفيتو للأعضاء الدائمين الجدد المُحْتَمَلين. كما تتناول المناقشات عدداً من المسائل الإجرائية، بما فى ذلك استكشاف إمكانية تقييد حق الڤيتو فى بعض الحلات الصارخة مثل الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنسانى الدولى. لكن كما يبدو حتى الآن، فإن تلك المناقشات تدور فى حلقات مفرغة، ولا يتم التوصل أبداً إلى اتفاق.

لا شك أن توسيع العضوية العادية فى مجلس الأمن أصبح ضرورياً حتى تعكس الزيادة الكبيرة فى عدد أعضاء الأمم المتحدة منذ إنشائها. وقد سبق أن تحقق ذلك بالفعل فى الستينيات عندما تم زيادة أعضاء المجلس من ١١ إلى ١٥ عضواً. لكنى أرى أن عملية إصلاح مجلس الأمن لا يجب ان تؤدى إلى زيادة عدد الأعضاء الدائمين، ولا إلى منح حق الڤيتو لأعضاء دائمين مُحْتَمَلين إضافيين. إذ أن لدينا ما يكفى من المشاكل مع حق الڤيتو والمزايا العديدة التى يتمتع بها الأعضاء الدائمون الحاليون؛ وعلينا أن نتفادى تكرار أخطاء الماضى القريب.

——————————
*
https://www.securitycouncilreport.org/atf/cf/%7B65BFCF9B-6D27-4E9C-8CD3-CF6E4FF96FF9%7D/article_27_3_and_parties_to_a_dispute.pdf
http://www.nzlii.org › 3.pdfPDFREVIVING THE OBLIGATORY ABSTENTION RULE IN THE UN … – NZLII
**امتنعت المملكة المتحدة عن الإدلاء بصوتها عدداً من المرات بشأن قضية قناة كورفو، وبشأن المسألة المصرية؛ لكنها لم تذكر صراحةً أن ذلك تم تطبيقاً للفقرة ٣ من المادة ٢٧ من الميثاق. كما امتنعت الولايات المتحدة عام ١٩٧٨ عن الإدلاء بصوتها بشأن العقوبات التى كانت مفروضة على روديسيا (زمبابوي الآن)، لكنها أشارت فقط إلى أن ذلك يتسق مع روح تلك الفقرة.
*فرنسا والمملكة المتحدة بشأن شكوى تقدمت بها سوريا ولبنان ضدهما + فرنسا بشأن شكوى تقدمت بها تونس ضدها عام ١٩٦٢.
**
Stephen Eliot Smith, Reviving the Obligatory Abstention Rule in the UN Security Council: Reform From the Inside Out, New Zealand Yearbook of International Law [Vol 12, 2014].