هل للمستقبل رؤى ودراسات وأبحاث في الوطن العربي؟.. سؤال يبدو من حيث الإجابة عليه صعبا وسهلا، إذ سيرد البعض عليك بأن عددا من الجامعات العربية ومراكز الأبحاث لديها دراسات مستقبلية، لكن الواقع يقول إنها نادرة ومحدودة وقليلة جدا، لكن نستطيع إتاحة إجراء سيناريوهات للمستقبل نبني عليها سياسات لسنوات قادمة؟
للأسف هذا محدود في المنطقة العربية، بصورة تجعل منا رد فعل وليس فعلا على الأصعدة الداخلية والدولية. لكن، ما هو علم الدراسات المستقبلية الذي أتحدث عنه؟
علم المستقبل يقوم على اكتشاف ما سيحدث ومطابقته بما نرجو أن يحدث، ثم صار لدينا تطور لهذا العلم حيث رأى البعض أن يطلق عليه “البدائل المستقبلية” حيث يطرح بدائل أمام صانع القرار بما يجعل أمامه خيارات متعددة تعظم من الاستفادة من المعطيات التي أمامه، وذهب البعض إلى تسميته البصيرة المستقبلية، لأنه يقدم اقترابات تمد صانعي القرار بمدخلات ذات صلة بسياسات طويلة المدي. الدراسات المستقبلية إذا ترفض فكرة التنبؤ بالمستقبل، فباحثيه يميلون إلى التحدث عن المعرفة المستقبلية والصور المستقبلية الممكنة، وهذا يعني بالنسبة لهم صناعة المستقبل بواسطة توقع ما سيكون وفقا لما هو كائن بالفعل، المستقبل هنا يقدم بدائل مستقبلية يمكن توقعها، هنا يجري التخطيط وتوجيه المستقبل وفق ما نرجوه. هنا الماضي حاضر حيث يجري تحليله لتوجيه الحاضر والتأثير على المستقبل. هذا النوع من الدراسات عابر للتخصصات، لدينا عبر الدراسات المستقبلية سيناريوهات متعددة يجري وضعها وفق مناهج علمية .
الشمول والنظرة الكلية للأمور من أساسيات الدراسات المستقبلية، فمن المهم أن تدرس العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها في تشابكها وتفاعلها مع بعضها البعض، من ذلك قرار اليابان مبكرا بالاستثمار في الإنسان الآلي لمواجهة ارتفاع تكلفة اليد العاملة ذات المهارات الفنية مع عدم الرغبة في قبول مزيد من المهاجرين لسد العجز مع توقعات بانخفاض في السكان مع الحاجة للحفاظ على مستوى معيشة معقول للمواطن، فطورت اليابان هذه الآلة لتقوم بوظائف لاحصر لها، هذا يعني أن هذا العلم لا يجنح إلى التبسيط أو التجريد بل إلى التعقيد، فمثلا ما سيؤول إليه الوضع الدولي في مجال الطاقة وأمنها، لذا فهذا دفع كوريا الجنوبية لاستثمارات كبيرة في الهيدروجين وأبحاثه، وهذا يعني أن هذا العلم يجنح إلى التعمق في فهم ما يزخر به الواقع من علاقات وتشابكات، ولا يقين، فضلا عن أن القراءة الجيدة للماضي باتجاهاته والاتجاهات الراهنة والاتجاهات المضادة، تشكل مفاتيح جيدة لفهم الاتجاهات في المستقبل. تحاول الدراسات المستقبلية أن ترسم خريطة كلية للمستقبل من خلال استقراء الاتجاهات الممتدة عبر الأجيال والاتجاهات المحتمل ظهورها في المستقبل والأحداث المفاجئة والقوى والفواعل الديناميكية المحركة للأحداث، لكن من المهم استثمار هذا العلم في التخفيف من الأزمات عن طريق التنبؤ بها قبل وقوعها، والتهيؤ لمواجهاتها، الأمر الذي يؤدي إلى السبق والمبادأة للتعامل مع المشكلات قبل أن تصير كوارث .
إن ما تواجهه مصر من مشكلات على أصعدة متعددة يتطلب تعزيز الدراسات المستقبلية بها، وكانت هناك عدد من المحاولات الجادة في هذا المضمار كان أبرزها مشروع الدرسات المستقبلية في مركز معلومات مجلس الوزراء والذي نجح في تكوين مجموعة من الباحثين المميزين، لكن فجأة اتخذ قرار بإلغاء هذا المشروع الواعد، الذي قدم العديد من التصورات، كان منها مثلا دراسة عن (بناء القاعدة العلمية لمصر وروافدها التعليمية والرياضية الأساسية) والتي حذرت من أن مصر لن يكون لديها متخصصين في الرياضيات والتكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا الملعومات والاتصالات وتكنولوجيا الأقمار الصناعية والطاقات المتجددة، ذهبت الدراسة سبب هذا إلى عزوف الطلبة المصريين عن هذه التخصصات لكنني أذهب إلى أن هناك سببا إضافيا هو هجرة الشباب المصري المتخصص في هذه الموضوعات إلى الخارج بكثافة، على جانب آخر بنت مكتبة الإسكندرية وحدة للدراسات المستقبلية وهي ذهبت لمنحى آخر، ليس إجراء درسات مستقبلية بل توطين الدراسات المستقبلية عبر ترجمة أبرز الدراسات فيها، بناء شبكة من الباحثين في هذا المجال وتشجيعهم على الكتابة فيه عبر سلسلة أوراق، استضافة متخصصين من دول مختلفة في هذا المجال، ثم الورش التدريبية، غير أنه أيضا جرى إلغاء هذا الوحدة ووقف عملها. وبجامعة أسيوط وحدة للدرسات المستقبلية أسسها الدكتور محمد إبراهيم منصور أعظم المصريين الذين سعوا إلى ترسيخ هذه الدراسات في مصر وبذل من أجل هذا جهودا جبارة حتى وفاته، غير أنه برحيله خفتت هذه الوحدة، وإن كان البعض يؤسس لافتات للدراسات المستقبلية غير أن جديتها محل تساؤلات .
على الصعيد العربي لم يكن حظ الدراسات المستقبلية كبيرا ولا فارقا عن الوضع في مصر، وكان أبرز من عمل في هذا المجال عربيا العظيم الدكتور المهدي منجرة، المغربي الجنسية، ولد المهدي في 30 مارس 1933 م وتوفي في يونية 2014م، وهو عالم اجتماع مرموق، ترأس الاتحاد الدولي للدراسات المستقبلية في الفترة من 1977 إلي 1981م، تولى وضع المخططات التعليمية المستقبلية لعدد من الدول الأوربية، تخصص في بدايات حياته درس البيولوجيا والكيمياء في جامعة كورنل، ثم درس الاقتصاد في مدرسة لندن للاقتصاد، من أبرز كتبه (الحرب الحضارية الأولى) حذر فيه من توغل العولمة الأمريكية وعواقبها الوخيمة على العالم، وهو ما نشاهده الآن، مات المهدي منجرة كمدا وحزنا لفشله في أن تبحر الدراسات المستقبلية على الصعيد المغربي ومن ثم العربي .
لكن في أبوظبي هناك جهد مبذول ينبئ باستمراريتة عن نتائج جيدة في الدراسات المستقبلية، عبر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، والذي قدم عددا من الدراسات المستقبلية الجيدة والواعدة في هذا المجال، كان منها ما يتعلق بالإمارات العربية المتحدة ومنها ما يرصد أثر التطور المستقبلي في الفضاء الرقمي على العالم والتحولات التي يمكن أن تحدث نتيجة لذلك وسيناريوهات التعامل مع هذه المتغيرات، إن التحديات التي تواجه العرب أمنيا على أصعدة متعددة لم تطرح للبحث بصورة جادة عبر علوم المستقبل، لذا يظل الغموض يحيط بكل شيء، ولا يعرف العرب أين هم ذاهبون في المستقبل القريب فما بالك بالمستقبل البعيد، لأن هذا يتطلب حرية الحركة في مثل هذه البحوث دون أي قيود تفرض، وطالما هناك قيود على البحث العلمي في الوطن العربي فلا أمل في المستقبل في حل العديد من المشكلات التي تزداد سوءا يوما بعد يوم، ومن ذلك أزمة امدادت الغذاء واستيراده من خارج المنطقة في وقت أتت الدراست المستقبلية أكلها في عدد من الدول في هذا المجال، فعلي سبيل لا الحصر: سيمتزج نوع طبيعي وعضوي جديد من التكنولوجيا الحيوية مع تكنولوجيا النانو وتكنولوجيا المعلومات، وبهذا المزيج التكنولوجي ستقدم حلول نهائية لمشاكل الزراعة، يتم فيهل التخلي عن الكميائيات التركيبية، وسيكون هناك مثلا أساليب بيولوجية طبيعية للوصول إلى النتائج نفسها، بدلا من استخدام المبيدات الحشرية والأسمدة الكيميائية لحماية النظام الأيكولوجي من مخاطر التلوث.
إن الحديث المستمر عن الزيادة السكانية في مصر وعواقبه، لا ينظر على المدى البعيد إلى أن مصر ستصل إلى 170 مليون نسمة ثم ستشهد انخفاضا حادا في تعداد السكان ستكون عواقبه وخيمة، وسبب هذا طبقا للتوقعات: ارتفاع سن الزواج، العزوف عن إنجاب أكثر من طفلين للارتفاع المستمر في تكلفة رعاية وتربية الأطفال، عمل المرأة مع تزايد طموحها الوظيفي، لكن الأهم هو تغير طبيعة سفر المصريين للخارج فبعد أن كان لسنوات للحصول على بعض الثروة والعودة للوطن، صار للهجرة الدائمة والخطورة هنا هي في نقل ثروات أسر المهاجرين لخارج الوطن عبر نقل الأموال الموروثة للمهاجرين، وستعاني مصر من هجرة الكفاءات العلمية من أطباء ومهندسين وعلماء شباب، مما يعني خسارة عقول مصر.
سيستمر الاتجاه الديموغرافي المتمثل في تزايد العمر المتوقع للإنسان، ويتوقع لهذا الاتجاه أن يتسارع خلال العقود القادمة فيما يعرف بثورة إطالة العمر الفائق. وثمة أدلة مستفيضة تدل على أننا قد دخلنا الآن حقبة يتوقع أن يتجاوز عمر الإنسان فيها 125 عاما بسهولة، سيحدث هذا عبر اختراقات علمية معتمدة على الهندسة الجينية والاستنساخ الحيوي، وبحوث الخلايا الجذعية وتكنولوجيا النانو، ومن خلال القضاء على الأمراض التي توهن الجسم البشري، أو التي تؤدي إلى الموت، ليزيد عمر الإنسان المتوقع من 125 إلى 150 عاما، وسيؤدي علم التغذية دورا قويا في ثورة إطالة العمر الفائق، من الاختراقات العلمية تحديد موقع خلية الشيخوخة التي تنظم عملية الشيخوخة وتم تطوير أدوية مضادة للشيخوخة،، لكن المهم أيضا أن الدراسات المستقبلية هنا لا تترك شيئا فقد بدأ، في دراسة أثر العمر الفائق على: العمل، العائلة، الزواج، الثقافة، التعلم .
هناك اتجاه نحو انتقال السلطة والثروة من الغرب إلى الشرق الأسيوي وتركز بؤرة الاهتمام الاستراتيجي في الصين والهند، ويتوقع محللو الاتجاهات الديموغرافية في مؤسسة راند أن الغالبية العظمي من الشباب الأمريكي ستستمر في العزوف عن الشهادات الجامعية وتعلم الهندسة والعلوم والرياضيات مفضلين العمل المغري اجتماعيا، بينما ستستمر الصين والهند بتخريج مئات الآلاف من الشباب الماهر تقنيا كل سنة، وفي العقدين القادمين ستفقد أمريكا تقدمها الساحق عالميا في البحوث البحتة والتطبيقية والعلوم الهندسية لصالح الهند والصين، هذا ما دفع الولايات المتحدة في التفكير في استنساخ الإنسان فائق الذكاء وزرع شريحة في مخ الإنسان لزيادة قدراته لإنسان فائق الذكاء .
كما أن المدن الذكية ستغير المدن إذ سيجري كبح جماح تضخم المدن لصالح المدن الصغيرة قليلة الكلفة في المرافق والسكن والمواصلات، حيث إن العمل من المنزل لا يتطلب الوجود في نفس المكان ولذا سيقل الإقبال على السكن في المدن الكبيرة لصالح الأماكن الأكثر هدوءا، هذا ما سيحدث كسادا عقاريا في مدينة مثل القاهرة مستقبلا، لذا يجب التفكير في مثل هذه القضايا.
هل نحن بحاجة إلى الدرسات المستقبلية: هذه مسألة حيوية لمستقبلنا لا مفر منها.