شهدت الأيام العشرة الأخيرة من شهر مارس حراكا حمل تطورات نوعية تعد الأولى على صعيد العلاقات بين دول الإقليم. بدأت تلك التطورات بقمة ثلاثية مصرية إماراتية إسرائيلية. وقد تبعتها قمة رباعية في العقبة الأردنية بين مصر والإمارات والأردن والعراق. ثم لقاء على مستوى وزراء الخارجية في النقب. وضم وزراء خارجية إسرائيل والولايات المتحدة ومصر والإمارات والبحرين والمغرب.

ذهبت مخرجات تلك اللقاءات في مجملها نحو المشاروات بشأن حلف عربي إسرائيلي، في مواجهة المد والتهديدات الإيرانية في المنطقة. ذلك مع اقتراب قطار مفاوضات فيينا من الوصول إلى محطته النهائية بإحياء الاتفاق النووي مع إيران، دون التوصل لصياغات محددة تلزم طهران بكبح أنشطة الحرس الثوري، وذراعه الخارجي فيلق القدس، أو وضع آليات وضاحة تحد من قدرة المسيرات والصواريخ الباليستية الإيرانية، في الوقت الذي تشعر فيه إسرائيل ودول الخليج العربية بالغضب بشكل خاص من إمكانية إزالة الحرس الثوري من قائمة الإرهاب الأمريكية.

وسط سيل من التحليلات، كانت هناك تساؤلات متعلقة بطبيعة دور مصر في تلك التحركات المناوئة لإيران. وبات السؤال الأكثر إلحاحًا، هو لماذا تشارك القاهرة في مثل هكذا تحركات لا تتقاطع مع مخاوفها أو تهديدات أمنها القومي في المقاوم الأول؟ أو بشكل آخر ما هو حجم القبول المصري بما يطرح في تلك القمم؟

اقرأ أيضًا: استراتيجية إسرائيل الجديدة.. كيف تعالج تل أبيب الغياب الأمريكي في الشرق الأوسط؟

مصر المضطرة والأزمة الاقتصادية

بداية عند محاولة قراءة التحركات المصرية الأخيرة، وحالة الانفتاح على كافة الأطراف الإقليمية، يجب النظر إلى الأزمة الاقتصادية التي دعت الحكومة المصرية مؤخرا لإعلان خطة محددة العناصر والبنود للتقشف في مسعى لمواجهة التداعيات السلبية للحرب الروسية الأوكرانية. فالبعد الاقتصادي هنا يفسر الكثير من سلوك القاهرة خارجيا، خلال الأيام الأخيرة، في الوقت الذي تحتاج فيه لسيولة مالية واستثمارات ودعم عاجل وروابط اقتصادية جديدة.

على الصعيد الدبلوماسي، يرى البعض أن القاهرة ذهبت مضطرة -على الأقل- إلى قمة النقب، وتسجيل الصورة الختامية، والتي ظهر فيها وزير الخارجية سامح شكري متشابك الأيدي مع نظيره الإسرائيلي يائير لابيد، في مشهد يسجله التاريخ أنه الأول من نوعه.

وجهة النظر هذه وفقًا لشخصيات دبلوماسية بارزة، مدعومة بكون القاهرة غير معنية بدرجة كبيرة للدخول في صدام مع إيران. ولكنها في المقابل في حاجة إلى الدعم الاقتصادي لقوى الخليج النفطية. وأيضًا العلاقات الإسرائيلية التي قد تسهل للقاهرة بدائل مناسبة للطاقة والغذاء. وهو الدعم المرهون بدرجة ما بتواجد مصري في التحركات الأخيرة.

سعت مصر منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية نظرًا لحساسية موقفها لممارسة نوع من التوازن المحفوف بالمخاطر. ذلك على أمل تحقيق أكبر قدر من المكاسب مع أقل خسائر ممكنة. وإن كان ذلك أمر بالغ الصعوبة والتعقيد، وسط تقاطع مصالح وأهداف القوى التي تتعامل معها القاهرة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

توازنات مصر والحياد الذي يجنبها الصدام

هنا، يقول أحد المطلعين على جوانب من التحركات الأخيرة، إن القاهرة وإن شاركت في القمم الثلاثة. إلا أن هذا لا يعني أنها متفقة بنفس الدرجة مع ما تطرحه إسرائيل وقوى عربية أخرى. فمصر لا تزال لها محدداتها وحدودها الخاصة في التنسيق مع إسرائيل. وهو ما يجعلها حتى الآن متحفظة نوعًا ما على توسع بعض الدول العربية في التطبيع. وبالتبعية يجعلها ترفض أشكال متعددة من توسيع العلاقات مع تل أبيب. خاصة على المستويات الأمنية والعسكرية بالشكل الذي ربما يمثل تهديدًا لمصالح مصر على مدى زمني أبعد.

مصر تسعى دائمًا في سياساتها إلى الحفاظ على مستوى من الحياد لا يزج بها في خلافات أو صدامات إقليمية. لذلك دائمًا ما يكون لها توازناتها الخاصة. وهي توازنات ربما لا يتقبلها أويتفهمها بعض الشركاء أو الحلفاء في أحيان كثيرة.

ما تداولته وسائل إعلام عبرية خلال الأيام الأخيرة نقلًا عن مسؤولين إسرائيليين، يشير إلى رغبة لدى تل أبيب مدفوعة بدعم من إحدى القوى الخليجية لتشكيل تحالف إقليمي له أبعاد أمنية وعسكرية. ذكرت قناة “كان” الإسرائيلية الرسمية، إن وزير الخارجية يائير لابيد طرح على وزراء الخارجية العرب المشاركين في قمة النقب إمكانية إنشاء تحالف إقليمي.

ونقلت القناة عن مصادر مقربة من لابيد أنه “بحث بالفعل مع وزارء الخارجية إمكانية إنشاء تحالف إقليمي – سواء فيما يتعلق بتهديدات الطائرات الإيرانية المسيرة دون طيار، أو فيما يتعلق بالهجمات البحرية”.

وفي السياق ذاته، تحدثت صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن رؤية إسرائيلية تم طرحها مؤخرًا لنظام دفاعٍ جوي إقليمي للشركاء العرب. بما في ذلك بطاريات دفاع جوي إسرائيلية ليزرية جديدة. لافتة إلى رغبة إسرائيلية في إجراء مناقشات حول إنشاء تحالفٍ عسكري جوي مشترك ضد إيران.

هذا التصور الذي تطرحه إسرائيل وتقبل به قوى عربية، لا تتعاطى معه القاهرة بنفس الحماسة. خاصة أنه يسمح بمستويات غير مسبوقة من التنسيق، التي تجد مصر نفسها غير مضطرة للتجاوب معها. مع إمكانية وجود أشكال أخرى من العلاقات التي توفي بالغرض. كما أنها غير واقعة ضمن بنك الأهداف الإيرانية.

شرق أوسط جديد بعلاقات عربية إسرائيلة أكثر اتساعًا

وفقًا لصحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، نقلًا عن مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى، فإن الغرض من قمة النقب على وجه الخصوص هو “شرق أوسط آخر”. إذ لم تكن هناك قمة بهذا الحجم، تستضيف فيها إسرائيل أربعة وزراء خارجية من الدول العربية.

وأشار المسؤول الإسرائيلي ذاته بحسب الصحيفة العبرية، إلى أن خلفية القمة، هي تعزيز لـ “اتفاقيات إبراهيم” الموقعة في عهد الحكومة السابقة. ذلك إلى جانب تدفئة العلاقات مع الدول العربية الأخرى بما فيها مصر. وأيضًا لمواجهة التهديد الإيراني، والعودة المتوقعة للاتفاق النووي.

وهنا، يمكن القول أن إسرائيل تسعى لاستغلال اللحظة الراهنة، وتوظيف مخاوف القوى الخليجية بشأن نفوذ إيران من جهة، والضغوط الاقتصادية على مصر من جهة أخرى، في توسيع دائرة التطبيع العربي معها وجعله أمرًا واقعًا في العلن. ذلك بعدما ظل لفترات طويلة حبيس الغرف المغلقة. خاصة وأن كافة المخاوف التي تروج لها بشأن إيران ليست جديدة.

فالحرس الثوري لم يكن مدرجًا قبل الاتفاق النووي الموقع عام 2015 على قائمة المنظمات الإرهابية الأمريكية. ما يعني أن الأمر ليس بالجديد، وأنه لا يوجد ما يستدعي محاولاتها بالهرولة نحو اتفاقيات هدفها الرئيسي التطبيع دون التوصل لاتفاق بشأن القضية الفلسطينية.

مصر وإيران والخليج

في الوقت الذي تجد فيه مصر نفسها دائمًا مدعوة من قوى الخليج النفطية، لاتخاذ موقفًا حادًا من إيران، يخالف سياستها القائمة على الحياد، تسعى تلك القوى ذاتها مؤخرًا لانفتاح في العلاقات مع طهران. ففي نهاية ديسمبر الماضي، أجرى مستشار الأمن القومي الإماراتي ورجل المصالحات الشيخ طحنون بن زايد زيارة إلى إيران. وقد كانت هذه الزيارة الأولى من نوعها لمسؤول إماراتي رفيع المستوى. ذلك منذ أن ساءت العلاقات بين البلدين عام 2016. لتعلن بعدها الرئاسة الإيرانية أن الوفد الإماراتي سلّم الرئيس الإيراني دعوة رسمية لزيارة الإمارات.

كما مثلت الزيارة نقلة نوعية في العلاقة بين البلدين، وجاءت تصريحات المسؤول الإماراتي البارز هناك أيضًا بمثابة تطور نوعي هام. قال خلال جلسة مباحثات مع الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني، إن “تعزيز العلاقات الودية والأخوية بين أبوظبي وطهران يعد من أولويات الإمارات”.

الموقف السعودي أيضًا من إيران والتغيرات التي طرأت عليه تدعو لإعادة النظر من جانب القاهرة، بشأن كيفية إدارة واحد من الملفات شديدة الحساسية، بالشكل الذي لا يفقدها ورقة ضغط مهمة في معادلة السياسة بمنطقة الشرق الأوسط الملتهبة. خاصةً في ظل التغيرات المتسارعة التي تطرأ عللى ملفات المنطقة.

ولمعرفة حجم التغير في الموقف السعودي يمكننا العودة إلى تصريحات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. والذي من المقرر له أن يعتلي عرش المملكة بعد والده. ففي السابع والعشرين من أبريل 2021، تحدث بن سلمان عن موقف بلاده من إيران بشكل حمل تبدلًا ملحوظًا في لهجة الرياض.

اقرأ أيضًا: إسرائيل والخليج.. هل نشهد نظامًا أمنيًا جديدًا وما مآلاته على مستقبل التوترات مع إيران؟

قال في مقابلة تلفزيونية: “إيران دولة جارة، وكل ما نطمح له أن يكون لدينا علاقة طيبة ومميزة مع إيران”. وأضاف: “لا نريد وضع إيران أن يكون صعبًا، بالعكس نريد إيران مزدهرة وتنمو، لدينا مصالح فيها، لديهم مصالح في المملكة العربية السعودية لدفع المنطقة والعالم للنمو والازدهار”.

بينما كانت تصريحات ولي العهد السعودي نفسه مختلفة تمامًا في 2017، حينما شدد على عدم وجود نقاط التقاء مع النظام الإيراني. ووصفه بأنه قائم على “أيدولوجية متطرفة منصوص عليها في دستوره”. وأن السعودية هدف رئيسي للنظام الإيراني. كما تعهد، بالعمل على نقل المعركة إلى داخل إيران.

وسط تلك التغيرات الحادة في المواقف الخليجية لشركاء مصر الخليجيين تجاه إيران، يطلب هؤلاء الشركاء من القاهرة موقفًا مصريًا غير متجدد من طهران. رغم كافة المتغيرات والتقلبات التي تعصف بالمنطقة، وبشكل متناقض تمامًا مع سياساتهم تجاه الملف نفسه.

ختامًا يمكن القول إنه لولا الاضطرار الاقتصادي، والأزمة التي تمر بها مصر لما كان للقاهرة أن تقبل بكثير من خيارات الآخرين المفروضة عليها، والتي وجدت نفسها مضطرة إليها وتسعى بقدر الإمكان لتوفيق أوضاعها معها، دعمًا لخدمة الوضع الاقتصادي الحرج.

ورغم ذلك يمكن للقاهرة توظيف ثقلها الإقليمي والدولي، ودورها الذي لا يمكن تجاوزه في بعض الملفات، في منح نفسها مزيد من الحرية في الحركة، والتي سيستتبعها حتمًا انفراجة اقتصادية.