أدت تداعيات أزمة الحرب الروسية الأوكرانية إلى إعادة النظر في السياسة الزراعية. لتحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الاستراتيجية والاهتمام بالزراعة واتخاذ خطوات تبدو جادة نحو تطويرها.

وتعد الزراعات التعاقدية أحد أهم الآليات التي اتخذتها الدولة لتنمية وتطوير الزراعة وتعزيز قدراتها. حيث تضمن للمزارع عملية تسويق مضمونة لمنتجاته وسعر توافقي قبل عملية الزراعة. كما تضمن له بعض الامتيازات أثناء عملية الزراعة مثل تقديم بعض المساعدات المالية مثل الحصول على قروض من جهات التعاقد. وضمان وسائل النقل والإرشاد لزراعي.

وتستند التعاقدات الزراعية إلى عقد بين المنتج والمشتري يلتزم بموجبه المنتج بالتوريد. طبقاً للكميات والأصناف والجودة والسعر وغيرها من الشروط التي يتضمنها العقد.

ماذا يعني تحرير الزراعة

بدأت سياسة تحرير الزراعة خلال فترة حكم الرئيس حسني مبارك، مطلع الثمانينيات، حيث تصاعدت سياسات التحرير الاقتصادي. وتدهورت الأوضاع الزراعية في مصر بشكل متزايد مع انضمام مصر لاتفاقية التجارة الدوليّة.

يعني تحرير الزراعة أن ترفع الدولة يدها عن الأنشطة الزراعية والتوقف عن تحديد الأنواع المستهدفة للزراعة، ووقف تمويل مستلزماتها وتركها لآليات السوق الحر.

وكانت الولايات المتحدة قد قدمت مساعدات زراعيّة لمصر وصل مجموعها، خلال الفترة (1975-2000)، إلى ثلاثة مليارات دولار. ولكنّها كانت مشروطة بشروط وإملاءات؛ كاستيراد مصر الآلات والسلع الزراعية من الولايات المتحدة، مهما زاد سعرها عن بدائلها. كما عملت هذه المساعدات على إجهاض زراعة محاصيل استراتيجية، كالقمح، مقابل الحصول إليها كمساعدات وفقا للكاتب الأردني خالد بشير.

 

القمح المصري
القمح المصري

وفي عام 1974، صدر القرار رقم (69) لعام 1974، والذي ألغيت بموجبه وصاية الدولة على الأراضي الزراعيّة غير المملوكة. وهو ما ترتب عليه تسليمها للملّاك وإخلاء الأراضي من المزارعين الذين كانوا يحوزونها بالإيجار من الدولة بشكل تدريجي. وتسارعت عملية طرد المستأجرين مع إقرار البرلمان المصري، عام 1975. قانوناً نصّ على إمكانية طرد المستأجر من الأرض حال تأخّره مُدّة شهرين عن دفع الإيجار.

ومع نهاية حكم السادات، عام 1981، أُقرّ قانون رفع الحدّ الأقصى لمُلكيّة الفرد إلى ألفيْ فدّان، وللأسرة إلى ثلاثة آلاف فدّان. والشركات إلى عشرة آلاف فدّان، وجاء هذا القرار تلبيّةً لمصالح شركات القطاع الخاص ذات النفوذ المتنامي خلال عقد السبعينيات. ولتبدأ بذلك حقبة جديدة من تركيز الأراضي في أيدي قلّة من رجال الأعمال والشركات الصاعدة خلال حقبة الانفتاح. وسرع من وتير التحرير.

حل التعاونيات

قبل ذلك صدر في عام (1976)، قرار بحلّ الاتحاد التعاوني المركزيّ، كمقدمة لتصفية الحركة التعاونية الزراعيّة. بناء على تقرير البعثة الأمريكيّة لمصر، بإشراف وتمويل من منظمة التنمية الأمريكية. والتي قدّمت تقريراً أكدت فيه أنّ النظام التعاوني الزراعي في مصر يعاني خللا، وبناءً على هذه التوصية تم حل الاتحاد التعاوني.

كان الاتحاد التعاوني يضم وقتها حوالي خمسة آلاف جمعيّة منتشرة على امتداد البلاد، و3 مليون مشترك وينتهي بناؤها الهرمي بالاتحاد التعاوني المركزيّ، وكانت تقوم بأدوار مهمّة لإسناد ودعم الفلّاح؛ فتقدم مستلزمات الإنتاج (من بذور وأسمدة ومبيدات) بأسعار مدعومة، وتتولّى مهمة تسويق المحاصيل الزراعية حمايةً للفلاحين من استغلال التجار والسماسرة.

وفي عام 1992 صدر قانون “إصلاح العلاقة الإيجاريّة بين المالك والمستأجر” ليقضي على ما تبقي من مكتسبات الزراعة المصرية. فسمح القانون بتحرير أسعار إيجار الأراضي الزراعية، وإمكانية استعادة الملاك الأراضي المؤجرة في حال عجز المزارعين عن السداد.

ومع انضمام مصر لاتفاقية التجارة الدوليّة (الجات)، عام 1995. والتي تلزم الدول الموقعة برفع وإزالة الحواجز الجمركيّة على البضائع والمنتجات المستوردة ومن ضمنها الزراعيّة. وهو ما أدى سريعاً إلى تدهور الإنتاج المحليّ الزراعي والصناعات المرتبطة به.

إجراءات متأخرة

والسؤال هنا هل تنجح إجراءات الدولة المتأخرة في ترميم تصدعات الزراعة المصرية المتراكمة منذ 40 عام؟

على الرغم من صدور قانون الزراعات التعاقدية رقم 14 لعام 2015. والذي نص على تأسيس مركز يسمى مركز الزراعات التعاقدية، يُنشأ بوزارة الزراعة واستصلاح الأراضي. ويختص المركز وفق المادة الثانية من هذا القانون بتسجيل عقود الزراعة التعاقدية متى طلب أي من الطرفين ذلك. التوعية والإرشاد والترويج للزراعات التعاقدية، هذه النصوص رغم وجاهتها. لكنها لا تطبق على أرض الواقع لعدم وجود ضامن لها يلزم أحد الطرفين بالتنفيذ حال عدم التزامه بالعقد. حيث لا تتجاوز حجم مساحات الزراعات التعاقدية في مصر (1.2 إلى 1.3 مليون فدان) تمثل تقريبا 5% إلى 6% من جملة المساحات المحصولية. وفقا للدكتور محمد يوسف أستاذ الزراعة والمكافحة الحيوية بكلية الزراعة جامعة الزقازيق.

وأضاف “يوسف”، أن الزراعة التعاقدية تساهم في تأمين وحماية المزارعين من مخاطر التقلبات السعرية. لأنها هي حجر الأساس لضمان استمرارية الإنتاج الزراعي ولضمان تسويق المحصول للمزارعين بأعلى هامش ربح. مؤكدًا أنه لا تزال أزمة تسويق المحاصيل الزراعية أحد المعوقات الرئيسية التي تهدد الزراعة. ما أدى إلى عزوف الفلاحين عن زراعة المحاصيل الاستراتيجية التي تمثل الأمن الغذائي مثل القمح، الأرز والذرة بأنواعها. والمحاصيل التي تتميز فيها مصر عن الخارج كالقطن.

اختصاصات

يهدف المركز إلى زيادة مستويات دخول المزارعين، وزيادة كفاءة استثمار المـوارد الزراعية المتاحة وزيادة معدلات التصدير. وتعزيز القدرة التنافسية للمنتجـات الزراعيـة في الأسواق المحلية والدولية وسرعة الفصل في النزاعات الناشئة عـن عقـود الزراعـة التعاقدية أو بسببها. عن طريق مكتب التحكيم بالمركز، وذلك بمراعاة أحكام القوانين المصرية المنظمة للتحكيم وتسوية المنازعات.

الدكتور سعد نصار مستشار وزير الزراعة واستصلاح الأراضي. قال لــ360 إن الدولة بدأت حاليا في إضافة بعض المحاصيل الاستراتيجية ضمن المحاصيل التعاقدية مثل القطن. فول الصويا، وعباد الشمس، والمحاصيل الزيتية والتوسع فيها بالتعاون بين وزارة الزراعة والتموين والذرة الصفراء لأهميتهم في صناعة الأعلاف والزيت ويجري بحث إضافة القمح إليها.

وذكر أنه يمكن التوسع فيها حال تعاقد وزارة التموين الشركة القابضة للصناعات الغذائية والتجارة الداخلية. على التعاقد مع المزارعين لتحفيزهم خاصة ولدينا عجز في هذه المحاصيل. ولا تغطي 15% من استهلاكنا تحتاج خاصة البقولية الفول والعدس.

بالإضافة إلى المحاصيل التعاقدية القديمة مثل القصب وبنجر السكر وقطن الاكسار مع وزارة الزراعة، التي يأخذ منها التقاوي للعام القادم. ولفت إلى أهمية التنسيق بين الشركات والمزارعين لشراء المحاصيل الاستراتيجية لضمان استمرارها مثل محصول القطن التجاري. الذي يواجه العديد من المشاكل في عملة التسويق مع الشركة القابضة للغزل والنسيج. كما تتعاقد شركات السكر مع مزارعي البنجر والقصب.

كما دعت وزارة التموين والهيئة العامة للسلع التموينية على التعاقد مع المزارعين على شراء القمح. وهو محصول شتوي حيوي مع الفول البلدي عن طريق الهيئة العامة للسلع التموينية. والذرة الصفراء يمكن التعاقد عليها مع الاتحاد العام لمنتجي الدواجن.

سياسات تحفيزية

وعن مميزات الزراعة التعاقدية ذكر نصار أن التعاقد مع المزارع على السعر والمساحة قبل عملية الزراعة وهو نوع من التحفيز. لأن المزارع يكون ضامن السعر قبل الزراعة، وبعض أنواع الدعم من الجهات المتعاقدة للفلاح. مثل تقديم الإرشاد والتقاوي كما تفعل شركات السكر.

أزمة التسويق

ووفقا للدكتور شريف فياض أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة القاهرة. تواجه الزراعة المصرية أزمة في عملية التسويق المنتجات الزراعية التي لا يستهلكها المواطن بشكل مباشر. مثل القطن والقمح وفول الصويا وغيرها، خاصة من أصحاب الحيازات الصغير لا يجد جهة تفاوض نيابة عنه.

وأشار إلى أن أكثر المحاصيل التي تتعرض لهذه المشاكل هو محصول القطن تكررت خلال 5 أعوام الماضية. مما أدي لانخفضت المساحة من 380 ألف فدان إلى 100 ألف فدان تقريبا.

وأكد أن عملية الربط بين المزارع والمصانع ضرورية للطرفين المزارع والمصنع. حيث توفر وتضمن المواد الخام للمصانع ويستفيد المزارع بالتسويق وبعض أنواع الدعم.

تجمعات زراعية

وقال فياض لمصر 360 إن وضع سياسة سعرية عادلة للمحاصيل لابد من إحداث تجمعات زراعية. ما يتطلب دور فاعل ونشط لاتحاد منتجي هذه المحاصيل او تفعيل دور الجمعيات التعاونية. لتكون فاعلة في رسم السياسة السعرية للمحاصيل وفقا لمدخلات الزراعة وتكلفة الإنتاج.

وشدد فياض علي ضرورة إعادة هيكلة التعاونيات لتصبح حلقة ربط بين المزارع والمصنع. بداية من تحديد سعر مجزي للفلاح عند التعاقد على المحصول وتوفير المواد الخام للمزارعين. لافتا أن المصنع يستفيد أيضا من النظام التعاقدي في الحصول على مواده من المزارع مباشرة بدون وسيط. فيحصل عليه بسعر أقل ويضمن ثبات الكمية التي يحتاجها سنويا.

تنوع المحاصيل

ويرى اللواء مختار فكار رئيس رابطة مزارعي قصب السكر بقنا أن التعاقدات تضمن ثبات مساحات المحاصيل. وفقا لاحتياجات السوق المحلي على الأقل، لكن لابد أن يكون السعر مجدي للمزارع تحديد هامش ربح جيد. خاصة في ظل ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج الزراعي من الأسمدة خاصة في محصولي القمح والقصب. مشيرا إلى أن فدان القصب من السكر يحتاج من 7 الـ10 شكاير من الأسمدة ولم يحصل المزارعين علي حصصهم من الجمعيات الزراعية حتي الآن.

وأضاف أن أعباء نقل محصول القصب مكلفة يتحملها المزارع على نفقته رغم أن عقود التوريد تلزم الشركة بتوفير وسائل على حسابها. مشيرا إلى وقف خطوط النقل بمركز أبو تشت والواحات، مما يكبد المزارع مصاريف نقل تزيد من تكلفة الإنتاج.

الدورة الزراعية

طالب فكار وزارة الزراعة بالتكاتف مع مراكز البحوث الزراعية بتفعيل دور الزراعة التعاقدية لهذين المحصولين. وذلك لأهميتهما النسبية بتغيير سلالة القصب المزروعة حالية (س9) والتي يتم الاعتماد عليها منذ 60 عام حسب قوله. مما أدى إلى ضعف الإنتاجية، موضحا: “أن 90% من المحصول يتعرض للتسوس بسبب قدمها. ولا تجدى معه العلاج بالمبيدات، وطالب باستحداث سلالة جديد لضمان إنتاج واستمرا زراعة القصب السكر. والحفاظ على المساحة المحصولية اللازمة لصناعة السكر و11 صناعة أخرى مرتبطة به.

وثيقة تأمين الفلاح

أما محمد بربش الفلاح الفصيح أشار إلى أن مركز الزراعات التعاقدية منذ تأسيسه لم يقوم بمهامه حتى الآن في حماية المزارعين. مشيرا إلى أن المزارعين قاموا بزراعة الذرة تحت وعد من وزير الزراعة السابق عز الدين أبو ستيت. بأن اتحاد منتجي الدواجن سوف يشتري المحصول. الأمر الذي لم يحدث حتى وصل سعر الإردب 140 جنيه بعد أن رفضوا تنفيذ البرتوكول.

واقترح بربش بعض الآليات لحماية المحاصيل الزراعية وتأمين الفلاح منها إطلاق “الوثيق التأمينة” ضد مخاطر الزراعة. مثل التقلبات المناخية التي تحدث الآن وانخفاض أسعار المحاصيل والثروة الحيوانية والداجنة. على أن تمول بقيمة 25% من الفلاح 50% من الدولة والربع الاخير من قبل وزارة الزراعة، لتوفير حماية لزراعة.

واقترح بربش أيضا العقد الثلاثي الذي تضمنه الدولة بين الفلاح والمتعاقد لأن الفلاح ينتج تحت شروط أحسن مواصفات ومرتبط بسعر. ورغم ذلك عند الاستلام يتم تغير الأسعار في عملية ابتزاز واضحة.

وللحد من عملية الابتزاز طالب بربش بعمل قسم خاص للزراعات التعاقدية تابع لوزارة الزراعة بكل مديرية. أيضا أن تضمن العقد غرفة التجارة والصناعة التابعة لها ضمان لاستلام المبلغ المتفق عليه.

 

وانتقد بربش دور الاتحاد التعاوني وقال نه لا يحمي المزارعين ويكتفي بتوزيع المكافآت على الأعضاء.

من جانبه قال الدكتور محمد القرش مساعد وزير الزراعة والمتحدث باسم الوزارة. إن الوزارة دورها تنسيقي بين المنتجين والفلاح مثل تقوم بالربط بين مزارعي البنجر والقصب. وتتوسع حاليا في هذا المجال خاصة بعد صدور قانون الزراعات التعاقدية. وأدخلت أنواع جديدة للتوسع فيها مثل زهرة العباد وفول الصويا.

وأشار إلى أن الوزارة تتعاقد بنفسها عن القطن الاكسار مع جمعية منتجي القطن والمزارعين. قائلا: “هناك مجموعة من المحاصيل نقوم بعمل زراعة تعاقدية لها ومحصول القمح يعتمد على هذا الأمر”.

وأكد في تصريحه لمصر 360 أن هناك توجيه سياسي بوضع حوافز إضافية، وتزويد نقط التجميع. وتم اتخاذ إجراءات هدفها زيادة إنتاجية الفدان وتطوير إنتاجية الأقماح. بحيث يتم تعاقد بين المنتج والمصنع بحيث حتى يصبح هناك تعاون متكامل.

وقال القرش إن المجموعة التحفيزية تتضمن وضع خطوات عملية لسد الفجوة الإنتاجية للمحاصيل الزيتية. ورفع نسبة الاكتفاء الذاتي من 2 إلى 10% على الأقل، وهذا يستلزم أن يكون هناك تعاقد بين المنتج والمصنع والمستهلك. بحيث يكون التعاقد ثلاثي بين المزارع والمصنع ووزارة التموين، لأن وزارة التموين تعمل على حل مشكلة الزيوت في مصر.