في الأسابيع الأخيرة، أدت العقوبات الغربية على روسيا بسبب حربها في أوكرانيا، إلى اضطراب أسواق الطاقة العالمية. ومع ذلك، واصلت المملكة العربية السعودية رفض طلبات إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، لزيادة إنتاج النفط. ذلك الطلب الذي فرض تساؤلات عدة عن تحالف ممتد لـ 77 عامًا بين واشنطن والرياض، هو الآن يشهد تغيرات جذرية خطيرة في ظل سعودية بن سلمان، كما يرى الباحثان ياسمين فاروق وأندرو ليبر في مقال بمجلة “فورين أفيرز” الأمريكية.

لقد عرفت العلاقات الأمريكية السعودية التوترات وغرقت في دوامة هبوط بدأت بأحداث 11 سبتمبر. وما تلاها من توترات حول الحرب على الإرهاب، والتدخل الأمريكي في العراق. ذلك فضلًا عن سعي واشنطن إلى إبرام اتفاق نووي مع إيران. وأيضًا الحرب التي تقودها الرياض في اليمن وسجل السعودية في مجال حقوق الإنسان. لكنها أبدًا ما وصلت إلى الحد الذي وصلت إليه مع صعود ولي العهد محمد بن سلمان. وخاصة في الحرب الأخيرة على أوكرانيا.

بن سلمان.. ما الذي تغير سعوديًا تجاه أمريكا؟

يتساءل البعض في مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية عما إذا كان ولي العهد قد تعلم شيئًا من سنواته الأولى في السلطة. إلا أنهم قد نسيوا السؤال الأهم لأنفسهم عما تعلموه خلال نفس الفترة الزمنية.

يقول الباحثان إنه لسوء الحظ، تشير تصرفات إدارة بايدن على مدار الخمسة عشر شهرًا الماضية إلى أن العديد من صانعي السياسة الأمريكيين فشلوا في فهم مدى تغير موقف المملكة بشكل أساسي تجاه الولايات المتحدة. خاصة في السنوات الخمس التي انقضت منذ أن أصبح محمد بن سلمان الحاكم الفعلي.

وقد حدث هذا التحول جنبًا إلى جنب مع التخفيض المستمر للمصالح السياسية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. حيث قاد بايدن الإدارة الأمريكية الثالثة على التوالي التي سعت إلى تقليص الالتزام بالعمل العسكري في المنطقة.

اقرأ أيضًا: سعودية بن سلمان.. كل شيء قابل للتحديث إلا نظام الحكم

وفي ظل ذلك الوضع الجديد، سعى القادة السعوديون إلى التكيف مع هذا الانجراف بتعزيز مجموعة أكثر تنوعًا من العلاقات الاقتصادية والأمنية العالمية.

وفق الباحثين، فإن بايدن تولى منصبه وهو يتوقع ما يمكن أن تعتمد عليه أجيال من الرؤساء الأمريكيين: صداقة خاصة مع المملكة تقوم على مبيعات الأسلحة والتنسيق الأمني ​​وإنتاج النفط.

لكن هذا التوقع أخلفه محمد بن سلمان. إذ لم يخف حقيقة أنه ينوي إعطاء الأولوية لمصالح المملكة في أسواق النفط العالمية. وأيضًا للعلاقات مع القوى الغربية وغير الغربية الأخرى للمساعدة في تعزيز سيطرته على بلاده. ذلك بدلًا من الإصرار على تلقي الفوائد التقليدية للعلاقة الأمريكية – السعودية.

تفقد أمريكا حاليًا الغطاء السياسي العالمي والحماية العسكرية الإقليمية التي قدمتها الإدارات الأمريكية تقليديًا للحكام السعوديين. ويجب على إدارة بايدن تبني نهج أكثر براغماتية. مع السعي إلى التوسع. وكذلك إقامة العلاقات الثنائية وممارسة النفوذ الأمريكي بطرق جديدة، وفق فاروق وليبر.

سعودية بن سلمان.. التحول الذي لم تفهمه إدارة بايدن

لقد تغير الخطاب السعودي والسياسة الخارجية كليهما بشكل كبير منذ نهاية إدارة ترامب. ففي قمة يناير 2021 في العلا، بدأت المملكة العربية السعودية عملية مصالحة مع قطر -وتقارب مع عُمان والكويت. بينما ابتعدت عن مواقف جارتها المتشددة، الإمارات.

منذ ذلك الحين، كثفت الرياض من مشاركتها مع العراق، وجهودها لإعادة العلاقات الدافئة مع الحلفاء التقليديين مثل مصر والأردن والمغرب وباكستان. وقد واصل ولي العهد أيضًا مشروعًا استمر لسنوات من الارتباط الوثيق مع الصين وروسيا. وهي شراكات مع قادة متشابهين في التفكير من غير المرجح أن تنقلب بسبب السياسات الانتخابية كما هو الحال مع أمريكا.

وعلى الرغم من أن خطاب المملكة لم يتغير كثيرًا عندما يتعلق الأمر بمواجهة الجهات الفاعلة المدعومة من إيران في المنطقة. لكنها تبنت نهجًا أكثر مرونة تجاه إيران في الممارسة العملية. وقد اضطرها إلى ذلك أن إدارة بايدن تنتهج الدبلوماسية مع الجمهورية الإسلامية بدلًا من حملة “الضغط الأقصى” التي بادر إليها ترامب.

في عام 2021، اعترفت المملكة علنًا بأنها تواصل محادثات جارية مع إيران لتهدئة التوترات. وقد أعربت عن دعمها الحذر للاتفاق النووي لعام 2015 المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA). بينما تراجعت عن آمالها في تحقيق نصر عسكري في اليمن، وإن كان ذلك مع الاحتفاظ بالحق في التعامل مع هجمات الحوثيين. وحتى فيما يتعلق بلبنان، الذي كان القادة السعوديون قد شطبوه بالكامل على أنه خاضع لسيطرة إيران، وافق محمد بن سلمان مؤخرًا على التعاون مع فرنسا من أجل نزع فتيل الأزمة الاقتصادية فيه.

رؤية 2030.. التحول الديني والسياسي

أما في الداخل، فتظل السيطرة السياسية أولوية قصوى لمحمد بن سلمان. من المؤكد أنه أطلق سراح عدد من السجناء السياسيين. ومع ذلك، لا يزال القمع الممارس داخليًا عنيفًا. ولا دليل أبرز على ذلك أكثر من عملية الإعدام الجماعي في 12 مارس/آذار لـ 81 سجينًا نصفهم تقريبًا من الأقلية الشيعية بتهم الإرهاب. وهي عملية دفعت إيران إلى إعلان وقف المفاوضات الثنائية مع السعودية. في رد فعل متوقع وثمن كان القادة السعوديون على استعداد لدفعه بوضوح.

يقول الباحثان ياسمين فاروق وأندرو ليبر، إنه على الرغم من القمع السياسي الداخلي في المملكة. إلا أن العديد من المواطنين السعوديين يقدرون التحسينات الهادفة في نوعية حياتهم اليومية. وعلى عكس انتقادات البعض لخطة رؤية 2030 باعتبارها مجرد مشروع باطل. فإنها خففت القيود الحكومية على الحريات الاجتماعية. كما حسّنت من كفاءة العديد من خدمات الدولة. وكذلك منحت المرأة الوصول إلى الحقوق القانونية والاقتصادية والتعليمية. وأيضًا أدخلت تحسينات صغيرة ولكن ثابتة في الاقتصاد غير النفطي.

وقد شهدت السنوات الأخيرة أيضًا تغيرًا في مكانة الدين بالبلاد. إذ خلص صناع القرار السعوديون المجال العام الخاضع للسيطرة الدينية المشددة. ذلك بتغييرات شاملة من أعلى إلى أسفل. وقد وصلت إلى الحد من الدور التاريخي للسلطات الدينية في ترسيخ حكم العائلة المالكة. كما سعت الحكومة إلى تصوير رؤية 2030 لولي العهد على أنها مصدر جديد للشرعية.

اقرأ أيضًا: “السلطة المطلقة”.. محمد بن سلمان: لا يحق لأحد التدخل في شؤون المملكة

بايدن ومحاولة ضبط العلاقات الثنائية

يقول الباحثان إن بايدن وإدارته حاولا إعادة ضبط العلاقات الثنائية مع السعودية لمعالجة تداعيات السنوات الأولى من نشاط السياسة الخارجية لولي العهد. خاصة مقتل جمال خاشقجي منتقد النظام السعودية الذي تخلصت منه المملكة في إسطنبول. وانتهت الولايات المتحدة إلى مسؤولية ولي العهد عن مقتله. فضلًا عن سجن نشطاء حقوق المرأة. وغيرها من ممارسات القمع بحق المعارضين، والتي جعلت محمد بن سلمان عبئًا سياسيًا على القادة الأمريكيين، لا يمكن لأي قدر من الحديث عن الأهمية الاستراتيجية للمملكة العربية السعودية أن يبطل أثره.

الصحفي السعودي جمال خاشقجي
الصحفي السعودي جمال خاشقجي

وقد أدى مقتل خاشقجي -على وجه الخصوص- إلى تكثيف القلق العام بشأن الحملة العسكرية الطويلة للتحالف بقيادة السعودية في اليمن. وأيضًا وضع مبيعات الأسلحة للسعودية تحت رقابة دائمة من قبل وسائل الإعلام الأمريكية. كما ولد جهودًا لمنع مثل هذه المبيعات في الكونجرس الأمريكي. وقد ساعد تصنيف المملكة العربية السعودية على أنها “منبوذة” في الحملة الانتخابية لبايدن واتخاذ إجراءات مبكرة لمعاقبة حاشية ولي العهد، في إظهار الرئيس الأمريكي على أنه يلتزم بسياسة خارجية قائمة على القيم، في تناقض حاد مع سياسة إدارة ترامب.

التخلي الأمريكي عن الشرق الأوسط

إن أولويات السياسة الأمريكية في المنطقة تحت حكم إدارة بايدن تتمثل في إنهاء التدخل الأمريكي المباشر في اليمن وإعادة تأسيس اتفاق نووي مع إيران. وهو ما يراه الباحثان معززًا للشكوك السعودية بشأن التزامات الولايات المتحدة بأمن المملكة (والنظام السعودي).

لقد سيطرت “عقيدة أوباما” المتمثلة في تقليص الالتزامات العسكرية الأمريكية تجاه الشركاء القدامى. وذلك منذ عهد ترامب. فعلى الرغم من أن إدارة ترامب توددت إلى السعودية بصفقات الأسلحة ومزيج من الكلام المتشدد والعقوبات الساحقة والعمل العسكري العرضي ضد إيران وحلفائها. إلا أن ترامب واصل اتجاهه للحد من العمل العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط. ذلك من خلال رفض الرد على الهجمات على البنية التحتية النفطية السعودية.

وبدلًا من رسم مسار جديد للعلاقة، اعتمدت إدارة بايدن على دليل مألوف: حماية قدرة المملكة على شراء الأسلحة الأمريكية (واستبعاد أي ثمن لانتهاكات حقوق الإنسان السعودية). في مقابل التنسيق الأمني ​​وامتيازات سياسية أخرى.

عواقب التجاهل الأمريكي لـ”بن سلمان”

يقول الباحثان إن معظم المعينين لسياسة بايدن في الشرق الأوسط يؤمنون بشدة بأهمية الشراكة مع المملكة العربية السعودية. كما يقبلون أن قدرتهم على تشكيل سلوك النظام السعودي لها حدود. وبناءً على ذلك، أفسحت المناقشات حول القيم في العلاقة الأمريكية السعودية الطريق أمام الخطاب المألوف للشراكة التي تعتبر “شراكة حيوية”، على حد تعبير وزير الخارجية أنتوني بلينكين.

تعاملت إدارة بايدن مع أوضح دليل على التغيير في المملكة العربية السعودية -الدور الأساسي لمحمد بن سلمان في صنع السياسة السعودية- من خلال تجنبه تمامًا. مع اختيار التظاهر بأن محمد بن سلمان هو ولي العهد النموذجي الذي يعمل فقط في وظيفة يومية في واحدة من الوزارات البارزة في المملكة.

تعاملت معه باعتباره أنه يمكن استبعاده من المناقشات الثنائية بين رئيسي الدولتين. ولقد أساءت هذه الاستراتيجية قصيرة المدى إلى محمد بن سلمان. بينما قدمت غطاءً ضئيلًا لحقيقة أن الإدارة ليست مهتمة بمقاضاة انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية.

وقد أثر تجنب ولي العهد الذي مارسته الولايات المتحدة في مجالات أخرى من العلاقات الثنائية بين البلدين.إدارة للعلاقة. وفي ظل الحرب الأوكرانية الأخيرة والضغوط على أوروبا التي مارستها روسيا ازداد شعور المملكة العربية السعودية بالأهمية الذاتية في أسواق النفط العالمية. وقد ورد أن القادة السعوديين يطالبون بتنازلات من إدارة بايدن. ذلك مثل زيادة الدعم لحرب المملكة في اليمن. وكذا الحصانة القانونية في الولايات المتحدة لمحمد بن سلمان. فضلًا عن التعاون في المجال النووي. وذلك كله فقط مقابل زيادات في الإنتاج يمكن أن تعوض ارتفاع الأسعار الناتج عن العقوبات المفروضة على روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا.

يقول الباحثان إن محمد بن سلمان سيستمر في الضغط على الولايات المتحدة مستغلًا الموقف الراهن. وهو واثق من أن احتياطيات بلاده النفطية وثروتها ستردع ردود الفعل الرسمية الأمريكية والغربية. بالإضافة إلى ذلك، فإن التحدي العام للدعوات الأمريكية والغربية لزيادة الإنتاج يلعب بشكل جيد في الداخل من خلال تسليط الضوء على مكانة المملكة العربية السعودية كلاعب رئيسي في الاقتصاد العالمي.

اقرأ أيضًا: بن سلمان يستغل الحرب الروسية لتأمين انتقال آمن ومبكر إلى عرش السعودية

ما الذي على الولايات المتحدة فعله؟

يفند الباحثان مجالات النفوذ والقوة التي يمكن أن تستغلها الولايات المتحدة في علاقاتها مع السعودية. وهما ينطلقان من حقيقة إنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تأخذ دعم السعودية كأمر مسلم به. ذلك إذا ما وضعنا في الاعتبار استهتار الإدارات الأمريكية المتعاقبة بتأثير السياسات الأمريكية بعد 11 سبتمبر في الشرق الأوسط على مكانتها في الرياض. وأنه يجب على صانعي السياسة الأمريكيين أن ينظروا إلى مصالح المملكة على المدى الطويل. ذلك لتحديد نقاط النفوذ.

وما هو جلي في هذا الشأن أن مصالح المملكة تتشابك بشدة مع طموحات محمد بن سلمان الشخصية لرؤية 2030.

80% من سلاح السعودية أمريكي

يرى الباحثان أن صفقات السلاح هي أبرز مجالات النفوذ الأمريكي على السعودية. ذلك على الرغم مما تبدو عليه محاولات السعودية التكيف أو البحث عن مصادر أخرى للأسلحة أو الاستثمارات أو التكنولوجيا كلما أغلقتها واشنطن أو امتنعت الشركات الأمريكية عن الاستثمار.

ففي الوقت الحالي لا تستطيع الرياض الابتعاد تمامًا عن واشنطن كمورد لسلاحها. إذ لا تزال الولايات المتحدة توفر معظم الأسلحة التي تؤمن النظام السعودي ضد الخصوم الأجانب والمعارضة المحلية. وهي تمثل ما يقرب من 80% من واردات الأسلحة السعودية من 2016 إلى 2021. وبناءً عليه لا يمكن للمملكة أن تنتقل بسهولة إلى مورد آخر للأسلحة بعد عقود من بناء قواتها المسلحة وأجهزتها الأمنية على الذخائر والأسلحة الأمريكية.

55% من الطلاب السعوديين بالخارج يتلقون تعليمًا أمريكيًا

أيضًا، تشكل تطلعات الاقتصاد المعرفي لرؤية السعودية 2030 وسيلة أخرى لنفوذ الولايات المتحدة، إن لم تكن مصدرًا مباشرًا للضغط. إذ لا تزال الجامعات الأمريكية هي الهدف الرئيسي للسعوديين الذين يسعون للدراسة في الخارج.

وقد التحق 55% من الطلاب السعوديين الذين يدرسون في الخارج بمنح ممولة من الحكومة في مؤسسات أمريكية في عام 2019. ذلك مقارنة بـ 0.4% فقط في المدارس الصينية.

ومع ذلك، فمن الواضح أن الرياض استثمرت أكثر بكثير مما استثمرت واشنطن في بناء الأدوات الدبلوماسية لتشكيل العلاقات الأمريكية السعودية المستقبلية. إذ تعتمد مؤسسات الدولة في المملكة على خبرة مئات السعوديين الذين أمضوا وقتًا طويلًا في الولايات المتحدة.

تقدم المواجهة الحالية بشأن إنتاج النفط لصناع السياسة الأمريكيين فرصة لإعادة التفكير في المسار المستقبلي للعلاقة الثنائية. لقد قرأ محمد بن سلمان ومستشاريه بوضوح فهم أن الالتزامات الأمنية الأمريكية المتناقصة تمنح المملكة مساحة أكبر للعمل بشكل مستقل عن الولايات المتحدة دون إثارة الكثير في طريق رد الفعل العنيف.

وفي المقابل، فإن إدارة بايدن يمكنها رسم مسار جديد للعلاقة من خلال إيجاد طرق للاستفادة من مخاوف المملكة. ذلك في سبيل نيل تنازلات سياسية منها وتحديد تعويض مقبول للطرفين عن أي خسائر اقتصادية واستراتيجية حاصلة.