انتهيت في المقال السابق إلى بيان السمات الخمس الأساسية للخلاف السني الشيعي على مدار العقود الخمسة التالية للثورة الإيرانية ١٩٧٩. وهي: ١-مروره بموجات ثلاث متعاقبة متراكمة. ٢-ظللها التنافس الجيوسياسي بين السعودية وإيران أساسا. ٣-انتشر هذا الصراع حيث ساد ضعف الدولة وانهيار السلطة المركزية فيها. ٤-هيمن عليه صدام التطرف في كل جانب بما أضعف المعتدلين وحرق الجسور التي كانت تخفف من حدة الصراع. وأخيرا فإن العوامل الخارجية قد عمقت النظر للمنطقة من منظور الانقسام الطائفي والمذهبي والعرقي وقامت بهيكلتها دستوريا ونظاميا.
في هذا المقال أحاول استشراف ملامح الخلاف السني الشيعي والذي أتصور أنه يمر عبر المحددات الخمسة التالية:
أولا: تصاعد المذهبية الجيوسياسية:
ففي المستقبل كما في العقود الخمسة الماضية سيستمر التنافس السعودي الإيراني. وإن تغيرت بعض ملامحه وازداد تعقيدا وتركيبا بحكم عوامل ثلاثة مستجدة:
١-محور التطبيع أو ما يطلق عليه “المحور الإبراهيمي” الذي يتشكل في مواجهة إيران. ويجعل الكيان الصهيوني جزءا من ترتيبات الأمن الإقليمي لدول الخليج أساسا وبعض الدول العربية الأخرى أيضا.
وإذا كان ما يسمى “المحور الإبراهيمي” هو موضوع لإعلان الشراكة الاسترتيجية الخليجية الإسرائيلية وليس لحل قضية الشعب الفلسطيني فإن قمة النقب -مارس ٢٠٢٢- تهدف إلى إضفاء الشرعية الإقليمية على إسرائيل بعد ما يقرب من عامين من توقيع اتفاقات التطبيع.
لن أحلل أبعاد ذلك على المنطقة ولكني أكتفي بالإشارة إلى ملمح واحد. وهو عودة المنطقة مرة أخرى إلى سياسات المحاور التي برزت بعد الربيع العربي. حين انقسمت بين ثلاثة محاور متصارعة (التركي القطري-والسعودي الإماراتي المصري-والإيراني). وقد شهدنا على مدار السنتين الماضيتين تخفيفا لحدة التنافس الإقليمي بين المحورين الأوليين. ولكن على ما يبدو فإن ذلك كان أحد أسبابه الكامنة مواجهة الخطر الإيراني.
المشكل مع سياسات المحاور هذه أن تكلفتها على شعوب المنطقة كانت باهظة. ولم يستطع أحدها أن يحقق نصرا حاسما. وتحول الصراع إلى مباريات صفرية. ولم تفلح الأطراف فيما بينها أن تطور -عبر الحوار- نظاما للأمن الإقليمي يضمن تخفيف حدة التنافس.
إن دخول الكيان الصهيوني كقائد أو على أقل تقدير في مقدمة سياسات المحاور -والتي كان في الفترة السابقة من وراء ستار- من شأنه أن يعمق النظر إلى المنطقة من منظور الانقسامات المذهبية والطائفية والعرقية. فهذه النظرة تضفي شرعية على وجوده باعتباره دولة يهودية بين واقع مقسم.
٢-موقع تركيا من هذا الصراع. حيث توجد مناطق اشتباك استراتيجي بينها وبين إيران في المشرق العربي وجنوب القوقاز. صحيح أن الدولتين -حتى الآن- لا تستخدمان البعد المذهبي في تنافسهما. لكن إيران تدرك أنها مسألة وقت فقط قبل أن تشكل تركيا تهديدًا خطيرًا للمكتسبات التي حققتها في المنطقة منذ الثمانينيات. كما قد تدفع التحديات الاقتصادية الضخمة التي تواجهها تركيا إلى مزيد من التقارب مع محور التطبيع.
٣-تشهد السعودية مع “بن سلمان” تحولا عن الوهابية التي استخدمت بكثافة في مواجهة الشيعة. مما قد يخفف من توظيف الأبعاد الثقافية والأيديولوجية في الصراع لصالح العوامل الجيواستراتيجية.
ولكن يلاحظ أن إحياء القومية السعودية دون الوهابية لم يشهد مراجعات فكرية للإنتاج المذهبي الضخم في مواجهة الشيعة. خاصة في ظل التهديد المباشر للأراضي السعودية ولأول مرة من قبل أحد وكلاء إيران.
وفي المقابل يشكل الشيعة أقلية والفرس أقلية أصغر في المنطقة. ولهذا السبب ومن أجل إظهار القوة والنفوذ كان على طهران أن تتفوق في فن استخدام الوكلاء من خلال استغلال الانقسامات الطائفية في الدول الهشة.
ثانيا: إعادة صياغة علاقة المنطقة بالقوى الكبرى في النظام الدولي
نظرًا لأن الولايات المتحدة ستلعب دورًا أقل نشاطًا في المنطقة فإن القوى الإقليمية والقوى العالمية الأخرى ستتولى المهمة.
على الجانب السلبي فإن ذلك يزيد المنافسة بين الأطراف الإقليمية نتيجة شعورها بالتهديد كما نلحظ في السعودية والإمارات. وقد يدفع إيران لأن تكون أكثر عدوانية وتهديدًا للاستقرار والأمن الإقليميين كما يظهر في هجمات الحوثيين.
على الجانب الايجابي -وفي ظل عدم رغبة أو قدرة الصين وروسيا على ملء الفراغ الأمريكي- قد يدفع ذلك دول المنطقة إلى بدء حوار جاد حول نظام للأمن الإقليمي.
وهنا ملاحظتان جديرتان بالاعتبار: الأولى أن الحوار السعودي الإيراني لا يزال مدفوعا حتى الآن بالمخاوف أكثر من الرغبة الحقيقة في التقارب. والثانية: أن دخول الكيان الصهيوني في معادلة الأمن في المنطقة يغير الأدوار فـ”نظرًا لأن هناك حاجة إلى الأصول العسكرية الأمريكية في مكان آخر يمكن لإسرائيل أن تشارك بشكل متزايد في عبء بعض المهام الأمنية الأمريكية من خلال دفاعاتها الاستخباراتية والجوية والإلكترونية. ويمكنها أيضًا سد الفجوات المتبقية عند نقل الأصول الأمريكية إلى مكان آخر وتعزيز العمليات المشتركة بين شركاء الولايات المتحدة الإقليميين. هكذا يفكر العقل الإسرائيلي في استراتيجيته الجديدة.
ثالثا: غياب أي مشاريع لبناء الدولة في المنطقة
انتهيت في المقال السابق إلى أنه ليس من قبيل المصادفة أن تكون سوريا والعراق واليمن ولبنان التي يتصاعد فيها الخلاف السني الشيعي دولا ضعيفة أو فاشلة. فالصراع المذهبي في هذه البلدان يحدث في سياق الحكم الفاشل: عندما لم تعد الدول قادرة على توفير الأمن والخدمات لمواطنيها.
ويلاحظ في هذا السياق أربع ملاحظات:
١-استمرار التلاعب بالانقسامات المجتمعية سعيا وراء مصالح النظام/النخبة/المجموعة. وربما يؤدي ذلك بشكل واضح إلى تصاعد الانقسامات الطائفية والمذهبية. كما سيستمر إنشاء خطوط الاستبعاد كسمة للحكم والحياة السياسية العربية. ومع ذلك لا يزال من غير الواضح أين ستوجد خطوط الاستبعاد هذه. بدءًا من الجنسية أو العرق أو الطائفة أو الدين أو الطبقة أو القبيلة أو الانتماء السياسي أو غير ذلك.
٢-ستبقى الدولة الشكل السائد للتنظيم السياسي في جميع أنحاء المنطقة. إلا أن التحدي الأكبر الذي يواجه الدول في العقود القادمة هو تطوير استجابات مرنة للتغير الذي نشهده في مجالات عدة.
٣-زيادة الجهات الفاعلة غير الحكومية القائمة على سياسات الهوية. فقد سيطرت مجموعات على العراق وسوريا ولبنان واليمن. والتي تولي درجات متفاوتة من الأهمية للإسلام السني والشيعي. بينما لا يزال القوميون الأكراد يهيمنون على المناطق الكردية في سوريا والعراق وتركيا.
٤- غياب الشروط التي تنتج مشاريع ناجحة لتقاسم السلطة في المجتمعات المقسمة مثل: نقص الفاعلين الخارجيين. وتعقد الصراعات التي تتحرك على مجموعة واسعة من المظالم. ويضاف إليهما ما أشرت إليه من زيادة الصراع الإقليمي وتصاعد الجهات من غير الدول.
رابعا: احتراق الجسور
في العقود الخمسة الماضية كان هناك عدد من الجسور التي خففت من حدة الاحتقان المذهبي أبرزها: قضية فلسطين والصراع مع الكيان الصهيوني. كما جرى مع “حزب الله” في ٢٠٠٦. ووجود عدد من المراجع الدينية العظام على كل جانب. والتي استطاعت أن تقدم خطابا معتدلا في مواجهة خطاب المتطرفين. بالإضافة إلى عديد من قنوات التواصل بين الحركات الإسلامية السنية المعتدلة وإيران. ويكفي أن نشير إلى أن أحد نواب اتحاد علماء المسلمين كان من الشيعة وقد اختفى ذلك من زمن طويل.
للأسف احترقت هذه الجسور أو كادت ولم يتبق منها غير: ١-قضية فلسطين التي يلاحظ تراجع أهميتها إلى حد كبير. كما باتت في ظل اتفاقات التطبيع أحد محاور الصراع. خاصة أنها نقلت التهديد الإسرائيلي لإيران على الضفة الأخرى من الخليج. ٢- ما أطلق عليه سردية العربي التي تدور حول الحرية والتوزيع العادل للفرص والثروة والموارد. ففي الانتفاضات العربية -كما ظهر في العراق ولبنان ٢٠١٩- قدم المحتجون في الشوارع تعريفا للهوية الوطنية يتجاوز البعدين الطائفي والمذهبي. لكن هذا النموذج الانتفاضي يعاني عجزه عن تقديم بديل متكامل لصيغة الحكم القائم والتي باتت الانقسامات إحدى الضمانات الهامة لاستمراره.
وأخيرا فقد كانت عدوى الاحتجاج هذه بمثابة تذكير بأنه رغم زوال العروبة ما يزال المواطنون العرب يرون أنفسهم لا يتشاركون لغة وثقافة فحسب. بل يتشاركون أيضًا نوعًا من الهوية السياسية المشتركة.
ولا يفوتنا أن نترك هذه النقطة دون أن نشير ولو سريعا إلى مصر بميراثها التاريخي الذي لم يشهد انخراطا في تنافس سني شيعي. وبأزهرها الحاضن للتنوع الفقهي بما فيه المذهب الجعفري. وبرصيدها الاستراتيجي القابل للاستثمار في بناء جسور بين إيران ودول المنطقة لو تحررت من سياسات المحاور البازغة. أقول أن مصر يمكن أن تكون معبرا بين السنة والشيعة.
خامسا: من صدام الحضارات إلى صراع الهويات
من المتوقع في العشرين عاما المقبلة تنشيطا للهويات ما دون الوطنية بما يتحدى الانتماء القومي الذي قامت عليه الدولة القومية. بالإضافة إلى بروز الهويات ما فوق الوطنية بحكم العولمة خاصة بعد تدفق المعلومات.
وفق دراسات مستقبلية عديدة ينجذب كثير من الناس نحو مجموعات مألوفة ومتشابهة التفكير من أجل المجتمع والأمن. بما في ذلك الهويات العرقية والدينية والثقافية وكذلك التجمعات حول المصالح والاهتمامات المشتركة. هذه المجموعات أكثر بروزًا وتنازعا مما يخلق تنافرًا بين الرؤى والأهداف والمعتقدات المتنافسة. كما يتم إنشاء مزيج من الهويات العابرة للحدود وانبعاث الولاءات الراسخة وبيئة المعلومات المنعزلة وتباين خطوط الصدع داخل الدول وتقويض المواطنة وزيادة التقلبات.
الملمح العام في المستقبل هو: “هويات أكثر بروزا”. فمع تآكل الثقة في الحكومات والنخب والمؤسسات القائمة الأخرى من المرجح أن تتفتت المجتمعات أكثر على أساس الهويات والمعتقدات. ويتجه الناس في كل منطقة إلى مجموعات مألوفة ومتشابهة التفكير من أجل المجتمع والشعور بالأمن. بما في ذلك الهويات الثقافية وغيرها من الهويات دون الوطنية وكذلك التجمعات والمصالح عبر الوطنية.
تتكاثر الهويات والانتماءات وتصبح أكثر وضوحًا في نفس الوقت. وهذا بدوره يؤدي إلى مزيد من الأدوار المؤثرة لمجموعات الهوية في المجتمع والسياسة. والتي تتمحور حول القومية والعرق والدين.
وبعد فإن الصراع السني الشيعي -إن صحت التسمية- هو صراع على “روح الإسلام” أي على النموذج أو القراءة أو التفسير الذي نقدمه لشعوب المنطقة أولا. وللعالم أيضا. وهنا أحيل إلى مقالي هذا لمزيد من التفصيل.
عن الموضوع والذي انتهيت فيه إلى أن الملمح العام في صراع القوى الإقليمية حول من يمثل الإسلام المعتدل أنه يدور على: إسلام منزوع الديمقراطية. مندمج في السوق. أي ذو طبعة نيوليبرالية. وممتزج بالعنف لأنه يقرن القوة الناعمة بالصلبة. برغم أنه يقدم نفسه للعالم باعتباره منفتحًا متسامحًا ويلعب دورًا في مناهضة التطرف العنيف. لكنه في نفس الوقت لا ينظر لحال شعوبه.