منذ أن طفا على سطح الشرق الأوسط حديث «صفقة القرن»، والشواهد تكشف تباعا عن أن هناك اتفاقا على تصفية القضية الفلسطينية، الخطورة في هذا السياق ليست متعلقة بمحاولات العدو الإسرائيلي وراعيه الأمريكي لإغلاق ملف القضية بشكل نهائي، بل فيما تنتهجه دول التطبيع العربي التي يبدو أنها توافقت ضمنيا على دفن القضية في مكب نفايات مصالحها ومخاوفها وأزماتها.

تبحث تلك الأطراف المسماه زورا وبهتانا بـ«العربية»، عن نيل رضا ودعم الولايات المتحدة الأمريكية بتنفيذ أهداف وكيلها بالشرق الأوسط «إسرائيل» ليس بقبولها كدولة طبيعية فحسب، بل كرقم فاعل في الإقليم وحليف استراتيجي يدعم أنظمة تلك الدول التي يبحث بعضها عن شريك قوي لمواجهة الخصم الإيراني اللدود، فيما يرى البعض الآخر أن التقارب من دولة الاحتلال وتحويل التطبيع «البارد» إلى «دافئ» قد يكون بوابة حل أزماته الاقتصادية.

لم تتوقف المؤامرات على القضية الفلسطينية خلال العقود الخمسة الأخيرة، لكن الجديد في الأمر هو دور بعض الدول العربية ومعها السلطة الفلسطينية في رام الله لتصفية القضية.

موجة التطبيع الأخيرة، سبقتها موجتان من موجات التطبيع بين الدول العربية والكيان، الأولى بدأت في عهد الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، والثانية في مطلع التسعينيات والتي تبلور عنها اتفاقيتا «أوسلو» و«وادي عربة»، فيما شكلت الاتفاقات الإبراهيمية بين الإمارات والبحرين وعمان والمغرب والسودان الموجة الثالثة.

تختلف موجة التطبيع الأخيرة عن الموجتين السابقتين، فاتفاقات إبراهام تمت في ظل غياب شبه كامل للنظام العربي، وضعف وتفتت القيادة الفلسطينية التي تصارع خصومها من فصائل المقاومة وتعمل على تصفيتهم أكثر مما تفكر في الوصول إلى إقامة الدولة الفلسطينية واستعادة حقوق شعبها.

تأكد من خلال الاندفاع الإماراتي الخليجي المغربي وأخيرا المصري تجاه إسرائيل والدخول معها في اتفاقيات اقتصادية وعسكرية، أن الموجة الأخيرة ليس هدفها الوصول إلى تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين لتحقيق «السلام العادل الدائم الشامل» بقدر ما هي مدفوعة بإقامة أحلاف جديدة تكون إسرائيل طرفا فيها لمواجهة التهديدات الإيرانية وقطع أذرع طهران وحرسها الثوري في العواصم العربية، وإحياء وإقامة شراكات اقتصادية.

ورغم نفي القاهرة الدخول في أحلاف عسكرية مع إسرائيل وأصدقائها الجدد، بحسب تصريح وزير الخارجية المصري سامح شكر، وعدم قبولها التوقيع على البيان الختامي لقمة النقب التي عقدت قبل أيام قرب ضريح رئيس الوزراء المؤسس لدولة الاحتلال ديفيد بن جوريون، ألا أنها بدت بمشاركتها كالمضطر الذي دفعته الظروف إلى أكل الجيف.

ذهب البعض في تبريراتهم إلى أن مشاركة مصر في هذا الاجتماع جاء بهدف إفشاله وقطع الطريق إلى إقامة حلف عسكري من دول المنطقة تكون تل أبيب رأس حربة فيه، إلا أن هذا التبرير فقد واجهته بعدما استقبلت وزيرة التجارة والصناعة نيفين جامع ووزيرة التخطيط هالة السعيد ابنة حلمي السعيد وزير الكهرباء في عهد عبد الناصر نهاية الأسبوع الماضي وزيرة الاقتصاد الإسرائيلية أورنا بارييفاي لتعزيز اتفاقية «الكويز» مع تل أبيب.

وسقط التبرير تماما بإصدار الخارجية المصرية بيانا يدين عملية «بني براك» التي نفذها المقاوم الفلسطيني ضياء حمارشة من جنين وقتل فيها 5 إسرائيليين.

البيان المصري الذي اعتبر العملية الفدائية «إرهابا» واستنكر بأشد العبارات أعمال العنف التي تستهدف المدنيين، وضع القاهرة على نفس الخط مع دول موجة التطبيع الأخيرة التي سارعت جميعها إلى استنكار ما جرى وإدانته، فيما صمت الجميع عن قتل جيش الاحتلال لـ3 نشطاء فلسطينيين قرب جنين، بزعم أنهم كانوا يخططون لـ«عمليات إرهابية».

صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، نشرت قبل أيام مقالا للكاتب باتريك كينجسلى والكاتبة لارا جيكس، اعتبرا فيه أن قمة النقب التي عقدت منتصف الأسبوع الماضي شكلت حدثا بارزا أظهر شرعية إسرائيل المتزايدة بين قادة الشرق الأوسط الذين تجنبوا الدولة اليهودية لعقود.

وقالت الصحيفة إن الهدف الحقيقي للقمة التي تم الترتيب لها على عجل كان مدفوعا بالحرب في أوكرانيا والاتفاق النووي المعلق مع إيران، «الولايات المتحدة أرادت الضغط على الدول الخمس الأخرى لاتخاذ موقف أكثر تشددا ضد روسيا بشأن غزوها لأوكرانيا، بينما أرادوا بدورهم تأكيدات أمريكية بأن إيران ستكون مقيدة في حال إتمام الاتفاق النووي معها».

ورغم أن القمة التي لم تسفر عن نتائج علنية ملموسة، لكن «كانت هناك مؤشرات على ذوبان الجليد بين أبو ظبي وواشنطن بعد أسابيع من التوترات المتزايدة.. فالإدارة الأمريكية كانت تشعر بالإحباط من الرد الإماراتي المحايد على الغزو الروسي، في حين غضب المسئولون الإماراتيون مما يرون أنه لامبالاة أمريكية تجاه التهديدات الإيرانية لأمن الإمارات».

وأضاف الكاتبان أن القمة سمحت أيضا لإسرائيل وحلفائها العرب بتعميق تنسيقهم  بشأن التهديدات الأمنية المشتركة وجمع المعلومات الاستخبارية والمخاوف المتعلقة بالطاقة والإمدادات الغذائية، وفقا لمسئولين حضروا القمة.

كما سمحت أيضا لدول الشرق الأوسط الخمس -البحرين ومصر والمغرب والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل- بتشجيع الولايات المتحدة على الاستمرار في المشاركة في المنطقة، على الرغم من تركيزها على روسيا والصين. وأعطتهم الفرصة للضغط على وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين لعدم رفع العقوبات عن الحرس الثوري الإيراني من أجل كبح طموحات إيران النووية.

ويرى الكاتبان في المقال أن وجود مصر -أول دولة عربية تصنع السلام مع إسرائيل في عام 1979- سلط الضوء على كيف شجعت اتفاقيات إبراهام 2020 القاهرة على بث حياة جديدة في علاقتها مع إسرائيل التي لطالما أهملتها.

القمة أكدت أن عدم وجود حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني لم يعد عقبة أمام الشراكة مع إسرائيل، «حتى لو كانت هذه الشراكة لا تزال تعارضها غالبية الشعوب العربية». وبالرغم من استخدام بلينكن وثلاثة من الوزراء العرب الأربعة ملاحظاتهم الختامية لإعادة تأكيد دعم بلدانهم لحل الدولتين، إلا أن غياب القيادة الفلسطينية عن المناقشة سلط الضوء على كيفية انفصال علاقات إسرائيل مع العالم العربي الأوسع عن العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية.

«نيويورك تايمز» نقلت عن توم سيجيف، المؤرخ الإسرائيلي وكاتب السيرة الذاتية لرئيس الوزراء الإسرائيلي المؤسس بن جوريون، قوله «لو كان بن جوريون على قيد الحياة اليوم، فلن يُذهل أحد أكثر منه فالرجل لم يكن يؤمن قط بسلام حقيقي مع العرب».

كما أسلفنا فإن ما يجري من اتفاقات ومؤامرات هو محاولة لإغلاق القضية الفلسطينية بـ«الضبة والمفتاح»، وإعادة رسم خريطة الإقليم لتصبح الدولة العبرية جزءا أصيلا فيه، وإهالة التراب على المشروع القومي العربي ليتأسس على أنقاضه شرق أوسط جديد تتحول إسرائيل فيه من عدو إلى دولة طبيعية معترف بها دون دفع أي ثمن، فلا أرض مقابل السلام، ولا اعتراف مقابل التطبيع، فقط تطبيع من أجل التطبيع، علاقات من أجل المصالح الاقتصادية والأمنية، ولتذهب القضية الفلسطينية إلى الجحيم.

أمام هذه الهزيمة العربية المجانية، يقف الشعب الفلسطيني وحده بكل فصائله عدا سلطته المتعاونة مع أجهزة استخبارات الكيان، ثابتا مقاوما يعمل على إجهاض كل محاولة لدفن قضيته وسلب حقوقه وسرقة أراضيه، في كل مرة تُرتب فيه تل أبيب مع أصدقائها لطبخة مسمومة تسلخ بها فلسطين عن محيطها العربي، يدخل الفلسطينيون على الخط لإفساد تلك المؤامرات، يستخدمون ما هو متاح لهم من أدوات حتى تظل فلسطين هي قضية الشعوب العربية الأولى.

العمليات الفدائية الفلسطينية، تُذكر الغافلين أن إسرائيل لا تزال عدوا، وأن الدم الذي بيننا وبينهم لن يكون في يوم من الأيام ماء، وأن الأرض التي سلبها نظام الفصل العنصري حتما ستعود.

عادة ما تفشل محاولات غرس الكيان الغاصب في المنطقة، فلا «كامب ديفيد» أقنعت الشعب المصري بالقبول بوجود إسرائيل، ولا «أوسلوا» دفعت الشعب الفلسطيني إلى الاعتراف بالكيان والتعامل معه كأمر واقع، كما لن تفلح الموجة الإبراهيمية الأخيرة التي تقودها بعض العواصم الخليجية في تذويب ما بين العرب وإسرائيل من صراع.

للقضية الفلسطينية شعب يحميها، فكلما تكاثرت المؤامرات والاتفاقات التي تعقد في العلن أو خلف الأبواب المغلقة، يبادر الشعب الفلسطيني بإعلان الرفض ويقاومها على طريقته وبكل ما يملك من أدوات.

حتى لو حرم الفلسطينيون من الدعم العربي، وحتى لو تآمرت عليه سلطته، سيظل هذا الشعب الذي يدرك جيدا ما يحاك ضده الرقم الأصعب في معادلة الإقليم، حتى تظل قضيته مشتعلة، وسيفرض بما تيسر له «الرعب» على جلاده الذي لن يجد في النهاية مخرجا لأزماته سوى بإعادة الحقوق لأصحابها.

نداف إيال: أن تجاهل القضية الفلسطينية من قبل بينيت لم يثبت أنه تكتيك ناجح بشكل خاص «اتضح أن المؤسسة الأمنية تواجه صعوبة في التعامل مع تحديات الإرهاب المحلي حتى بعد رفع حالة التأهب بشكل كبير في أعقاب هجوم السبع».

الصحفي الإسرائيلي نداف إيال قال في تقرير تحليلي بجريدة «يديعوت أحرنوت» العبرية إن العمليات الفلسطينية الأخيرة التي أوقعت 11 قتيلا إسرائيليا تثبت أن المنظمات الفلسطينية في محاولة الشروع بموجة واسعة من الهجمات والمواجهات.

وأشار إيال إلى أن الشعور بالأمن لدى الإسرائيليين في أدنى مستوى، «لم نشهد هذه الحالة منذ أحداث حارس الأسوار التي لم يقتل خلالها 11 إسرائيليًا ولم يسقطوا في أسبوع واحد بالتأكيد، والأسوأ من ذلك هو أن هذه هي المرة الثانية خلال عام واحد التي تحاول فيها منظمات فلسطينية تشكيل جبهة مشتركة مع العرب داخل إسرائيل».

وأضاف أن الجمهور الإسرائيلي يطلب إجابات واضحة وهو محق في ذلك، «إذا لم يكن بينيت وجانتس ولابيد ووزراء الحكومة قد استوعبوا مكانتهم بعد كحكومة فعليهم أن يفهموا على الفور، أنه طالما يُطلق النار على الناس في الشوارع فقد انتهى عصر توزيع الابتسامات وستصبح الوساطات والاجتماعات مجرد صور لا قيمة لها وستقابل باستياء واحتقار حين يخشى الآباء إرسال أبنائهم إلى المدارس».

واعتبر إيال، أن تجاهل القضية الفلسطينية من قبل بينيت لم يثبت أنه تكتيك ناجح بشكل خاص «اتضح أن المؤسسة الأمنية تواجه صعوبة في التعامل مع تحديات الإرهاب المحلي حتى بعد رفع حالة التأهب بشكل كبير في أعقاب هجوم السبع».

بالتوازي، كتب المراسل والمحلل العسكري يوسي يهوشع في ذات الصحيفة مقالًا تحليليًا تحدث فيه عن عدم وجود «حل سحري» لوقف الهجمات الفلسطينية التقليدية، مشيرًا إلى أنه مرت سنوات طويلة جدًا حتى وقعت عمليات في قلب المدن الإسرائيلية، ما أعاد إلى الأذهان حالة الخوف التي تنتاب الجمهور.

واعتبر يهوشع أن تنفيذ العمليات داخل المدن الإسرائيلية تظهر مدى «فقدان الردع لدى المنفذين، والجرأة على التنفيذ في قلب المدن»، مضيفا «لقد مضى وقت طويل منذ أن رأينا مثل هذا الرعب في قلب المدن.. لم نشهد مثل هذه الحوادث في انتفاضة السكاكين.. فالهجمات الثلاث الأخيرة تذكرنا بالأيام الصعبة للانتفاضة الثانية».

ولهذا السبب يشير الكاتب الإسرائيلي أن على دولته الاعتراف بأن مثل هذه الموجة من العمليات «ليس لها حل سحري.. لا يوجد عنوان يمكن مهاجمته بقوة، مثل غزة أو مخيمات اللاجئين في الضفة.. من الصعب جدًا تحصيل الثمن.. لا توجد روافع ضغط على العدو لأنه من الصعب تحديده».