(الدهشة أم الحقيقة)

تستيقظ حسناء ثرية في منتصف الليل، فتجد نفسها في سرير غريب داخل قطار، تفتح النافذة في هلع بينما القطار يشق طريقه بين مدن لم ترها من قبل. تجري وهي تصرخ. أوقفوا القطار. ما الذي جاء بي إلى هنا. أنا كنت أنام في سريري. تناولت فنجانا من الكاكاو الدافئ وقلت لزوجي تصبح على خير ونمت.

يتم استدعاء طبيب من عربة مجاورة فيعطيها حبة مهدئة لحين الوصول إلى المحطة. وبينما تتحدث معها سيدة لتهدئتها تبدي إعجابها بحقيبتها الأنيقة التي تحمل أول حرفين من اسمها. أ. ك (أليسون كوتلاند). وفي هذه الأثناء يتم اكتشاف مسدس في الحقيبة. تتحول الدهشة إلى كابوس خاصة بعد أن نرى الزوج يبلغ قسم الشرطة عن غياب زوجته المفاجئ. ويتم تسجيلها ضمن المفقودين حتى تعود في القطار التالي إلى مدينتها. لكنها عادت ومعها الحيرة والقلق واحتمالات المرض النفسي الذي يؤدي إلى الجنون. وتتوالى أحداث فيلم “نامي يا حبيبتي” الذي أنتجته السينما الأمريكية في الأربعينيات وتم اقتباسه في مصر الستينيات عن زوج يحاول إيهام زوجته بأنها غير ما هي عليه.

تلك القصة الميلودرامية تعني بالنسبة لنا في هذا المقال أن الأحداث الغريبة قد تكون لها أبعاد تتجاوز الظاهر. لأن هناك مؤامرة يحاول من خلالها طرف خفي أن يصنع واقعا غير الواقع الحقيقي لتحقيق هدف إجرامي في رأسه. فتصبح الحقيقة غريبة ومنبوذة. ويصبح الكذب هو السائد ونقطة اتفاق الأغلبية التي تصدق ما تراه. ولا تندهش من المفارقات الغريبة ولا تهتم بالبحث العميق عن الحقيقة التي يتحدث عنها الطرف الضعيف.

(الوش بيغش)

هذا المثال للإيهام القاتل موجود بشكل أوضح في فيلم جورج ككور الشهير “جاز لايت”. لكنني لا أنوي مناقشة الخديعة من الناحية السينمائية. بل أطرحها لمحاولة إعادة الاعتبار لفكرة “العمق”. فقد تكون الأسباب الظاهرة (برغم منطقيتها) مجرد مؤامرة مصنوعة أو خديعة دبرها محتال لقلب الحقائق وخلط الأمور. وللأسف فإن الكثير من هذه الجرائم الاحتيالية تؤدي إلى التعاطف مع المجرم والحكم على الضحية بالخلل أو التهور أو الجنون.

قد يكون ما حدث في “ثورة يناير” وثيق الصلة بموضوعنا لكنني أكتفي بمناقشة الفكرة من خلال وقائع أحدث لا تأخذنا إلا إلى الخلاف المعقد بشأن الثورة وما تلاها. والأمثلة التي تحضرني الآن مباراة مصر والسنغال. وصفعة ويل سميث التي هزت العالم. وكذلك الحرب الأوكرانية. لأن الخلاف حول هذه الأمثلة كان كبيرا ومتباينا إلى درجة التناقض. وهو ما يدعونا للتساؤل: أليست هناك قاعدة للاحتكام والتقييم؟ أم أن الخلاف يتجاوز الحالة إلى التشكيك في القواعد نفسها؟ وهذا يعني أن مهمتنا لم تعد الانحياز السريع لطرف يبدو مظلوما ولا إبداء الرأي بطريقة يعجبني ولا يعجبني. لكن البحث عن المحتال ومعرفة الأسباب الحقيقية وراء المظهر السطحي. ولكي لا أقع في نفس الفخ سأحاول ألا أتبنى وجهة نظر. وأرجو أن تساعدوني في ذلك بتجنب القياس على مواقف أو انحيازات خارج هذا المقال بالنسبة لي وبالنسبة لكم أيضا.

(أي جيل من الأولاد نربي؟)

في فناء مدرسة إعدادية قبل تفكك الاتحاد السوفييتي تنمر شلة من التلاميذ بقيادة “ميم” ضد زميل لهم يدعى “فاء”. وتراكمت مشاعر الغضب عند “فاء” فهجم على “ميم” وضربه بعنف حتى أصيبت عينه بضرر كبير.

تحولت المشاجرة بين التليمذين إلى قضية رأي عام شارك فيها أولياء الأمور والتربويون وأساتذة علم النفس وخبراء الاستراتيجية. وفتحت مجلة “ليتريتشر” صفحاتها لسيل من الآراء بعضها يدين العنف كرد فعل بين التلاميذ. وبعضها يمتدح رد فعل التلميذ الذي ثار لكرامته وانتقم من المتنمرين. ومن الآراء الخطيرة التي لفتت نظري أن تحديد الموقف النهائي من “خناقة الولدين” هو الذي سيحدد قرار الردع النووي الذي قد تضطر إليه موسكو في حرب دولية. وعند هذا الطرح اختارت المجلة عنوان “أي جيل من الأولاد نربي؟”. “الولد الذي يقبل التنمر والاستهزاء احتراما لقواعد المدرسة أم الولد الذي ينتقم ويأخذ حقه بأقصى قوة يملكها؟”.

قد يبتسم أحد الأذكياء ويقول إن الولد “فاء” كبر وصار حاكما اسمه “فلاديمير بوتن” ويهدد الآن بالضغط على الزر النووي إذا استمر الآخرون في التنمر ضده. والملاحظة في محلها برغم أن الخلاف ظل مستمرا. لأننا لم نصل إلى إجابة عن الأسئلة الحدية: هل كان المتنمرون على حق؟ “وهل كان رد فعل الولد المنتقم صحيحا ومقبولا؟!”.

أعتقد أن الاختيار في كل الأحوال سيؤدي إلى نتيجة خاطئة. لأن العالم لا يقتصر على  ثنائية “الأبيض والأسود” والتي صاغها الشاعر الاستعماري الإنجليزي رديارد كبلنج في بيت يقول فيه: الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان. وهذه الرؤية للصراع تخاصم فكرة التوافق. وإذا كان التوافق حلما طوباويا لا يتحقق في السياسة والحياة فإن الأخطر أن هذه الرؤية تخاصم فكرة الصراع الجيد الذي يؤدي إلى التطور. وهي الفكرة التي صاغها الفيلسوف الألماني الأشهر جورج هيجل تحت اسم “الديالكتيك” أي صراع النقائض بما يؤدي إلى تجاوز الطرفين نحو بديل ثالث لا هو “الشرق القديم” ولا هو “الغرب القديم”. أي تجاوز الشرق باعتباره “المغول” الغزاة المدمرين للحضارة أو “المسلمين” الفاتحين الذين أسقطوا عاصمة الإمبراطورية الغربية. وتجاوز الغرب باعتباره “الاستعمار” و”المركزية الأوروبية” و”عولمة الهيمنة” و”إله الأيزو”. وأعتقد أن معرفة المتمسك بهويته السلبية (غازيا كان أو مرجعية مطلقة أو مهيمنا) تكشف لنا الحقيقة العميقة عن المجرم سواء رأيته أنت “الفاعل المتنمر” أو رآه غيرك “مرتكب رد الفعل”. لكن المشكلة ستظل هناك في الخلفية. في العمق. في المجرم الذي يتآمر لكي يمنع المصالحة بين نقيضين أو يمنع تجاوزهما معا وصولا لبديل ثالث.

(صفعة الملك ريتشارد)

تابعنا مع العالم كله انتفاضة ويل سميث من مقعده في حفل جوائز أوسكار وصعوده أمام الملايين إلى خشبة المسرح لتوجيه صفعة لزميله الممثل الكوميدي “كريس روك”. بعد دعابة عن زوجة سميث تتعلق بمظهر رأسها الحليق. وبرغم أنه تقبل الدعابة أولا بالضحك. فإنه غضب ربما لأنه لاحظ عدم قبول زوجته الدعابة وتألمها من التنمر لأن مظهرها الحليق لم يكن خيارا فنيا ولكن بسبب مرض الثعلبة.

وكما تابعنا الصفعة تابعنا الانقسام الذي أعقبها بين مستنكر لأسلوب الرد العنيف ومشجع على الثأر لكرامة الزوجة. والرأي الثاني راج مدموغا بخاتم الرجولة (والله راجل). ولن نناقش هنا فكرة الصورة النمطية للرجولة لأن “جادا” لم تحضر الحفل بصفتها زوجة سميث بل بصفتها المهنية كفنانة. وحتى لا ننزلق أيضا إلى حديث خيانتها لها وتسامحه مع ذلك بما يخلط القضية الأساسية ويضعنا أمام مفاهيم متعددة ونسبية لمصطلح “الرجولة” وحتمية غضب الزوج على سمعة أو مشاعر زوجته بما يبرر له الثأر العنيف.

الانقسام حول واقعة الصفعة كان جماهيريا ولم يكن مؤسساتيا لأن الأكاديمية التي تنظم حفل أوسكار لديها معايير معلنة في مجتمع لديه معايير معلنة. ويصعب الخروج على هذه المعايير في العلن. قد يكون هناك فساد مالي أو احتكارات رأسمالية أو انحيازات أيديولوجية يتم ضخها عبر الإنتاج السينمائي لخدمة مصالح توجهات وجماعات ودول بعينها (اليهود والمثلية والرأسمالية على سبيل المثال). لكن المؤسسة بادرت بإبلاغ سميث بعد الصفعة مباشرة بضرورة مغادرة الحفل. ولما امتنع لم تطرده بالقوة بل تصرفت بعد الحفل بما يليق بقواعدها وأصدرت بيان إدانة وقرار تحويل الواقعة للتحقيق المتأني (أكثر من أسبوعين) لاتخاذ قرار قد يصل إلى الطرد وسحب الجائزة. وهو ما أدى إلى اعتذار دامع من سميث مبررا تصرفه بـ”جنون الحب” وبانفعال مؤقت جعله يتصرف بأسلوب “رجل لا يحب أن يكونه”. هذا في الوقت الذي كانت فيه قطاعات كبيرة من المحبذين -خاصة في مجتمعات مثل مجتمعنا تحيي صورة الرجل الذي لا يحب سميث نفسه أن يكونه- وبعد اصطدامه بموقف المؤسسة المدافع عن المعايير بادر بتقديم استقالته معربا عن قبوله للجزاء المنتظر.

التصرف الأهم في واقعة الصفعة لم ينحصر في تأييد أو إدانة تصرف سميث لكن في المساحة العاقلة الغائبة عندنا. وهي المساحة الوسطى التي لا تحصر القضايا في خيار الاستفتاء بين الدائرة الحمراء والدائرة السوداء. هناك سرعة في إدانة سميث حتى من زملائه النجوم. حتى إن بعضهم أدان احتضان وتحية بعض النجوم له بعد فوزه بأوسكار التمثيل عن دوره في فيلم “الملك ريتشارد”. وقال جيم كاري مثلا: شعرت بالتقزز من مشهد كهذا فمثل هذا التصرف لا يحتمل مجاملة من يقوم به لكن على كل حال تصرفت المؤسسة بتعقل رصين ومشكور. كما أن مؤسسات أخرى مثل مؤسسة مرضى الثعلبة (NAAF) لم تكتف بإدانة تصرف سميث لكنها ألمحت إلى خطورة تصرف كريس روك (إذا كان يعلم أن جادا مريضة ولم تحلق شعرها لصرعة موضة أو دور في فيلم).

وأوضحت في بيان لها أن التنمر على المرضى مخالف للمعايير ويؤذي مشاعر الملايين (يوجد في أمريكا وحدها 7 ملايين مريض بالثعلبة ونحو 147 مليون شخص في أنحاء العالم). وهذا لم يمنعها من إدانه تصرف سميث العنيف واقترحت عليه البديل في بيان بعنوان “أمسك الميكروفون وقل شيئا كهذا”. أشارت فيه إلى أن الوقت قد حان للتوقف عن إلقاء النكات الصارخة عن مظهر الناس أو جنسهم أو لونهم أو إعاقتهم. مذكرة بأن طفلة في الثانية عشرة من عمرها انتحرت لعدم قدرتها على تحمل تنمر الآخرين من إصابتها بالثعلبة.

الرسالة هنا هي وجود مؤسسات تطبق المعايير وترفعها كشعارات جوفاء فلا قداسة لنجم حاز الأوسكار ولا حصانة لرئيس جمهورية من النقد والمحاسبة. ولا حجر على حق مواطن بسيط في رفع قضية ضد أكبر مؤسسة وأقوى مسؤول. وهذا لا يعني عدم وجود أخطاء لكن هناك رغبة صادقة في البحث عن أسبابها العميقة والمحاسبة عليها وفق معايير واضحة لا ينبغي التواطؤ فيها بحسب صفة المخالف ونفوذه. ولا يمكن تهميشها وتفريغها من مضمونها كما يحدث مع الدستور والقوانين في جمهوريات الموز وبلاد حصانة الرموز.

(الرجل الآخر)

توقفت أمام  تعبير “الرجل الذي لا أريد أن أكونه” وتأملت حجم الضغوط التي تجعل الشخص يتصرف عكس ما يريد. أو بتعبير سايكولوجي “يتصرف كرجل آخر”. فهل هناك شخصية أخرى تعيش داخل ويل سميث ودفعته للغضب بعد الضحك والاندفاع نحو المسرح لصفع زميله ثم البكاء معتذرا على نفس المسرح ثم الرقص والاحتفال بعد البكاء للحصول على الجائزة ثم، ثم، ثم….

شاهدت فيلم “الملك ريتشارد الذي نال عنه سميث جائزته. ويلعب فيه دور رجل أسود (ريتشارد ويليامز) تعرض للعنف والتنمر العنصري طيلة حياته. ولما أنجب بنتيه (فينوس وسيرينا) ووضع خطة طموحة لاحترافهما لعبة التنس كانت لديه عزيمة قوية وعهد مع النفس للدفاع عنهما ضد أي تنمر وعنصرية. وفي مشهد من الفيلم بعد أن لكمه أحد الشباب أمام بناته وحاولت ابنته الاطمئنان عليه قال إنه تعود على تلقي الإيذاء منذ الصغر لأنه كان بلا أب يحميه. أما الآن فهو أب مصمم على حماية بناته ولن يسمح لأحد بإيذائهن.

هذا المشهد دفعني للتفكير في امتداد التأثير النفسي للشخصية الفنية على حياة الممثل الواقعية. وأذكر أن نور الشريف تحدث معي كثيرا في ذلك أثناء رواية سيرة حياته. موضحا أن انحناءة الظهر التي ظل يمشي بها لفترة طويلة كانت بسبب دور إبراهيم عبد الله في مسلسل “أديب”. كما أن شخصية كمال عبد الجواد في ثلاثية محفوظ والإمام ظلت تلاحقه في حياته وأثرت على تفكيره وثقافته ونفسيته كثيرا.

هذا يدعونا للتفكير في تأثير شخصية ريتشارد ويليامز على سميث في حفل يفوز فيه الممثل بسبب الشخصية التي يتقمصها. كما يدعونا أيضا للتفكير في الضغوط التي تعرض إليها سميث من جانب الصحافة والتليفزيون. فوحش الميديا اخترق حصونه النفسية وتغلغل داخل حياته الشخصية وتم استجوابه على الهواء ومناقشة موقفه النفسي والعائلي من زوجته بعد تناثر الأخبار العلنية عن خيانتها له. ومحاولته النجاة من الملاحقة بتقديم تفسير لرغبته في استمرار الحياة بتفهم مثل هذه الأمور كضريبة لاستمرار الحياة بلا فراق.

وأعتقد أن هذه الضغوط وغيرها مثل علاقته الواقعية غير اللطيفة بـ”كريس روك” كلها عوامل كامنة أدت إلى تصرف يمكن تفهمه تحت عنوان “خطأ يستوجب الحساب”. وهو ما حدث بالفعل. وبالتالي فإنه لا يستحق إدانة أكثر. فلا تكرار ولا استمرار للعقوبة على نفس الخطأ لأننا يجب أن ندخر رصيدنا من الإدانة وتوقيع العقوبات على المخطئين الذين يتهربون من المحاسبة وعلى الأخطاء التي يتم تبريرها والدفاع عنها باعتبارها معجزات وإنجازات. فالأخطاء عند الفاشلين هي دائما أخطاء الآخرين وليست أخطاء المهملين والخائنين والمجرمين من أمثال “ريتشارد الآخر”. وهذا اسم الزوج المخادع في فيلم “نامي يا حبيبتي”. وبالمناسبة فإن مغزى العنوان متروك لاستناجات كل قارئ. فالحبيبة قد تكون رمزا كالوطن. وقد تكون معنى كالحقيقة. أما النوم فيحتمل الراحة ويحتمل الغفلة ويحتمل “النوم مع العدو” حسب سيمفونية برليوز الشهيرة. وبخصوص القطار في القصة فهو (كما نعرف) رمز الرحلة والحياة نفسها. وهذه متعة واتساع التأويلات بحسب ثقافة الشخص

(مباراة العودة)

طال المقال لكن العمق يقتضي التحمل والاستمرار في الغوص والبحث. لذلك أرجو أن تعتبروا هذا المقال بمثابة “مباراة ذهاب” لن تكتمل نتيجتها إلا بمباراة العودة التي نحلل فيها ظروف الموقعة الفاصلة في الوصول إلى كأس العالم بين مصر والسنغال. وما صاحبها من ردود فعل وتفسيرات تستحق التحليل لفهم أعماقها الخفية. ليس في الرياضة والملاعب فقط لكن في السياسة والإعلام وإدارة المجتمع كله. وفي المقال المقبل نحاول معا بنزاهة وتعقل وكل عام وأنتم بخير.