لم يكن ما يسمى بالدولة الحديثة غير استغلال منظم يمتص دماء الحياة من عروق المصريين. فهكذا كان حكم محمد علي وسلالته على مدى قرن ونصف القرن من الزمن، انتهت بخلع فاروق، ثم خلع ولي عهده الرضيع، ثم إلغاء الملكية وطي صفحتها، لتنتهي بذلك سيطرة السلالات التركية على حكم مصر.
كذلك لم يكن ما يسمى بالاستقلال الوطني غير حكم بالحديد والنار يتعاقب عليه رؤساء قادمون من الجيش يصلون إلى الحكم ويستمرون فيه ويستحوذون على كل السلطات عبر استفتاءات شكلية وانتخابات مزورة تعبر فقط عن مطامحهم ومصالحهم وليس عن مطامح الشعب ومصالحه.
لم تكن الدولة الحديثة غير مجموعة من الأشكال والمسميات تخفي تحتها أسوأ مضامين الاستغلال التي يمكن أن يتعرض لها شعب، فقد استحوذ محمد على بمزيج من الخداع والقوة على مصر، ثم بتواطؤ دولي ضمن أن تبقى مصر ضيعة عائلية يتوارثها بنوه ثم أحفاده وأبناؤهم.
كذلك لم يكن الاستقلال الوطني تحت مسمى الجمهورية غير وصلة تاريخية مستجدة توسعت فيها السجون بما لم تتوسع من قبل وذاق فيها المصريون قهرًا لم يذوقوه من قبل حتى بات عصر الاستقلال وعصر الجمهورية هو عصارة وخلاصة ما في كافة عصور الاستعمار السابقة عليه من غشم وفهر وبطش وقمع وتخويف وتجويع وترويع وترهيب وإذلال وإهانة.
دولة الاستقلال الوطني في العصر الجمهوري امتازت بكل أشكال وشارات وعلامات الاستقلال من أعلام وأناشيد وأغان وطنية وتمثيل في المؤسسات الدولية وحضور دبلوماسي تقريبًا في كل عواصم العالم. لكن هذه الدولة ذاتها -بوعي أو بدون إدراك- ورثت واحتفظت بكل مواريث وتقاليد الاستعمار. ثم تعاملت بهذه المواريث والتقاليد مع الشعب المصري. لقد حافظت الدولة الحديثة ودولة الاستقلال -من مطلع القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا والربع الأول من القرن الحادي والعشرين يوشك أن ينتهي- حافظت على تقاليد ومضامين وتراث وأصول وقواعد الحكم الاستعماري الذي تعاقب على مصر منذ القرن الخامس قبل الميلاد وحتى منتصف القرن العشرين.
تبدلت العصور، وتوالت القرون، وتغيرت مسميات الحكم وأشكاله ومؤسساته. لكن بقي جوهر العلاقة بين الحاكم والمحكوم كما هو. بقي الحاكم مستبدًا ومتجبرًا وظالمًا ومستغلًا ومزيفًا للحقيقة ومضللًا للوعي. وبقي المحكوم -كما وصفه سعد زغلول- ينظر للحاكم نظرة الصيد للصائد وليس نظرة الجندي للقائد. ما تزال القطيعة النفسية والشعورية قائمة بين طبقة الحكم وطبقات المحكومين. ومازال الشك المتبادل بين الحاكم والمحكوم هو جوهر العملية السياسية حتى اليوم وإلى أجل غير معلوم.
مقدار ما ينزل بالمصريين من قهر ثابت ثبات مقدار ما يتأتيهم من ماء النهر، لافرق في صناعة القهر بين حاكم فارسي أو إغريقي أو روماني أو عربي أو تركي أو أوروبي. ولا فرق في صناعة القهر بين عصر وسيط وعصر حديث، ولا بين حاكم غريب عن البلاد وحاكم مصري دمًا ولحمًا ومنبتًا ومدفنًا ومن أبوين مصريين ومن أجداد مصريين.
لقد ذاق الشعب المصريين -سواء تحت ما يسمى بالدولة الحديثة أو دولة الاستقلال الوطني- من الاستغلال والاستغفال والإفقار والهوان والعذاب والتضليل والتزييف ما لم يذقه من قبل سواء قبل الدولة الحديثة أو قبل الحصول على الاستقلال. وذلك لعدة أسباب:
1- أولها أن الدولة الحديثة بسطت سلطانها على عموم البلاد وعموم الناس بصورة مركزية شديدة الإحكام لم تتوفر من قبل.
2- ثم هذه الدولة لم تسمح بأي مقدار من التنوع والتعدد وأحلت توحيد الحاكم الفرد كعقيدة سياسية لا يجوز الاختلاف عليها.
3 – ثم هذه الدولة الحديثة اعتبرت عدم توحيد الحاكم كفرًا يستوجب القتل دون محاكمة مثلما كان يحدث في عهد محمد علي أو يستحق السجن دون محاكمة مثلما يحدث حاليًا.
4 – توفرت للدولة الحديثة بيروقراطية رقابية وأمنية وقمعية رسمية ومن أموال الشعب لم تتوفر في العصور السابقة عليها.
5 – ثم التكنولوجيا ظهرت ثم تطورت بصورة مرعبة مكنت الدولة الحديثة من التغول على تفاصيل ودقائق ما في أدمغة وفلوب مواطنيها.
*****
التأريخ للدولة الحديثة من دولة محمد علي إلى دولة ما بعد 30 يونيو هو تأريخ لظاهرتين متلازمتين:
– تأريخ للطغاة والطغيان، طاغية وراء طاغية، طغيان بنيوي هيكلي مستقر في تلافيف آلة الحكم ذاتها، طغيان حيوي تنتقل جيناته من جيل إلى جيل، وتتكاثر خلاياه وتتطور وتتحور من حقبة إلى حقبة. لكنه يظل هو المهيمن على طبائع السلطة وخصائصها، لا فرق في ذلك بين حاكم يحمل لقب الباشا أو لقب الخديو أو لقب السلطان أو لقب الملك أو لقب رئيس الجمهورية. ولا فرق أن يكون الحاكم من سلالة محمد علي ومن صلبه أو يكون من ضباط الجيش وممن خدموا في صفوفه، هي -في كل عهودها- دولة إملاء، تُملي من إرادتها على الشعب ما تشاء، وليس أمام الشعب من خيار إلا أن يكتب ما يُملى عليه ثم يمتثل له ثم ينفذ بنوده دون اعتراض ولا امتعاض. حتى لو كان الحاكم -في شخصه- هزيلًا سقيمًا سطحيًا تافهًا ضعيفًا، فإن الطبيعة البنيوية الهيكلية لآلة الطغيان تستلمه وتجعل منه طاغية بمجرد أن يجلس على الكرسي. ثم يبدأ في مزاولة مهام سلطته ثم يتلقى آيات الخشوع والامتثال ممن حوله من كبراء ووزراء ومستشارين وحشم وخدم وأصحاب مصالح، فيجد نفسه -من تلقاء نفسه وتلقاء الظروف المحيطة به- قد أصبح طاغية لا يقل عمن سبقوه من طغاة ولا عمن سيلحقون به في مسلسل الطغيان.
الملاحظ في تاريخ الطغيان الحديث عدة أمور:
1 – أن اللاحقين من الطغاة ينكرون ويمسحون كل إنجازات من سبقوهم من الطغاة إلا إنجاز الطغيان، فهم يحافظون عليه ويحتفظون به ويستكملون مسيرته.
2 – أنه طغيان ذو طبيعة تصاعدية، هو الظاهرة الوحيدة في مصر التي تواصل الصعود في كل الظروف وفي كل العهود. لا يتوقف الطغيان إلا نادرًا جدًا ولفترات محدودة جدًا وبصورة متقطعة جدًا ثم لا يلبث أن يستأنف مسيرته ويصل منها ما انقطع ويشق طريقه في صعود جديد، فالحاضر من عهودها هو الأشد طغيانًا بين كل عهودها منذ مطلع القرن التاسع عشر، وبما في ذلك حقبة الاحتلال البريطاني التي امتدت ثلاثة أرباع قرن.
3 – ذروة هذا الطغيان أن الشعب -كل الشعب- لا يستطيع ولا يجرؤ ولا يملك المقدرة على أن يمتعض أو يعترض أو يقتح فمه أو يرفع صوته أو يلوح بيده ليطالب بما كان يطالب به من حريات وحقوق في عهود سابقة بما فيها عهد الاحتلال. هذه حقيقة تاريخية مستقرة يدركها ويقف عليها من يعيش ويعي الفترة الحالية من تاريخ الدولة الحديثة. إذ تبدو كوعاء محمول فيه ومكدس فيه ومجموع فيه عصارة وخلاصة كل ما مر على مصر من طغيان وقهر في تاريخها القديم والوسيط والحديث.
4 – ذروة الطغيان الأخير في الفترة الراهنة من تاريخ الدولة الحديثة يرجع إلى ثلاثة أسباب:
– أولها هو قيام ثورة 25 يناير 2011م وهي ثورة عظيمة وتنفرد بين كل ثورات مصر أنها قامت في وجه الطغيان بصفة كاملة بينما كانت الثورات السابقة – العرابية 1881 – 1882م ثم ثورة 1919م ثم ثورة 23 يوليو 1952م- كانت ثورات مزدوجة موجهة في وقت واحد ضد الطغيان المحلي والاحتلال الأجنبي، أما ثورة 25 يناير 2011م فكانت مركزة وشديدة التركيز على الطغيان المحلي. وهي بهذا ثورة فريدة من زاوية أنها شكلت خطرًا كبيرًا على تكتلات المصالح والنفوذ المستقرة منذ منتصف القرن العشرين.
– ثانيها وصول الإخوان إلى حكم مصر، وهم -بالتعريف الموجز- نقيض للدولة المصرية من أساسها، دون أن يكونوا بديلًا ديمقراطيًا عنها. وهم بهذا المعنى خطر على الدولة لا كجهاز للفساد والاسنبداد، فهم نتاج للفساد والاستبداد، وطالما تحالفوا مع الفساد والاستبداد، لكن هم خطر عليها بما هي إطار جامع لكل المصريين على اختلاف أديانهم وأفكارهم وطبقاتهم الاجتماعية. هم بديل طغياني عابر للوطنية، يختلفون عما هو قائم من حيث الهوية، ويتفقون معه من حيث الطغيان.
– وثالثها أن صيغة الحكم التي جاءت بها دولة ما بعد 30 يونيو 2013م والذي جعلها ذروة الطغيان المعاصر أنها:
أ – نزلت بسقف التحديث الذي تبناه محمد علي وسلالته من أن تكون مصر قطعة من أوروبا إلى أن تكون قطعة من نماذج العمران الخليجي.
ب – ثم تخلت عن العقد الاجتماعي لثورة 23 يوليو 1952م وذهبت تسير خلف سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
ج – نزول السقف الحضاري جعلها طغيانية بلا مشروع، والتخلي عن العقد الاجتماعي جعلها طغيانية بلا قلب وبلا صديق.
*****
ما سبق هو نصف الحقيقة، هو حقيقة السلطة منذ مطلع القرن التاسع عشر إلى وقت كتابة هذه السطور. أما النصف الثاني من الحقيقة فهو مقاومة هذه السلطة بما تعنيه من طغيان، سواء طغيان الحكام من سلالة محمد علي أو من ضباط الجيش أو من هيمنة الاحتلال ثلاثة أرباع قرن أو من النفوذ الخفي للاستعمار الجديد. هذه المقاومة هي تاريخ الشعب المصري على مدى قرنين وربع قرن من الزمان. وهي مقاومة موصولة لم ولن تتوقف، كان عمادها وما يزال يقوم على ثلاثة أضلاع:
– الاستقلال الوطني في مواجهة تدخل واستغلال الخارج.
– الدستور والديمقراطية في مواجهة طغيان واستبداد وفساد الداخل.
– التنمية والعدل الاجتماعي في مواجهة الفقر والتفاوت بين الطبقات.
*****
وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.