يرقص لبنان حاليا على حافة الانهيار الاقتصادي نتيجة لعقود من السياسات الاقتصادية والسياسية الخاطئة. والتي تسببت في انهيار سعر صرف العملة وتفاقم ملف الديون. حتى باتت الدولة المعروفة بـ”سويسرا الشرق” على حافة الإفلاس.
ويخوض لبنان في الوقت الراهن مفاوضات شاقة مع صندوق النقد الدولي على برنامج تمويل أشبه بالقشة التي تتعلق بها بيروت من الغرق. وسط اشتراط الصندوق موافقة الحكومة على إصلاحات. أولها تصحيح الموازنة وإعادة هيكلة القطاع المصرفي وإصلاح المؤسسات العامة والتصدي بحزم للفساد المستشري.
وقدر المفاوضون اللبنانيون حجم الخسائر المالية التي يعانيها الاقتصاد حاليًا بنحو 69 مليار دولار. لكنهم لم يتوافقوا بعد على كيفية توزيعها.
ويصمم صندوق النقد على عدم تحميلها لصغار المودعين في البنوك. لكن نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي قال إنه سيجري توزيع الخسائر على الدولة ومصرف لبنان والمصارف والمودعين.
لبنان من الحرب الأهلية إلى الإفلاس
ويعاني لبنان أزمة كبرى -وهو الذي اعتمد منذ الحرب الأهلية على الدعم الأجنبي- فالسياسيون الُسنة مدعومون من السعودية والشيعة (حزب الله وحركة أمل) مدعومون من إيران وسوريا. والمسيحيون يتلقون دعمًا من فرنسا. والدروز بحكم توزعهم في لبنان وسوريا وإسرائيل لديهم دعم موزع بين الولايات المتحدة وتل أبيب.
وقد تغيرت المعادلة قبل عام بالداخل اللبناني. فدول الخليج توقفت عن الدعم رداً على ما أسمته “تنامي نفوذ إيران في لبنان عبر ذراعها حزب الله”. فضلا عن غضب السعودية والإمارات من تصريحات وزير الإعلام السابق جورج قرداحي التي انتقد فيها حرب اليمن. وفرنسا وقفت هي الأخرى الدعم بسبب عدم القيام بإصلاحات اقتصادية متفق عليها في مؤتمر دعم لبنان في أغسطس 2021.
وقد تفاقمت الديون اللبنانية لتبلع نحو 93 مليار دولار حاليًا. تعادل 170% من الناتج المحلي. وحال حسابه بسعر صرف الليرة بالسوق السوداء قد يصل إلى 270% وهو أحد أعلى معدلات الدين في العالم.
وتم احتساب الديون بناءً على سعر الصرف الرسمي البالغ 1507.5 ليرة مقابل الدولار. وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي حول الناتج المحلي الإجمالي لعام 2020. لكنها تقترب حاليا من 24 ألف ليرة للدولار الواحد بالسوق السوداء.
أزمة تضخم
مع تضخم هو الأعلى عالميا بنسبة تصل إلى 178٪، لا تملك الحكومة حاليا سيولة للدفع لمحطات الكهرباء. ولا مصادر للعملة الخارجية باستثناء تحويلات العاملين بالخارج التي ناهزت 7 مليارات دولار عام 2020.
وأصبحت قدرات الحكومة على التصرف مغلولة فالدولة تستورد 80% من غذائها بالعملة الصعبة. فضلا عن أن موازنة العام الحالي التي تم إقرارها في فبراير الماضي تتضمن عجزا بنحو 17%، أي نحو 7 تريليونات ليرة.
ويدفع لبنان ثمنًا للاستسلام لفكرة “سويسرا الشرق الأوسط” والاعتماد على الموارد السياحية والطبيعية التي ضاعت جدواها في خضم الاقتتال الداخلي والتناحر الطائفي. ليتم هجرة الأبراج الشاهقة في بيروت ومراكز التسوق التي كانت تعج بالسائحين.
في 2010 كانت إيرادات السياحة اللبنانية نحو 8 مليارات دولار باستقبال 2.2 مليون سائح. قبل أن تتأثر بأحداث الربيع العربي في الدول المجاورة وتدخل في دوامة عدم استقرار سياسي. أدت لعزوف السائحين خاصة بعد انفجار مرفأ بيروت الذي أغلق معه نحو 2000 غرفة فندقية وفجر موجات من التظاهرات.
وأمام شح الموارد تحول لبنان للاقتراض بإفراط والاستدانة بديون جديدة لتسديد القائمة. مع تقلص تحويلات العاملين هي الأخرى منذ عام ٢٠١١ على وقع أحداث الربيع العربي. ففي فترة ازدهارها سجلت 12 مليار دولار. فيما لجأت البنوك اللبنانية قبل أعوام إلى منح أسعار فائدة استثنائية للودائع الدولارية الجديدة. ونظرا لأن الليرة مربوطة بالدولار عند 1500 لأكثر من عقدين آتت الفكرة أكلها وجاءت المزيد من المواد الدولارية لكن انفلت معها الالتزامات المستحقة.
سياسات لبنان المالية انقلبت إلى النقيض
ابتكر رياض سلامة -الذي يتولى منصب حاكم مصرف لبنان المركزي منذ 1993- ما يسمى بعمليات “الهندسة المالية” التي استطاع بها تجنيب البنك الحرب الأهلية والأزمات السياسية المستمرة والفراغ الرئاسي. حتى تم اختياره أفضل محافظ بنك مركزي في المنطقة أكثر من مرة من مجلة يوروني.
واستحدث “سلامة” سياسة التكافؤ بين الليرة اللبنانية والدولار التي سمحت للبنانيين بالتمتع بمستوى معيشي غير متوقع منذ التسعينيات. قبل أن تنعكس بالسلب مع ارتفاع حجم الالتزامات والديون وانهيار سعر الليرة ويصبح سلامة أحد المتهمين بالفساد والإضرار بالاقتصاد.
ويطلب لبنان حاليًا 10 مليارات دولار من صندوق النقد. لكن الصندوق ربما لا يمنحه أكثر من 5 مليارات دولار. وهو رقم منخفض حال مقارنته باحتياجات الخطة الحكومية للإنقاذ المالي التي تقدر بنحو 70 مليار دولار في القطاع المالي.
القرض يمثل خطوة لتأجيل دخول البلاد نحو مرحلة الإفلاس أو العجز عن سداد ديونه أو الوفاء بالتزاماته المالية الأخرى مثل دفع الرواتب والأجور ودفع ثمن البضائع والبضائع.
قد تكون مشكلة لبنان أعقد بكثير من مرحلة ما بعد الحرب الأهلية. وترجع لطبيعة النشاط الاقتصادي الرئيسي للبنانيين الذين كانت الأعمال الزراعية والحرفية هي نشاطهم الأول. قبل أن تبدأ نوبات الهجرة للقارتين الأمريكية والأوروبية مع نزوح عشوائي من الأرياف إلى المدن. دون أن تتوفر فرص العمل الكافية لاستيعاب هذا العدد الكبير من المهاجرين.
مشكلات قديمة تدفع ثمنها الأجيال الجديدة
لم تهتم الحكومات فعلياً بوقف الهجرة من الأرياف والمدن إلى عاصمة البلاد التي ضمت نصف سكان لبنان في نهاية الستينيات. كما ترّكز 80% من سكان لبنان على الشاطئ البحري ومدنه. ما سبب خللاً كبيرًا في البنية الاقتصادية وخسائر القطاعين الحرفي والخدمي. وظلت تحويلات العاملين في الخارج المعوض لتلك الانخفاضات خاصة مع انتعاش البترول بالخليج وسفر الآلاف للعمل هناك.
منذ عام 1997 حتى 2019 اعتادت السوق اللبنانية التعامل بالدولار الأمريكي والليرة اللبنانية معًا. كأنهما عملتان مرتبطتان بسعر صرف غير قابل للتغيير. وتبنت الحكومات نهج الاستدانة بالدولار دون حساب أو مخاوف. قبل أن يبدأ الوضع الاقتصادي-المالي-النقدي-المصرفي في الانهيار منذ سبتمبر 2019.
اتضحت أخيرا مخاطر الدولرة الجزئية أو بمعنى آخر مخاطر فروق العملة. حتى وصلت قيمة الدولار الأمريكي إلى مستوى يتراوح بين 23775 و23825 ليرة للدولار الواحد في السوق السوداء حاليًا.
ووفقًا لبيانات صادرة عن لجنة إلغاء الديون. هناك سببان رئيسيان لحدوث أزمة لبنان. أولهما أن البنوك التجارية يُسمح لها بالمضاربة في العملات الصعبة المحولة من المغتربين في الخارج على صكوك الدين السيادية المقومة بالليرة اللبنانية بأسعار فائدة أعلى بكثير من تلك التي يمنحها مصرف لبنان المركزي.
يقول الدكتور إلياس بانتيكاس -أستاذ القانون والتحكيم الدولي بكلية القانون في جامعة حمد بن خليفة- إن الفساد المستشري في المؤسسات المالية الحالية أحد أسباب مشكلات لبنان. فالتقارير الصادرة عن اللجنة توضح أنه خلال الفترة من 2005 إلى 2014 استحوذ أغنى 1٪ من سكان لبنان على 23٪ من الدخل. وعلى 40٪ من إجمالي الأصول الشخصية بينما كان على أفقر 50٪ من السكان أن يتقاسموا نصف الدخل الذي يحصل عليه أغنى 1٪ من السكان.
على مشارف الإفلاس
رغم تحذير نائب رئيس الحكومة اللبنانية من أن الدولة على مشارف الإفلاس -وهو تصريح أثار جدلاً ونفته الحكومة والبنك المركزي وأكدوا أنه تم اقتطاعه من سياقه- لكن الأمور تشير إلى أن لبنان في طريقه للإفلاس بالفعل. وذلك حال عدم تدخل دول الخليج أو فرنسا أو صندوق النقد الدولي لإنقاذه.
وبحسب معهد تمويل الشركات فإن إفلاس الدولة يعني فشل الحكومة في سداد مدفوعات أقساط الدين والفائدة عند استحقاقها. وقد يكون الفشل في سداد الديون المستحقة للدائنين مصحوبًا بإعلان رسمي من الحكومة بأنها لن تسدد الديون المستحقة. أو قد يحدث أحيانًا بدون أي إعلان رسمي. وكل تلك الأمور تنطبق على لبنان حاليًا.
وقد حشدت باريس الجهود الدولية لدعم لبنان قبل أربعة أعوام واستضافت مؤتمر “سيدر للمانحين” الذي وعد بأكثر من 11 مليار دولار للاستثمار في البنية التحتية. بشرط تنفيذ إصلاحات لم تنفذ. قبل أن تشهد العلاقات بين البلدين فجوة منذ مؤتمر روما عام 2018. وتراجع بيروت عن شراء فرقاطة بحرية من فرنسا وميلها نحو إيطاليا.
يسمح الغرب حاليًا لفرنسا بلعب الدور الأكبر في لبنان كممثل لأوروبا لأسباب براجماتية صرفة. فسقوطه يعني تدفق ملايين البشر إلى الناحية الأخرى من المتوسط. وهي مشكلة لا تريد الدول الكبرى السماح بها. إذ عانت أوروبا من الأزمة السورية التي دفعت بآلاف اللاجئين المقيمين في معسكرات الإيواء حتى الآن. والأمر يتكرر حاليا في أزمة أوكرانيا التي دفعت بنحو 4 ملايين لاجئ إلى أوروبا. ما يعني أن صندوق النقد ربما مجبر على دعم لبنان خوفا من تبعات انهيارها.