أصدر صندوق النقد الدولي منذ أيام تقريرًا بحثيًا بالغ الأهمية تحت عنوان The Stealth Erosion of Dollar Dominance أو “التآكل الخفي لهيمنة الدولار-صعود عملات الإحتياطيات غير التقليدية”، ولا تكمن أهمية هذا التقرير -فقط- في توقيته ومحتواه الفني ودلالته السياسية ولكنها تكمن بالدرجة الأولى في مَصدره الذي هو ثاني اثنين إذ هما في واشنطون (الصندوق والبنك الدوليين) بما يمثله هذا الأمر من رمزية يجب أن يتوقف أمامها المُدَقِق بعين المتفحص المُتأمل.

في 23 مارس 2022 أخذت الأزمة الأوكرانية مَنحىً جديدًا عندما أعلن الرئيس بوتين وقف بيع النفط والغاز الروسيين بالدولار واليورو للدول “غير الصديقة”، والاقتصار على تلقي قيمتهما بالروبل الروسي بما يستدعى -في ظل عدم توافر العملة الروسية لدى دول الإتحاد الأوروبي تحديدًا وفي ظل احتياجها الضاغط بشدة لمصادر الطاقة- أن تبرم تلك الدول عقودًا للاقتراض بالروبل من روسيا حتى تتمكن من تكوين حصيلة تُمكنها من السداد بالروبل، وهو أمر لا يعني سوى الانصياع والرضوخ ثم القبول بهزيمةٍ أساسها اقتصادي ومظهرها عسكري ذو أبعاد جيوسياسية. توقف مراقبون كثيرون أمام إعلان بوتين بقدرٍ من التوجس المَشوب بالشك إلى أن داهَم الثعلب الروسي المكير العالم أجمع بضربة أخرى كانت بمثابة الترجمة العملية لقراره، إذ قام البنك المركزي الروسي بعد ذلك بأقل من أسبوع بتثبيت سعر الذهب مقابل الروبل (كل جرام ذهب=5,000 روبل) وهو ما يعني إمكان تلقي روسيا قيمة ما تبيعه من نفط وغاز للدول غير الصديقة “بالذهب” المتوافر لديها بما يحافظ على سعر الروبل ويحميه من أية تذبذبات ترتبط بعملات أخرى من ناحية، ويسحب من ناحية أخرى أرصدة ذهبية جوهرية من تلك الدول بما يضعها في أزمات قد تنتج من نقص غطاء الذهب ويدخلها في موجات تضخمية بالغة الحدة.

نعود لتقرير الصندوق الذي تَلَى قرار تثبيت سعر الذهب أمام الروبل بأيامٍ معدودات. يشير التقرير الصادر في أربعين صفحة إلى أمر بالغ الخطورة ورد في الصفحات من 22 إلى 28 يتعلق بالاحتياطيات الدولية بالعملات غير التقليدية (العملات التقليدية التي وصفها التقرير بكونها The Big Four أي “الكبار الأربعة” هي الدولار واليورو والجنيه الاسترليني والين الياباني، وماعدا ذلك هو “غير تقليدي”). جاء بالتقرير أن الاحتياطي العالمي من العملات غير التقليدية قد نما بشكل ملحوظ من ما يعادل 30 مليار دولار في 1999 إلى ما يعادل 1.2 تريليون دولار في العقدين الأخيرين بما صار يشكل نحو 10% من الاحتياطي العالمي وأضاف التقرير أن 25% من هذه الزيادة بالعملات غير التقليدية قد أتت تحديدًا من “الرينمنبي” (العملة الصينية الرسمية التي يشكل اليوان وحدة منها) حيث جاءت الصين على رأس قائمة الدول التي تملك احتياطيات بالعملات غير التقليدية تلتها سويسرا ثم روسيا.

بخلاف كون هذا التقرير صادر عن صندوق النقد الدولي كأحد ذراعي نظام بريتون وودز، فهو قد صدر في توقيت حساس جدًا تجرى فيه على الأرض أحداث جسام تستدعي قراءته بتأنٍ لأجل إدراك الإشارات واستنباط النتائج، فربما نجد به إضاءاتٍ للمستقبل تنير الطريق صوب ما ينبغى علينا القيام به وإتخاذه من إجراءات. كنت دومًا أنادي بأهمية أن تقوم الدول وبالذات الدول الفقيرة صاحبة الاقتصادات الناشئة بالاعتماد في تكوين احتياطياتها الأجنبية على ما اصطُلِح علي تسميته بـCurrency Basket أو “سلة العملات” توزيعًا للمخاطر بحيث لا تختل قيمتها الإجمالية بشكل جوهري إن انهار سعر عملةٍ ما داخل هذه السلة. وأظن وليس كل الظن إثم أن تلك الدول بحاجة ماسة الآن أن تفعل ذلك وبأسرع وقت ممكن تحوطًا لغموضِ ما بعد انتهاء الأزمة الأوكرانية. وأنا رغم ما أعربت عنه كثيرًا من ظنٍ بأن نظامًا عالميًا جديدًا -بالمفهوم الثقافي على غرار ما كان قائمًا إبان الحرب الباردة- لن يرى النور على أثر نتائج الأزمة، إلا أن ترتيبات عالمية جديدة تتشكل ملامحها الآن على وقع دَوى القذائف في خاركاييف والدم المسفوك في بوتشا، ستفرض نفسها على العلاقات الدولية فقد تنشأ تحالفات تكتيكية مرحلية لا استراتيجية بصيغةٍ جديدةٍ تتمثل في تمحورٍ على الذات غير منغلق بالكُلية (تمحور على الذات الوطنية مُنفَتِح على أعضاء تلك التحالفات) يسفر عن تبدل محسوب في موازين القوى برسم فَضٍ مُحتَمَل للارتباط بالدولار كعملة تبادل عالمية، حيث تشهد تلك التحالفات تكوين سَلةٍ للعملات كأداة للتبادل بين مجتمعاتها عِوضًا عن الدولار.

ولعل الترتيبات التى تجري حاليًا لتبادل البضائع بعملة غير تقليدية بين الصين وروسيا وإيران التي تعتبرها أمريكا من الدول المارقة والتي امتدت لتشمل بعض دول الخليج صاحبة العلاقات الاستراتيجية مع أمريكا هي خير دليلٍ على أن تغيرًا تدريجيًا في سبيله للتحقق ولو على أجلٍ طويل. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة وسط ما يحدث هو: هل يقتصر الشيخ الجالس في المكتب البيضاوي على فرض العقوبات ثم المزيد منها أم أن مسرح الأحداث الدولية -سواء بساحات المعارك المفتوحة أم بأروقة الاجتماعات المُغلقة- يُجرى إعداده الآن لحدث ضخم يشرب فيه الشيخ من نبع الشباب مستعيدًا عنفوان قوةٍ تحمل داخلها مكامن ضعف شديد.