هناك محللين من كل الاتجاهات يتابعون الحرب الأوكرانية ويكتبون عنها، ويتفقون ويختلفون وفق رؤاهم وإنحيازاتهم، وهناك رأي عام لديه مواقفه العفوية ما بين مؤيد لجرأة بوتين وتحديه للغرب والمنظومة العالمية، ومن يعتبره رجلا أهوج أضر بمصالح بلده وسيدفع ثمنا باهظا نتيجة العقوبات التي فرضت عليه.

وهناك فئة أخرى ثالثة سبق ورأيناها في أحداث كثيرة سابقة، وهي فئة المشجعين الذين “تخرج عروقهم” دفاعا عن طرف ضد آخر، ويحدثوك عن أن انتصار أوكرانيا هو انتصار للديمقراطية وبداية انتشارها في كل ربوع الدنيا، وآخرون يعتبرون أن انتصار بوتين هو انتصار للدولة القوية والأمن القومي ورفض الهيمنة الغربية على العالم.

سلوك المشجع في مباراة رياضية جميل ورائع، ولكن أن يصبح سلوكا عاما ونمط حياة، فتلك كارثة يجب علينا أن نعي عواقبها الشديدة على طريقة “الكلام ليس علية جمرك”.

والمؤكد أن البعض في مصر والعالم العربي سمعناه يدافع عن روسيا و”يحن” للدول الشمولية باعتبارها نماذج لدول قوية لها صوت وهيبة، ويتناسون حالهم بأنهم بعد أن رفضوا الديمقراطية ودولة القانون في بلادهم، لم يبنوا هذه الدولة القوية ولم يدافعوا عن أمنهم القومي، وبدا تشجيعهم لبوتين وكأنه تعويض عن فشلهم.

أفهم إذا كان هناك من يرى وهو محق أن قضايا الأمن القومي تتجاوز طبيعة النظام السياسي، وأنه لا يمكن ربط الدفاع عنها بديمقراطية النظام القائم من عدمه، وعليه إذا قرر أحد تشجيع بوتين دفاعا عن أمن بلاده القومي، فيجب أن يأخذ الخط على استقامته ويشجع مصر أن تتخذ سياسات خشنة دفاعا عن أمنها القومي الوجودي في قضية المياه، وهي أخطر بكثير من التهديدات التي ستتعرض لها روسيا في حال انضمت أوكرانيا لحلف الناتو.

إن من قرر أن يدعم بوتين في أوكرانيا دفاعا عن أمنه القومي، فعليه ألا يصاب بانبطاح كامل إذا طالبه أحد بأن تتوكل مصر على الله وتتخذ خيارات خشنة محسوبة في مواجهة التهديد الأثيوبي، فيجب أن يتوقف هذا التناقض الفج بين الذي يشجع الآخرين على فعل، ويقوم هو بعمل عكسه في الواقع، وأن يتحمل هؤلاء تبعات خيار “الأمن القومي فوق أي اعتبار” سواء بالنسبة لنا أو غيرنا، لا أن نمشي على سطر ونترك آخر فنشجع روسيا في فعلتها ونطالب غيرها بأن يفعل عكس ما فعلته.

لقد اعتدنا في العالم العربي أن نستمع لحناجر كثير من الناس وهم يشجعون الفلسطينيين على استمرار المقاومة والصمود ويزايدون عليهم إذا قبلوا بهدنة مع الدولة العبرية، لأنهم يدفعون كل يوم الثمن من أرواحهم وممتلكاتهم، أما المشجعون فيكتفون بالتشجيع الحار والصراخ اليومي دون أي قدرة على المساعدة.

المشجعون في مصر وعالمنا العربي ظاهرة متكررة، وأظهرتهم مرة أخرى الحرب الروسية في أوكرانيا، فمن يتصور أن بناء نظم قوية ومتقدمة حتى لو كانت غير ديمقراطية جاء بالفهلوة والأجهزة الأمنية وكراهية العلم مخطئ، فالصين التي يستدعي البعض نموذجها بروح المشجع أيضا ينسي أو يتناسى أنها بنت نموذجها السياسي عقب ثورة شعبية كبرى في عام 1949 قادها حزب عقائدي ثوري (الحزب الشيوعي) يحكم منذ 73 عاما ونجح بالعلم والبناء السياسي أن يجعل الصين ثاني أكبر قوة في العالم.

نظام الحزب الواحد في تجارب النجاح الاستثنائية في العالم مثل الصين وكوبا له أصول وقواعد، وهو يعني قدرة السياسة على دمج أغلب الناس في العملية السياسية وفي داخل النظام الشرعي الذي يحكم البلاد، وهذا ما نجح فيه بدرجة كبيرة الحزب الشيوعي الصيني الذي يضم حاليا أكثر من 90 مليون عضو، أي حوالي 5% من عدد السكان، وهو بذلك يعد أكبر حزب سياسي في العالم، ويسيطر على التوجهات الأساسية في مكاتب الحكومة المركزية والمناطق الحضرية ويبدي مرونة في المناطق الريفية، حيث يعيش غالبية سكان الصين.

وللحزب عقيدة سياسية بعيده عن الفهلوة والكلام الفارغ ويتبني “الاشتراكية بطبعة صينية”، تقوم على أربعة مبادئ أساسية: أولها التمسك بخط الحزب الشيوعي، والثاني تحرير الأفكار وطلب الحقيقة من الواقع، والثالث التمسك بخدمة الشعب بكل أمانة وإخلاص (لا إهانته واعتباره سبب المشاكل)، وأخيرا التمسك بنظام المركزية الديمقراطية أي بعد الاستماع لمختلف الآراء وإجراء نقاش حقيقي داخل كل وحدة حزبية صغير، يتم الالتزام بالقرار النهائي لقيادة الحزب.

فهل يتصور مشجعو “اللعبة الحلوة” أنه يمكن مثلا استنساخ النموذج الصيني في مصر؟ الحقيقة مستحيل لأن كل الشروط التي أفرزت النجاح الصيني غير متوفرة في مصر، ولا السياق التاريخي والسياسي الذي أنتج القوة الصينية يمكن نقله إلى بلد آخر “بالحب” والإشادة والكلام الطيب.

تجارب الدولة القوية المتقدمة صناعيا واقتصاديا في نظم الحزب الواحد أو التعددية المقيدة مثل الصين وكوبا وروسيا لم يبنيها هواة ومشجعون، إنما مناضلون وثوار أسسوا تنظيمات سياسية “غرست” في الغيطان والمصانع، فلم يكن وصول الحزب الشيوعي الصيني للسلطة نزهة أو شهوه سلطة، إنما كانت حرب سقط فيها مئات الآلاف من أعضائه قتلي، ثم نجح بعد وصوله للسلطة أن يفرز رجال دولة يقودون هذا البلد لأنهم آمنوا بالعلم وامتلكوا أوراق اقتصادية وسياسية وعسكرية قوية جعلت الصين رقما حقيقيا في العالم.

عقلية المشجع هي التي تتصور أن نجاح حرب بوتين دفاعا عن أمنه القومي، سيكون بالتصفيق، في حين أن الرجل دفع ثمنا كبيرا لهجومه على أوكرانيا ووضع حسابات كثيرة معقده وامتلك أوراق قوة قبل أن يقدم على هذه الخطوة، ولم يفعل مثل صدام حسين حين غزا الكويت في 1990 دون أي حسابات أو أدوات قوة.

عزيزي المشجع أعرف أن حتى نماذج الدول القوية غير الديمقراطية التي تشجعها وتعجب بدفاعها عن أمنها القومي، فهي تستند إلى مشروع سياسي وتدفع ثمن حقيقي لهذه الخيارات أي كان الرأي فيها.  فليس بالتشجيع تبني الأوطان.