بدل رفع الأنخاب في النقب وتسكر بنشوة احتفالات تشكيلها لتحالف أمني إقليمي مُعادٍ لإيران يعمدها وكيلا عن واشنطن في قيادة المنطقة واجهت إسرائيل لحظة الحقيقة بهجمات فلسطينية مركزة. ذكّرتها بأوجاع الانتفاضتين الأولى (1987) والثانية (2000) ومعركة “سيف القدس 2021”.
عادت حكومة دولة الاحتلال مرغمة للاعتراف بأن الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي هو الأولوية الأولى والشغل الشاغل لها. وإنه هو التحدي الأساسي الذي تواجهه. وهي التي كانت كذبت على نفسها ثم صدقت الكذبة أن هذا الصراع قد انتهى أو توارى مع موجة التطبيع الإبراهيمي المجاني العلني والمستتر مع عدد من الدول العربية.
اللافت للنظر أنه بينما كانت المؤسسة العسكرية والاستخباراتية ومراكز التفكير الاستراتيجي والسياسي في إسرائيل تفيق من سكرتها. وتجهد عقلها في طرح سيناريوهات لكيفية منع تحول هذه الهجمات إلى موجة مستمرة. أو حتى إلى انتفاضة ثالثة قد توحد فلسطينيي الضفة والقطاع وفلسطينيي الداخل في إسرائيل. كانت أطراف عربية مصممة على شراء الكذبة الإسرائيلية والادعاء بأن النزاع العربي/الإسرائيلي هو مجرد نزاع عادي لا يختلف عن النزاعات الموجودة في داخل بعض الدول (ليبيا وسوريا) أو بين دول عربية (الجزائر والمغرب).
يكرر هذا بالحرف الواحد ما قالته الكاتبة الإسرائيلية المتطرفة ليمور سليمان درش هذا الأسبوع في صحيفة “هاآرتس” العبرية: “وأنه من الضروري في هذه المرحلة المضي قدما في إقليمية شرق أوسطية تتوسطها إسرائيل ذات القدرات الخارقة في الاستخبارات وجمع المعلومات ومحاربة الإرهاب”!.
ولم يقتصر الأمر على نخب سياسية وفكرية تنفر نفورا تاما من فكرة تحرر إرادة الدولة الوطنية العربية من الهيمنة الغربية. وإنما شمل أيضا بعض عناصر النخبة الحاكمة في بعض البلدان العربية. فأحد الرؤساء العرب الذي لا يواجه إلا مشكلة احتجاجات شعبية داخلية يتباهى بالزيارات المتبادلة بين المسؤولين في بلاده والمسؤولين الإسرائيليين. مشيرا إلى أن طابعها أمني وعسكري وأن تل أبيب تزوده بمعلومات استخبارية هامة. وحكومة دولة أخرى تعتقد أنها لن تتغلب على شقيقتها وجارتها العربية في نزاع حدودي يعود تاريخه إلى أكثر من أربعة عقود إلا بتحالف عسكري وتسليح تستقوي فيه بإسرائيل.
باختصار فإنه إزاء التعامل مع التحديات الخطيرة التي تطرحها على مستوى النظام الدولي الأزمة في أوكرانيا. وتطرحها على مستوى النظام الإقليمي اقتراب توقيع الاتفاق النووي مع إيران التي نجح الفلسطينيون بهجماتهم على حشر قضيتهم العادلة على أجندتها. يمكن القول إن المدرسة الواقعية العربية في السياسة الخارجية التي تقبل بكل القواعد السائدة التي أرساها الرئيس السادات من سلام مع إسرائيل إلى تحالف مع الغرب واندماج في النظام الرأسمالي العالمي أخذت منحيين مختلفين.
المنحى الأول لا يرى أملا لتحسين التموضع الجيوستراتيجي العربي أو سد الفجوة الغذائية أو هشاشة الاقتصادات العربية التي أظهرها ترنحها من أصداء أزمة تبعد آلاف الأميال عن منطقتنا إلا بعمل عربي تقوده مصر قائم على المصالح والمصالح فقط.
هذا المنحى عبر عنه وزير الخارجية الأسبق السيد نبيل فهمي قبل عدة أيام قائلا: “إن توازن القوى في الشرق الأوسط ليس فى صالح العرب”. مضيفا أنه لا يوجد حل إلا التضامن العربي للحفاظ على الأمن القومي العربي. وإن الدرس الذي يجب فهمه من الغزو الروسي لأوكرانيا هو أنه لا بد من تنويع البدائل الدبلوماسية إلى روسيا والصين بجانب أمريكا.
وأشار “فهمي” إلى أن الريادة المصرية تتطلب طرح سبل التعامل مع الواقع العربي المعاصر. مشددا على أن “مصر هي الدولة الوحيدة التي يمكنها قيادة الحوار العربي من كافة الجوانب”.
المنحى الثاني: هو دعوة إقليمية حديثة وجديدة شرق أوسطية تلعب فيها إسرائيل دورا رئيسا -تأخذ فيه عمليا دور مصر الإقليمي- في قيادة تنسيق أمني وعسكري تتفوق فيه بنفس الحجة. ألا وهي علو كعبها الاستخباراتي والمعلوماتي تكنولوجيا وميدانيا. هذا المنحى الخطير الذي اعتبر أن قمة النقب إنجازا وأن العمليات الفدائية الفلسطينية هي مجرد ممارسة للعنف لمجرد العنف (الإيحاء الخجول بأنها عمليات إرهابية).
ولكن “ما التبرير الذي تبرر به النخب الفكرية والحاكمة العربية الداعية لإقليمية حديثة تستبدل الأمن القومي العربي بنظام إقليمي؟”.
التبرير هو أن الدعوة لأمن قومي عربي جماعي يستفز إسرائيل وتركيا وربما إيران. واللافت أن هذه النخب هي التي أشبعت صيغة الاتحاد الأوروبي ومزايا الأمن الجماعي الأوروبي مدحا وثناء ولم يقل يوما أن ذلك يستفز أحدا.
تقوم حجج الإقليمية الإسرائيلية برعاية أمريكية في جزء منها -يرجى مراجعة مقالي السابق عن قمة النقب ودور إسرائيل كمقاول فرعي. علي فكرتين غير صحيحتين. الأولى هي أن إسرائيل طرف لا يمكن الاستغناء عنه في تزويد “قوس واسع” من الدول العربية بمعلومات استباقية عالية الأهمية قادرة على منع العمليات الإرهابية من تنظيمات متطرفة مثل “داعش” و”القاعدة” من ناحية. ومنع هجمات ما يسمونه بـ”وكلاء إيران” مثل الحوثيين على السعودية والإمارات.
والفكرة الثانية هي أن إسرائيل تمتلك خبرة استثنائية في عمليات مكافحة الإرهاب. وأن نقل هذه الخبرة سوف يعزز جهود الدول العربية المذكورة في القضاء على تهديدات الجماعات الإرهابية.
من يرى الصدمة والإحباط والشعور العام في إسرائيل بالفشل والتقصير في التنبؤ بالهجمات الفلسطينية الأربع التي مزقت غلاف الأمن الإسرائيلي. والنقد المرير لأجهزة الاستخبارات الداخلية والخارجية الإسرائيلية واتهامها بالعجز والتخبط وقلة الحيلة ونقص المعلومات ووجود الثغرات الأمنية التي سمحت حتى باختراق الجدار العازل. لا بد أن يضع فكرة إسرائيل “السوبر مطلعة على كل شيء” في حجمه الحقيقي.
لا أشير هنا إلى قديم فشلها في التنبؤ الكافي بحرب أكتوبر. ولكن أذكر بما حدث في العام الماضي في معركة سيف القدس من إخفاق فادح في مؤسسات الاستخبارات الإسرائيلية في التنبؤ بتطور صواريخ ومسيرات المقاومة الفلسطينية في غزة. ولا فشلها في التنبؤ بانهيار أكذوبة التعايش مع عرب إسرائيل عندما انضمت الأجيال الجديدة من الفلسطينيين داخل الخط الأخضر إلى المواجهة مع شرطتها وجحافل مستوطنيها ويتعاملون مع الدولة الإسرائيلية لا كمواطنين بل كدولة احتلال وفصل عنصري تمارس ضدهم أسوأ الممارسات العنصرية.
أما الفكرة الثانية فهي تكاد تكون أوقح فكرة سواء من الناحية الأخلاقية أو من الناحية الواقعية. فالقول بأن إسرائيل لديها خبرة بمكافحة الإرهاب هو قول معاد لمواثيق الأمم المتحدة ومواثيق حقوق الإنسان. التي تعتبر مقاومة الشعوب محتليها عملا مشروعا. فما واجهته إسرائيل لم يكن يوما إرهابا. بل حركة تحرر وطني مشروعة وبطولية في مواجهة إرهاب الدولة الإسرائيلية الموثق غير الأخلاقي.
أما من الناحية الواقعية فخبرة إسرائيل هي خبرة دولة “أبارتهايد”. تمارس أحط أساليب الفصل العنصري التي عرفها التاريخ. هي خبرة جيش وشرطة وجحافل مستعربين ومستوطنين مسموح لهم بحمل الأسلحة وإطلاق النار على أي فلسطيني أو فلسطينية لمجرد الاشتباه. واستخدام كل أساليب هدم البيوت والاعتقال الإداري وطرد الفلسطينيين من بيوتهم وإحلال يهود من شتات الأرض مكانهم. وهي خبرة وحشية شاملة امتلكتها أنظمة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وناميبيا سابقا. وامتلكتها جزئيا أنظمة الانقلابات العسكرية على سوكارنو في إندونيسيا وعلى الليندي في تشيلي. ولم يدع أحد منهم أو عليهم أنهم يمتلكون خبرة في مجال مكافحة الإرهاب.
الأكثر غرابة هو أن بعض نخب العرب الذين يعولون على إسرائيل لمساعدتهم في مكافحة الإرهاب قد لا يحتاجون إلا إلى مطالعة وقراءة الدعوات الاستراتيجية الإسرائيلية بعد الهجمات الفدائية الفلسطينية. وكلها تعول على المساعدة العربية وحتى التركية لمواجهة التحدي الفلسطيني الصعب.
فحتي تمنع مزيدا من الهجمات الفلسطينية يطلب استراتيجيون إسرائيليون من حكومتهم قائمة طلبات -نرجو ألا تُجاب إليها- مثل الطلب من مصر مساعدتها في احتواء غزة. والطلب من الأردن والسلطة الفلسطينية إغلاق الحدود ومنع تهريب السلاح ومنع التصعيد في الضفة والقدس القديمة. واستغلال العلاقات الوطيدة والحميمة مع بعض دول الخليج في إدانة ما سموه “الإرهاب الفلسطيني”. واستغلال العلاقة العائدة لدفئها القديم مع تركيا لكي تدعو أنقرة الفلسطينيين للهدوء وعدم عودتها إلى التصريحات التحريضية القديمة.
أي إن الذي يحتاج الآخر ويخطط لاستغلاله من أي تحالف إقليمي جديد هي إسرائيل وليست العرب البائدة.
تبدو مدرسة الواقعية التي يمثلها استمرار القناعة بأن لا حل لمواجهة التحديات الجارية والحصول على موقع قدم في النظام العالمي الجديد إلا باستعادة نظام للأمن العربي الجماعي تقود تفاعلاته مصر.
الحد الأدنى الذي يمكن قبوله شعبيا أما مدرسة الواقعية المفرطة التي تسعى لدمج إسرائيل وتخطي حاجز الحق الفلسطيني فهي ستزيد من انسحاق العالم العربي وتقدم إسرائيل وتركيا وإيران لملء هذا الفراغ والتمدد فيه. وهو الانسحاق الذي صاغه السيد نبيل فهمي بطريقة دبلوماسية بقوله: “إن توازن القوى في الشرق الأوسط ليس فى صالح العرب”.