في بلاد جرحتها النكسة التي أذلت الأعناق وأرخت الجفون، جاء أبريل عام 1968 برياحه الساخنة وأجوائه المتقلبة حاملًا العذراء فوق سمائه. “أم النور” تظهر فوق قباب كنيستها في الزيتون بالقاهرة. ظهور يظل لأيام حديث عاصمة مثخنة بالجراح والدموع وكأنه يحمل للأمهات الثكلى ولأسر الأسرى قبسًا من أمومة العذراء التي صبرت على عذابات ابنها المسيح.
لم يكن الظهور الذي أكدته الكنيسة ورواه شهود عيان من المسلمين مجرد حدث عابر في التاريخ الاجتماعي للمصريين. حتى إن حكاياته تتردد اليوم بعد مرور ما يزيد عن نصف قرن من الزمان، تغيرت فيها البلاد والعباد. حتى إن الهزيمة التي جاءت بالعذراء معزية قد تحولت بعد سنوات وفي 1973 إلى نصر مدو.. بينما تظل “عذراء الزيتون” صاحبة الفضل في المحنة كما يراها المصريون.
كيف فسرت الكنيسة ظهور العذراء في الزيتون؟
كان الحدث الضخم أكبر من الاستيعاب حتى إن الكنيسة القبطية صاحبة البيت الذي استقبل العذراء قد استغرقت شهرًا كاملًا حتى تصدر بيانها الأول عما جرى. قالت “إنه منذ مساء يوم الثلاثاء 2 أبريل سنة 1968، توالى ظهور السيدة العذراء في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية التي تحمل اسمها بشارع طومان باي بحي الزيتون بالقاهرة”.
وقال المقر البابوي: “كان هذا الظهور في ليال مختلفة كثيرة لم تنته بعد، بأشكال مختلفة فأحيانًا بالجسم الكامل وأحيانا بنصفه العلوي، يحيط بها هالة من النور المتلألئ، وذلك تارة من فتحات القباب بسطح الكنيسة وأخرى خارج القباب، وكانت تتحرك وتتمشي فوقها وتنحني أمام الصليب العلوي فيضيء بنور باهر، وتواجه المشاهدين وتباركهم بيديها وإيماءات رأسها المقدس، كما ظهرت أحيانًا بشكل جسم كما من سحاب ناصع أو بشكل نور يسبقه انطلاق أشكال روحانية كالحمام شديد السرعة”.
ووفقًا للمقر الباباوي: “كان الظهور يستمر لفترة زمنية طويلة وصلت أحيانًا إلى ساعتين وربع كما في فجر الثلاثاء 30 أبريل سنه 1968 حين استمر شكلها الكامل المتلألئ من الساعة الثانية والدقيقة الخامسة والأربعين إلى الساعة الخامسة صباحا، وشاهد هذا الظهور آلاف عديدة من المواطنين من مختلف الأديان والمذاهب ومن الأجانب، ومن طوائف رجال الدين والعلم والمهن وسائر الفئات، الذين قرروا بكل يقين رؤيتهم لها، وكانت الأعداد الغفيرة تتفق في وصف المنظر الواحد بشكله وموقعه وزمانه بشهادات إجماعية تجعل ظهور السيدة العذراء فى هذه المنطقة ظهورا متميزا في طابعه، مرتقيا في مستواه عن الحاجة إلى بيان أو تأكيد.
ظهور العذراء في الزيتون.. نحو رؤية اجتماعية وفلسفية
لم تكتف الكنيسة بتأكيد أنباء الظهور. إنما ردتها إلى سياقات اجتماعية ودينية أعمق. وهو ما يمكن فهمه من عبارة شديدة الدلالة في بيان ظهور العذراء إذ تقول: “صحب هذا الظهور أمران هامان: الأول انتعاش روح الإيمان بالله والعالم الآخر والقديسين. ما أدى إلى توبة العديدين وتغير حياتهم. والثاني حدوث آيات باهرة من الشفاء المعجزي لكثيرين ثبت علميًا وبالشهادات الجماعية”.
بعد مرور أكثر من نصف قرن على تجلي العذراء فوق الكنيسة، فإن جيلًا جديدًا من الباحثين الشباب الأقباط يحاول فهم الحدث مرة أخرى. فيقول مارك فلبس الباحث الأرثوذكسي:
“أؤمن بأن التاريخ هو مجال فعل الله المفارق والمتجاوز للزمن وحدود الطبيعة، لا استطيع أن أنفي حدثًا إيمانيًا استنادًا على أي استدلالات عقلية أو استنتاجات منطقية. لأن الله الذي هو خالق العقل، فاعلٌ فيه ومتجاوزه في آن، ولا يستطيع المخلوق أن يحد عمل الخالق ولا حريته في التجلي والظهور لخليقته، ولا يستطيع أن ينفي حقيقة شركة القديسين معنا داخل عالمنا الفاني، كل تلك الأمور تقع في صميم إيماني كمسيحي ولا استطيع أن أجحدها أو أن أحيلها إلى سلطة العقل”.
بين العقل والإيمان.. عذراء الزيتون في المنتصف
في الناحية الأخرى من التصورات الإيمانية تلك يطرح العقل تساؤلاته عن حدث ظهور العذراء فيوضح مارك: “لا أستطيع أن أثبت حدثًا لم أكن شاهدًا عليه، خاصًة وأن ذلك الحدث يختلف في طبيعته عن بقية الأحداث المعجزية التاريخية التي يبشر بها الإنجيل، فمعجزات الرب وظهوراته للتلاميذ هي أحداث يحياها الإنسان المسيحي باتحاده مع المسيح في سر التناول ، تلك المفارقة تجعل مارك يؤكد إن ظهور العذراء على قباب كنيستها في الزيتون سنة 1968، هو حدث تاريخي لم يعانيه ولم يختبره شخصيًا في ذاته ،مع ذلك يوضح : نعم أؤمن بأن الصلة بيننا وبين سيدة كل العالم قائمة، وهي تتجلى لي في صلاتي الشخصية، وفي الأيقونة، وهي قائمة كل حين عن يمين ابنها تطلب عني وعن كل الكنيسة، وفي هذا استطيع أن أحكم، أي على ما عشت وما آمنت، وأما من تجلَّت أمامه والدة ينبوع الحياة في الزيتون فله أن يحكم هو في ذلك”.
كيف تحول ظهور العذراء إلى حدث مؤسس في العقلية القبطية؟
يوضح مارك في قراءته لظهور العذراء: محاولتي ليست إثباتًا أو نفيًا للظهور في ذاته. وهذا قبل القفز إلى مقولات الشعور الجمعي والمخيال الشعبي والضلالات. خاصًة وأننا لا نملك أيَّة وثائق تاريخية أو شهادات تؤكد أن ما حدث كان مؤامرة ناصرية كبرى على الشعب المصري عقب هزيمة 1967. خاصة في خضم الأحداث الثورية للحركة الطلابية وإضراب عمال مصنع حلوان بدءًا من فبراير 1968.
الكثير من الشهادات والمذكرات سردت تلك الأحداث. ولكن ولا واحد منها على حد علمي تطرق إلى مؤامرة الظهورات. ما عدا ذلك هو استنتاجات منطقية لأناس لا أعتقد أنهم يؤمنون بشىء. ولكن تحليلنا هنا هو عن كيفية تلقي هذا الظهور في المجتمع القبطي أنذاك، وفي ترسباته داخل الذاكرة القبطية.
وينتهي مارك في تحليله إلى إن حدث ظهور عذراء الزيتون حدثًا مؤسسًا لرؤية الأقباط لأنفسهم وطريقة تعاطيهم معها ومع المجتمع. فالحدث في تلقيه داخل هكذا مجتمع، خرج من مفهومه الأرثوذكسي كمعجزة تُختَبَر شخصيًا لتغير الإنسان في علاقته مع ذاته ومع خالقه، إلى استعراض عظيم لقدرة الإله على خرق الطبيعة. بينما يقبع الإنسان في موقٍع سلبي ليشاهد ويعجب ويفخر.
الإنسان هنا مُلغي تمامًا لصالح الله، وهو السمت اللاهوتي القبطي ذو القصور الواضح، فهو على العكس من إنسان الإنجيل الذي غالبًا ما يدخل في حوار مع إلهه قبل أو بعد المعجزه، ليقوده هذا الديالوج إلي تغيير شخصي في حياته، فهو إنسان منفي مُستبعد، مغلول، غير مشارك في الاستعراض الكبير سوى بالانبهار والتصفيق، خاصًة مع الأجيال التي لم تشهد الحدث مضيفا: وعلى الخلاف من المفهوم الأرثوذكسي لمعجزات التجلي، تتحقق المعجزة في فتح أعين الإنسان على حقيقة حياته لا على الاستعراض الأجوف لقوة الألوهي أو كراماته.
ظهور العذراء في الزيتون.. تجلي في الذاكرة القبطية
وفي زاوية ثانية من قراءة الحدث تتعلق بسياقاته الاجتماعية يشدد مارك: “رسخ ظهور العذراء في الزيتون سردية الأقباط عن دينهم كونه الأكثر صحة حتى بين أصحاب دين الأغلبية. وعن كنيستهم كونها الأكثر استقامًة بين كنائس الأقلية التي ما انفكّت تمارس عليها استعلاءًا متزايدًا. فمن جهة صحة الديانة، ساعد الحدث الكبير الأقباط على تخطّي الأزمات الوجودية الحادة التي كادت تعصف بهم في عهد الرئيس المؤمن في السبعينيات، كونهم أصحاب التأييد السمائي من سيدة نساء العالمين. وأما من جهة استقامة الكنيسة، ساهم الحدث في تقعيد السردية القبطية الكبرى عن أكثر الكنائس نقاءًا عقديًا واستقامةً في الإيمان”.
كيف اختلف ظهور العذراء عند الكاثوليك عن الأقباط؟
يقارن مارك بين ظهور العذراء عند الأرثوذكس والكاثوليك. فيقول: فمع أن ظهورات العذراء عند الكاثوليك تعد بالمئات، كما أنه لا يكاد يخلو اجتماعًا بروتستنتيًا من تجلي إلهي ونبوءات بوجه ما. إلا أن حدثّا خارقًا ومهيبًا كالذي حدث في الزيتون ساهم أكثر في ترابط الجماعة، والتفافها حول مقدسها، وكرَّس لسرديتها حول ذاتها إلى الأبد. فبينما ساعد الحدث الأقباط على الاستمرار في الوجود على المستوى الديني العام. إلا أنه كرَّس لانغلاقهم على المستوى الكنسي الأضيق.