تكمن أزمة المجتمع المدني في مصر في واقع مفروض عليه يخالف المعلن في كثير من الخطابات الرسمية للدولة المصرية. وقد أُعلن 2022 عامًا للمجتمع المدني. وقبله أطلقت الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان. وهي تؤكد على أهمية شراكة الدولة مع المنظمات المدنية في أكثر من موضع. وهي التزامات لطالما نادت بها هذه المنظمات، وقد فرضتها الدولة على نفسها أخيرًا. لكنها لا تزال ضمن مجرد خطاب يصطدم بواقع يتزايد فيه التضييق على هذه المؤسسات وخاصة العاملة منها بحقوق الإنسان. وفي سبيل معالجة هذا الوضع والمساعدة في بناء جسور تواصل حقيقية بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني، قدم الباحث مجدي عبدالفتاح ورقة سياسات جديدة، صدرت عن وحدة الأبحاث الحقوقية بمركز التنمية والدعم والإعلام (دام). وذلك تحت عنوان “نحو بيئة آمنة لمنظمات المجتمع المدني”.

المجتمع المدني.. مفهومه وعلاقته بالدولة

يتطرق الباحث، في ورقته، إلى مفهوم المجتمع المدني وتطوره عبر العصور. وينتهي إلى حقيقة أنه لا يسعى للوصول للسلطة أو تحقيق الأرباح وتعظيمها. ولكن هو (المجتمع المدني) المستوى الذى يتوسط العلاقة بين المواطن والدولة. ومن خلاله ينظم المواطنون أنفسهم طوعًا وبكامل اختيارهم في منظمات، إما للدفاع عن مصالح فئوية خاصة بقطاعات منهم مثل النقابات المهنية والعمالية ومنظمات المصالح بصفة عامة أو للدفاع عن قضية عامة، تهم المجتمع ككل أو قطاعات غيابها يؤثر في النهوض بأوضاع المجتمع، مثل قضايا التنمية والديمقراطية ومكافحة الفقر وحقوق الإنسان والمساواة ما بين الجنسين، والحريات الفردية وغيرها من القضايا.

للاطلاع على الورقة كاملة..

إن مبادئ حقوق الإنسان التي تنظم وتوضح العلاقة ما بين السلطات العامة ومنظمات المجتمع المدني والنشطاء في أي دولة، تذكر 4 محددات لهذه العلاقة:

1 – المشاركة: الاعتراف والاقتناع بدور المجتمع المدني في المجتمع. وتمتع الجهات الفاعلة في المجتمع المدني بحرية العمل بشكل مستقل. وكذا الدعوة لاتخاذ مواقف مغايرة لتلك التي تتخذها السلطات العامة.

2 – عدم التمييز: إن جميع الجهات الفاعلة في المجتمع المدني مدعوون ومخولون بالمشاركة في الحياة العامة دون أي نوع من التمييز.

3- الكرامة: على الرغم من تأديتهم أدوارًا مغايرة. إلا أن لدى السلطات العامة والجهات الفاعلة في المجتمع هدفًا مشتركًا في تحسين حياتهم. ويعد الاحترام المتبادل أمرًا جذريًا لهذه العلاقة.

4- الشفافية والمساءلة: يتطلب العمل في المجال العام الانفتاح والمسؤولية والوضوح والشفافية والمساءلة من قبل الموظفين العموميين. كما يتطلب المساءلة والشفافية من قبل الجهات الفعالة فيما بينهم ومع الجمهور.

تحول البنية التشريعية في مصر

يستعرض الباحث ما حدث في مصر خلال السنوات التي أعقبت ثورة 25 يناير عام 2011 من متغيرات سريعة ومتشابكة. وقد ساهمت تلك المتغيرات في بعض الأحيان في دعم المطالب الجماهيرية بالحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة. كما لعبت دور المعوق لتلك المطالب والتراجع عنها نحو المزيد من قمع الحريات والبعد عن تحقيق العدالة الاجتماعية وترسيخ سياسات اقتصادية ساهمت في تردي أوضاع السواد الأعظم من الجماهير أحيانًا أخرى.

عقب ثورة 25 من يناير بدأت القوى الاجتماعية بالمعنى الواسع في إعادة ترتيب أولوياتها في تنظيم أنفسها داخل أحزاب سياسية ذات أيدولوجيات مختلفة ونقابات عمالية ومهنية. وأجريت أول انتخابات تعددية سواء على المستوى البرلماني أو الرئاسي. ثم وصل إلى سدة الحكم في مصر وللمرة الأولى رئيس مدني بعيد عن ما كان سائدًا من رؤساء ذوي خلفية عسكرية.

وبغض النظر عن الانتماء الأيدولوجي للرئيس الجديد إلا أن هذا الوضع لم يستمر طويلًا. فبعد صعود جماعة الإخوان إلى سدة الحكم عملت على إقصاء التيارات السياسية الأخرى من المجال العام. ذلك بالرغم من بقاء هامش من مكتسبات ثورة 25 من يناير. حيث استمر العمال في تنظيم أنفسهم وإعلانهم نقاباتهم واتحاداتهم المستقلة. كما ارتفع عدد الجمعيات الأهلية والمؤسسات الحقوقية العاملة في مصر وكذلك وسائل الإعلام المختلفة من مواقع إلكترونية وقنوات فضائية. لا سيما تلك التي تمنعت بقدر من الاستقلالية والحرية. ذلك كله وسط فشل الحكومات المتعاقبة في حل الأزمات الاقتصادية التي يمر بها المواطنون.

ما الذي تغير تجاه المجتمع المدني بعد 2013؟

وسط ذلك أيضًا شهدت البنية التشريعية في مصر تطورًا غير مسبوق. خاصة بعد ثورة 30 من يونيو 2013 والإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي ممثل الإخوان، بعد عام واحد فقط من وصوله لسدة الحكم.

كانت توجهات القوانين الجديدة متمثلة في إعادة ما يسمى هيبة الدولة. واتسمت القرارات الإدارية بالشمولية والهيمنة على كافة جوانب الحياة العامة. فيما ارتفعت وتيرة الملاحقات الأمنية للشخصيات والكيانات. ذلك في مقابل رغبة تيار عريض من المواطنين والمواطنات سواء المنتمين إلى تيارات سياسية أو أعضاء في منظمات مجتمع مدني نقابات، مؤسسات حقوقية وكذلك تيار واسع من الشباب الباحث عن الحرية والديمقراطية والمساواة. وهو توجه يمكن القول إنه جاء لوضع إطار تشريعي لتقييد الحريات وتقنينها -وفق ما يذكر الباحث.

يشير الباحث كذلك إلى هذه القوانين، فيذكر القانون رقم 107 لسنة 2013 بشأن تنظيم الحق في الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات السلمية. وأيضًا قانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015 وتعديلاته. وكذلك قانون رقم 149 لسنة 2019 لتنظيم ممارسة العمل الأهلي. وأيضًا قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018. فضلًا عن قانون الهيئة الوطنية للإعلام رقم 178 لسنة 2018. وتعديلات قانون تنظيم الجامعات رقم 49 لسنة 1972. وقانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018. ثم العودة لتطبيق قانون حالة الطوارئ، والذي تم وقف العمل به لاحقًا. وأيضًا قانون الكيانات الإرهابية رقم 8 لسنة 2015.

قانون تنظيم العمل الأهلي

يتطرق الباحث إلى قانون تنظيم العمل الأهلي ولائحته التنفيذية الصادرة بقرار من رئيس مجلس الوزراء رقم 149 لسنة 2019. وقد حمل الكثير من الاشتراطات التي يجب أن تلتزم بها مؤسسات المجتمع المدني. وهي منافية لما جاء في استراتيجية 2030، من احترام مبادئ حقوق الإنسان. كما لم يعكس رغبة حقيقية في بناء جسر تواصل مع منظمات المجتمع المدني من أجل كسب الثقة.

وقد عملت الحكومة على إعداد اللائحة التنفيذية للقانون فيما تجاوز العام ونصف العام تقريبًا. ذلك دون توفير نسخة من مقترح اللائحة للمجتمع المدني أو إعلانها في وسائل الإعلام المختلفة. فكان إعداد اللائحة بمعزل عن أصحاب المصلحة المباشرة. وتناقض ذلك مع حرية تبادل المعلومات التي هي حق المواطنين والمواطنات داخل الدولة.

كما ألزم القانون جميع المنظمات المسجلة -واستخدم لفظ الكيانات المسجلة- بتوفيق أوضاعها بموجب إخطار موجه للوزارة المختصة في خلال سنة من إصدار اللائحة التنفيذية للقانون. وهو ما يبدو إعادة تسجيل المؤسسات الحقوقية. حيث تخضع المؤسسات لنفس الشروط اللازمة لتسجيل المؤسسات الناشئة. ذلك بالإضافة إلى أنه من حق الجهة الإدارية الاعتراض على توفيق الأوضاع إذا رأت أن نشاطها يخالف النظام العام أو الآداب العامة. وهو ما يعد انتهاكًا لفلسفة التشريعات بشكل عام.

كما وضع القانون ولائحتة التنفيذية شرط ضرورة أن يكون من بين أنشطة المؤسسات نشاطًا تنمويًا يتماشى مع خطة الدولة التنموية ويلبي احتياجات المجتمع. وهو الأمر الذي يعد مخالفًا لما ورد في الدستور المصري الصادر عام 2014 وتعديلاته الصادرة عام 2019 مادة 75.

واعتبر القانون كل نشاط يمكن أن يكون من بين أنشطة المؤسسات والجمعيات الأهلية وتقوم به الشركات مثل الشركات ذات المسئولية المحدودة والتي تشمل أنشطة مثل التدريب أو الاستشارات، وكذلك شركات المحاماة والتي يمكن أن تقدم خدمات قانونية مجانية للأفراد، اعتبره نشاط جزء من أنشطة الجمعيات والمؤسسات الخاضعة للقانون وعليه يجب عليها توفيق أوضاعها وفق القانون المنظم للعمل الأهلي بمجرد إصدار اللائحة التنفيذية، أو إخطارها من الجهة الإدارية أيهما أقرب. وإن لم يحدث ذلك تتعرض تلك المؤسسات لوقف نشاطها بعد أن تقوم الوزارة المختصة بإصدار قرار بوقف النشاط. وكذلك إخطار الجهة الأصلية مصدرة التراخيص من ناحية أخرى.

قائمة المحظورات على المجتمع المدني

أيضًا وضع القانون قائمة مطولة بالأنشطة الفضفاضة والمبهمة، المحظور على الجمعيات ممارستها، ومن بينها:

  • ممارسة أنشطة لم ترد بإخطار التأسيس.
  • الأنشطة السياسية أو الحزبية أو النقابية أو استخدام مقرات الجمعية في ذلك.
  • ممارسة أنشطة من شأنها الإخلال بالنظام العام أو الآداب العامة أو الوحدة الوطنية أو الأمن القومي.
  • الدعوة إلى التمييز أو أي نشاط يدعو إلى العنصرية أو الحض على الكراهية.
  • إجراء استطلاعات الرأي أو نشر أو إتاحة نتائجها، أو إجراء البحوث الميدانية أو عرض نتائجها قبل موافقة الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء للتأكد من سلامتها وحيادها وتعلقها بنشاط الجمعية.
  • إبرام اتفاق مع جهة أجنبية داخل أو خارج البلاد قبل موافقة الجهة الإدارية.

التنمية الاقتصادية وحرية المجتمع المدني

يقول الباحث إن مسالة الربط ما بين التنمية الاقتصادية وحرية المجتمع المدني هي ضرورة يجب أن تكون ضمن التدابير والقرارات التي تتخذها الدولة من أجل تحسين حياة المواطنين. ذلك باعتبار ما هو متفق عليه على الصعيد الدولي. فحرية عمل منظمات المجتمع المدني واعتبارها شريكة للدولة في عملية تحسين أوضاع المواطنين يعتبر جزءًا لا يتجزأ من البناء الديمقراطي للمجتمعات. ومن خلال ذلك المفهوم نجد أن مسالة ترسيخ الديمقراطية عمل أساسي في مسألة التنمية الاقتصادية للبلاد.

وبالرغم من الجدل الكبير حول الربط ما بين الوصول لمجتمع ديمقراطي والنهوض الاقتصادي، يرى البعض أنه الوصول للديمقراطية ليس ضرورة لازمة للارتقاء بالأحوال الاقتصادية في بلد معين. ولكن من واقع الأحوال الداخلية لعديد من بلدان العالم وبرغم من أن لكل دولة ما يميزها في الشأن الداخلي. إلا أن القضاء على الفقر والجوع والوصول إلى المواطنة وتمكين المجموعات المختلفة من حقوقهم خاصة النساء هو جزء أصيل من عملية التنمية التي أقرتها الأمم المتحدة فيما يتعلق بالتنمية المستدامة والوصول إلى تلك الاحتياجات يتطلب بالضرورة مناخا ديمقراطيا يساهم في حالة المساواة بين جميع المواطنين.

وعلى الصعيد الاقتصادي، فإن التعاون ما بين الدول الكبرى والدول النامية سواء كان عن طريق تقديم مساعدات من أجل أن تتجاوز الدول النامية وضعها الهش أو الدخول في شراكات مختلفة لا جدوى منه إلا إذا سعت الدول النامية إلى حالة الديمقراطية التي تلعب دورًا مركزيًا في تمكين المواطنين والمواطنات من حقوقهم على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي. ومركزية التحول الديمقراطي تكمن في اعتراف الحكومات بشراكة المجتمع المدني بالمعنى الواسع على كافة الأصعدة وقبول الاختلاف واحترامه. تلك المعايير تساهم بشكل أكبر في فرص زيادة تدفق الاستثمارات، والدخول في شراكات أكثر عمقا مع الدول الكبرى. فالديمقراطية هي البيئة الآمنة التي تحمي وتصون الاستثمار وتدفقاته، كما يشير الباحث.

توصيات للنهوض بالمجتمع المدني في مصر

بينما يستعرض الباحث عددًا من التجارب الدولية في تمكين المجتمع المدني، يؤكدعلى ضرورة توفير بيئة آمنة لنشاط المجتمع المدني بالمعني الواسع وإشراكه في اتخاذ القرارات والاستراتيجيات. وكذا قبول الاختلاف والاحترام للتوجهات المختلفة للحكومات. بالإضافة إلى تمتع الأفراد بحريتهم في التعبير عن الرأي. لأن ذلك هو محور العلاقة ما بين السلطات والمجتمع المدني.

ولذلك يطرح الباحث في ورقته عددًا من التوصيات، يشملها بالآتي:

1 – تجاوز الماضي بين الأطراف المعنية الدولة ومنظمات المجتمع المدني والإعلان عن فتح حوار مبني على الشراكة واحترام الاختلاف.

2 – الإعلان عن استراتيجية وطنية محددة زمنيا تجمع ما بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني من أجل وضع رؤية استراتيجية لتعديل التشريعات الوطنية عبر تكوين لجان مشتركة تمثل المجتمع المدني والدولة تضع لائحة بالقوانين التي يجب تعديلها أو إقرارها.

3 – إعلان مؤسسات المجتمع المدني عن تبني الشفافية فيما يتعلق بمصادر تمويلها وأوجه صرف نفقاتها، ويتم الإعلان عنها على الموقع الإلكتروني لكل مؤسسة.

4 – إعلان الدولة عدم التدخل في شؤون وأنشطة المجتمع المدني مع تحديد جهة مستقلة بموافقة الأطراف تقوم بالمتابعة والتدقيق على المستوى المالي والفني لأنشطة المجتمع المدني تتكون من شخصيات عامة وخبراء من المجتمع المدني وخبراء في المجال القانوني والمحاسبي على أن تكون لها سلطة اتخاذ القرارات والتوصيات ويكون قرارها ملزما لكافة الأطراف.

5 – الاعتراف بحرية تبادل المعلومات وإصدار تشريع وطني يلتزم بالمعايير الدولية يحمي ويصون حق تداول المعلومات.

6 – إعلان الدولة عن إنهاء كافة التحقيقات والملاحقات لمؤسسات المجتمع المدني والأفراد.