في طريقه ماشيًا يلفحه هواء أبريل الخفيف، نقل القمص ارسانيوس وديد قدميه من كورنيش بحر الإسكندرية الشهير إلى الرصيف الموازي للشاطئ. كان يسير متهاديًا مع شباب كنيسته بكرموز، قبل أن يفاجئه أحد العابرين بطعنات غادرة تنهي حياته. ليصعد إلى المسيح قبل أيام من أسبوع آلامه، وكأنه أراد أن يلتقي العريس السماوي كما يحلو للأقباط توديع شهدائهم قائلين.

قاتل ملتحي قتل قسًا لا يعرفه. قد يكون رأى في ملابسه الكهنوتية القبطية (العمامة واللحية والجلباب والصليب) مبتغاه، وقد يكون للحادث تفسير آخر. المؤكد أنها واقعة جديدة تنضم إلى أحداث سابقة يمكن قراءتها ضمن صورة أشمل بالشكل الذي يوضحها.

مفاتيح أساسية لقراءة حادث الطعن

قبل الاستغراق في الوصف، لابد من ضبط المصطلحات والتوصيفات. اغتيال قس طعنًا بالسكين دون وجود معرفة سابقة أو أية ملابسات تؤدي للجريمة تعني أنها جريمة قتل على الهوية. أي أن هذا الاستهداف قد تم على أساس هوياتي يرد إلى ملابسه الكهنوتية المميزة. ويمكن فهم هذا بالنظر إلى هوية القاتل ذو السمت الإسلاموي “اللحية”. وهو أمر يختلف عن الجرائم الطائفية، أو حوادث الفتنة الطائفية. فالكلمة طائفية تعني وجود طائفتين اقتتلتا أو تنازعتا بشكل جماعي منبعه طائفة كل منهما. تلك هي الطائفة الجمعية أدت إلى النتيجة وهي الفتنة.

أما النوع الثالث من الجرائم بين طرفين متنازعين مختلفي الديانة دون قصد طائفي فهي أزمات تحدث لأسباب جنائية لا يلعب الدين أو العرق دورًا فاصلًا فيها. كأن يتشاجر مسلم ومسيحي على أرض زراعية. وهنا لا يمكن وصف القضية بالفتنة إن لم يتدخل مسيحيو القرية أو مسلموها كأطراف في هذا النزاع.

بينما يظل النوع الرابع من القضايا وهو الإرهاب حكرًا على أحداث تفجير الكنائس أو استهداف المسيحيين بشكل جماعي مقصود مثل حادث تفجير الكنيسة البطرسية. وفي الوقت نفسه يمكن النظر إلى أنواع متداخلة من الجرائم. فحادثة استهداف اتوبيس دير الأنبا صموئيل بالمنيا هي جريمة إرهاب. ذلك لأنها تمت من خلال جماعات الإرهاب المسلح. ولكنها في الوقت نفسه قتل على الهوية. لأنها استهدفت مسيحيين بشكل عشوائي وكانت هويتهم الدينية سببًا في مقتلهم.

القمص ارسانيوس والقس سمعان

إذا كانت جريمة اغتيال القمص ارسانيوس هي جريمة قتل على الهوية فيمكن ببساطة ضمها إلى واقعة سابقة وقريبة. ففي عام ٢٠١٧ تلقى القس سمعان شحاتة طعنات نافذة في رقبته أودت بحياته. ذلك بعدما هاجمه أحد المارة في منطقة المرج. حيث كان يجمع تبرعات لكنيسته من بعض التجار المسيحيين. لم يكن الهجوم حينها بغرض السرقة ليصبح القصد جنائي. بينما كان هجومًا على القس أي قتل على الهوية. وقد حصل المتهم على حكم بالإعدام شنقًا.

جاء في أمر الإحالة أن النيابة العامة تتهم أحمد سعيد إبراهيم السنباطي، 19 سنة، فني صناعي، مقيم بالمرج، بقتل سمعان شحاتة رزق الله عمدًا مع سبق الإصرار والترصد. ذلك بأن بيت النية وعقد العزم على قتل القس. وقد أعد لذلك الغرض سلاحًا أبيض، وتربص له بالمكان الذي أيقن أنه سيظفر فيه بالمجني عليه، حتى باغته طعنًا وضربًا بأنحاء متفرقة. وأجهز عليه بالسلاح الأبيض قاصدًا إزهاق روحه، كما أحرز بدون ترخيص سلاحًا أبيض.

الإسكندرية.. مدينة الرب التي ضربها التزييف والتسلف

المفتاح الثاني في حادث مقتل القمص ارسانيوس هو المكان. حيث الإسكندرية عاصمة الكرازة المرقسية أو المدينة التي أدخلت مصر في المسيحية حين قصدها مارمرقس الرسولي. فأسس كنيسته العريقة. فهي من ناحية تحتل مكانة بارزة في العالم المسيحي القديم ومكانة لا تتغير في تاريخ الكنيسة القبطية. حتى إن كافة القساوسة الذين يخدمون في مدينة الرب يخضعون مباشرة لإشراف البابا البطريرك فهو بابا الإسكندرية.

في المقابل، فإن تلك المدينة ذات التاريخ المسيحي قد صارت مع الوقت أحد أهم معاقل الدعوة السلفية والتيار الإسلامي الذي غزت أفكاره البلاد منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم بدرجات متفاوتة. ومن ثم، فإن جغرافيا المدينة تضع المسيحيون المعتزون بتاريخ قديم من الخدمة والكرازة أمام سلفيين يرون في الإسكندرية أبرز مناطق نفوذهم. ومن هنا تقع أحداث كتلك وكأنها طفح جلدي يعبر عما يدور من غليان تحته، يعيش التطرف تحت الجلد حتى تأتي حادثة فينضح.

غير أن مقتل القمص وديد ليس الحادث الأول من نوعه في مدينة مارمرقس الرسول. فقد سبقه إلى ذلك واقعة “عسلية” رجل ملتحي آخر يقرر أن يذبح بائع خمور مسيحي في الإسكندرية على قارعة الطريق. ويتركه قتيلًا بعد تحذيره في وقت سابق بعدم بيع هذه الخمور لأنها حرام. بعدها اعترف “عسلية” في التحقيقات إنه لا ينتمي إلى أية جماعات وإنما يواظب على حضور دروس دينية ويستمع للشيوخ وللتفاسير. وهي نفس المقدمات التي انتهت إلى حادث القمص ارسانيوس.

الدولة الحالية تدفع فاتورة عصور سابقة

في السنوات الأخيرة حققت الدولة نجاحات لافتة في حربها ضد الجماعات الإرهابية. وظهر ذلك واضحًا في توقف عمليات استهداف الكنائس. مع تبني الرئيس عبد الفتاح السيسي رؤية واضحة لدعم المواطنة ومنح الأقباط حقوقهم.

أمام تلك التوجهات الرئاسية، فإن جرائم القتل على الهوية لا تمر بلا عقاب. وهو ما حدث في واقعتين متتاليتين “مقتل قس السلام، ومقتل بائع الخمور”. حيث حصل المتهمان على حكمين بالإعدام. ومن ثم، فإن تلك المؤشرات تعني أن عصر التسامح مع تلك الجرائم قد مضى إلى غير رجعة، بعد سنوات من عدم معاقبة الجناة في جرائم كتلك. ففي عصر مبارك لم تحصل قضية طائفية أو قتل على الهوية على حكم قضائي واحد طوال ٣٠ سنة. ذلك باستثناء الحكم على حمام الكموني مرتكب مذبحة نجع حمادي عام ٢٠١٠ الذي استهدف الأقباط ليلة العيد في قنا مقابل عشرات من الحوادث التي مرت بلا عقاب.

أمام تلك اليقظة الجنائية والأمنية، التي يؤكد عليها إسحق إبراهيم الباحث المتخصص في شؤون الأقليات. فإن جرائم وحوادث فردية تستهدف المسيحيين على الهوية تأتي نتيجة لشيوع الأفكار المعادية للمسيحيين والتعاليم السلفية. وهي فاتورة من سنوات سابقة تسددها الدولة الحالية.

في الوقت نفسه، فإن خبرا قد انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي عن اعتداء شاب مسلم على أمام مسجد في أحد محافظات الدلتا. وكأنه حدثا موازيًا لمقتل القمص ارسانيوس. وهي رؤية تنطوي على الكثير من القصور. فبالنظر إلى واقعة إمام المسجد، فإن المعتدي عليه قد فعل ذلك لخلافات شخصية بين رجلين من نفس الدين. وهو أمر يختلف عن معادلة الأغلبية والأقلية التي حدثت في واقعة مقتل القمص ارسانيوس.

القمص ارسانيوس ينتمي لأقلية عددية تعاني تمييزًا مجتمعيًا وثقافيًا في بعض المناطق. رغم جهود واضحة من الدولة للحد من ذلك. بينما الاعتداء على إمام مسجد أمر لا يدخل ضمن تلك المعادلات بأي حال.

لا يمكن التنبؤ بتوقف تلك الوقائع رغم قبضة الدولة وإنفاذ القانون على مرتكبيها. بينما يأتي الحل بحصار مجتمعي لأفكار متشددة تنال من عقائد الأخرين. ومن التعايش السلمي ومن قيم الحياة ذاتها. وهي معركة تحتاج إلى نفس طويل وأطراف متعددة وتراكم ووقت.