لم تكن الإسكندرية ذات التاريخ الحضاري والثقافي القديم تعلم إن تقلبات الدهر سوف تنال منها إلى الحد الذي يجعل اسمها يرتبط بتنظيمات إسلامية رجعية. تحول عروس المتوسط إلى مدينة تتخفى في جلباب قصير وذقن طويلة وكأنها شبحًا من الماضي قدر له أن يعيش في عالم ما بعد الحداثة.

فضاء المدينة ليس محايدًا

قد يبدو وصف المدينة مجازيًا إلا إنه يتوافق مع ما ذهب إليه هنري لوفيفر عالم الاجتماع والتخطيط الحضري الشهير الذي كتب في ستينات القرن الماضي. أطروحته الشهيرة “إنتاج الفضاء المكاني” فالفضاء عنده ليس محايدًا بل المدينة في حالته هي محور إنتاج العلاقات الاجتماعية والتفاعلات السياسية. وليست مجرد مساحة صماء لا دخل لها بما يحدث فوقها.

يجادل لوفيفر بأن هذا الإنتاج الاجتماعي للفضاء الحضري أساسي لإعادة إنتاج المجتمع، وبالتبعية، الرأسمالية نفسها. يُتحكّم في الإنتاج الاجتماعي للفضاء من قبل طبقة مهيمنة كأداة لاسترجاع سيطرتها. يقول: الفضاء (الاجتماعي) هو منتج (اجتماعي) يعمل الفضاء المُنتج بصفته أداةً للتفكير والعمل. بالإضافة إلى كونه وسيلة للإنتاج، فهو أيضًا وسيلة للتحكم، وبالتالي السيطرة والقوة.

من خلال نظريته تلك يمكننا أن نرى مدينة الإسكندرية كفضاء مكاني تنطلق فوقه مآذن مساجد الدعوة السلفية تلقي فيه دروسها الدينية. وتعمم أفكارها المعادية للمسيحيين ومن ثم يصبح مقتل قس في حادث طعن على الكورنيش نتيجة طبيعية لذلك فكيف تنتج خطاب كراهية وتنتظر تعايشا سلميًا.

المدينة الكزموبوليتانية والسلفية كرد فعل

في كتابه الدعوة السلفية بالإسكندرية الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية يفند الباحث أحمد زغلول شلاطة تناقضات المدينة. فيلفت النظر إلى حالة التناقض الحادثة ما بين تأسيس تلك الجماعة بكل ما تأسست عليه من مبادئ سلفية دينية. ترى ضرورة الرجوع إلى التراث الإسلامي وأفكار القرون الأولى من جهة، وكون تلك الدعوة قد ظهرت في مدينة الإسكندرية. والتي لطالما عُرفت بكونها مدينة عالمية كوزموبوليتانية اختلطت فيها ثقافات وعادات الشعوب البحر متوسطية. وما ارتبط بها من ميل للحرية والتجديد والتنوع وتقبل الأخر من جهة أخرى.

يذهب شلاطة، في تحليله إلى إمكانية العثور على الكثير من أشكال التدين السلفي في تاريخ مدينة الإسكندرية. حتى أنه يعتبر وجود أثر لنشاط الفكرة السلفية التقليدية بها، نوعاً من أنواع رد الفعل المضاد على حالة التنوع في المدينة. ويورد أمثلة متعددة على فرضيته تلك مثل الشيخ محمد عبد الظاهر أبو السمح الذي كان أحد أعضاء جماعة “أنصار السنة المحمدية” وإمام الحرم المكي وخطيبه. والشيخ عبد السلام الطباخ إمام مسجد العطارين، والشيخ صلاح رزق إمام مسجد النبي دانيال/ وأمين رضا الذي شغل منصب سكرتير جماعة “أنصار السنة”.

شلاطة يرى في خطاب الدعوة السلفية عوامل أتاحت الفرصة لانتشاره فيوضح: “خطابهم يمتاز مضمونه بالدعوة إلى الصبر والاحتساب. والدعوة إلى التكافل والتراحم، قد أتاح الفرصة لانتشار الدعوة في الريف والمدن على السواء. حيث استطاع أنصار الدعوة، من طلاب جامعة الإسكندرية، أن ينشروا أفكارها ومبادئها في الامتدادات الريفية في محافظات الدلتا القريبة من الإسكندرية”.

 كيف ينظر نجوم الدعوة السلفية بالإسكندرية إلى الأقباط؟

يرتبط اسم الدعوة السلفية بالإسكندرية بأحد أشهر نجومها الشيخ ياسر برهامي وبشكل أقل الشيخ عبد المنعم الشحات. باعتبارهما من الدعاة ذائعي الصيت في مساجد المدينة وبين أوساط السلفيين بشكل عام. ولعل النظر إلى مواقف برهامي وفتاواه تجاه الأقباط تستطيع أن تفسر ما تؤول إليه النتائج على الأرض.

 ياسر برهامي.. فتاوى تكفير الأقباط لا تنتج فراشات وعصافير

في بحث بعنوان “السلفيون والأقباط” نشره المركز الديمقراطي العربي، نرى موقف ياسر برهامي من الأقباط واضحا فيقول: ”كيف ندعوهم ونحن نتهمهم بالكفر”!. بأن “الواجب أن يقول: كيف ندعوهم ونحن لا نكفرهم، فإذا كانوا مؤمنين فإلى أي شيء ندعوهم؟!. ولماذا ندعوهم لترك دينهم الذي هو الإيمان بزعم هؤلاء الزنادقة؟!، بل لا تصح دعوتهم حتى نبين لهم كفرهم. وأما حسن الخلق فنحن نتعامل به مع كل الناس الذين لا يحاربوننا في الدين”.

هكذا يقر برهامي بتكفير الأقباط كذلك فإن فتاواه تحرم تهنئتهم في الأعياد، تحرم العمل في مدارسهم ومستشفياتهم. تحرم توصيلهم إلى الكنيسة ما إذا تمت من خلال سائق مسلم. ولكنها وبشكل براجماتي بحت تذهب إلى إمكانية مشاركتهم في القوائم الانتخابية. كما حدث مع حزب النور السلفي الذي وجد نفسه مضطرا بعد ثورة يناير إلى ضم الأقباط إلى قوائمه الانتخابية. بسبب نص قانوني يمنع تأسيس أحزاب على أساس ديني مع التمسك بالمسمى نصارى وليس مسيحيين.

بينما يشير شلاطة إلى إن الموقف من الأقباط لم يكن يأتي في أدبيات الدعوة السلفية صريحا. بسبب الخوف من الضغط الأمني إلا إنه ظهر جليا في بعض الأحداث ذات الطابع الطائفي

مثل قضية كاميليا شحاتة، التي أعلنت إسلامها ثم اختفت، وقيل إن الكنيسة هي من اختطفتها. حيث شدد ياسر برهامي حينها على “ضرورة ألا يمر هذا الأمر مرور الكرام. وانتقد تنازل الدولة عن هيبتها ومسؤوليتها تجاه بعض الرعايا من المسلمين مقابل من وصفهم بالأقلية المجرمة المعتدية الظالمة التي اعتدت على حق الأغلبية”. ودعت الدعوة السلفية وقتها، لفعل كل ما يلزم لاستنقاذ المسلمات الأسيرات في قبضة الكفرة المشركين.

أمام تلك المعطيات الواضحة في خطاب الدعوة السلفية تجاه الأقباط في مواقف تتراوح ما بين التكفير الصريح وما بين الحض على الطائفية. ثم البحث عن حلول وسط إذا ما اقتضت الضرورة السياسية ذلك، فإن انتظار نتائج مختلفة وتعايش سلمي يصبح تصورا أفلاطونيًا. يبتعد عن الواقع بمسافات بعيدة مهما حاولت الدولة بأجهزتها المختلفة التصدي لمثل تلك الأفكار. ورغم الجهد الواضح في دعم ملف المواطنة في السنوات الأخيرة لكن تظل المعركة الفكرية في مكان أخر.

القبضة الأمنية في مواجهة التطرف

لا تدخر الأجهزة الأمنية جهدًا في تحقيق الردع لمرتكبي جرائم التطرف العنيف وذلك بالنظر إلى واقعتين مشابهتين عام ٢٠١٧ تم الحكم فيهم بالإعدام بالإضافة إلى تدخل عاجل أمس انتهى بالقبض على قاتل القمص ارسانيوس واقتياده لجهات التحقيق إلا إن تلك الجهود البعدية وتشديد القبضة الشرطية وإن كان ينشر حالة من الخوف بين الراغبين في القيام بحوادث مماثلة ولكنه لا يشكل ضمانة ضد تلك الحوادث التي تأتي كنتيجة لترسبات فكرية وتغيرات اجتماعية وسياسية كبرى شهدتها مدينة الثغر في العقود الأخيرة.