للمرة الأولى منذ 20 شهرًا، تراجع الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية خلال مارس/آذار الماضي. ليسجل 37 مليار دولار مع تداعيات الأزمة الأوكرانية على الاقتصاد، بالتزامن مع تراجع صافي الأصول الأجنبية بالبنوك لأسباب مختلفة. أهمها رفع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الذي سبب موجة نزوح للمستثمرين من الأسواق الناشئة.
البنك المركزي برر تراجع الاحتياطي بنحو 3.91 مليار دولار، باستخدام جزء من احتياطي النقد لتغطية احتياجات السوق المصرية من النقد الأجنبي. وتغطية تخارج استثمارات الأجانب والمحافظ الدولية وضمان استيراد سلع استراتيجية. بالإضافة إلى سداد الالتزامات الدولية الخاصة بالمديونية الخارجية للدولة.
بيان البنك المركزي تطرق في اختصار شديد إلى تخارج الاستثمارات الأجنبية بصفة عامة دون أن يحدد نسبتها من إجمالي الأموال التي خسرها الاحتياطي. لكن تظهر في الصورة الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة قصيرة الأجل التي بدأت في الخروج منذ إعلان الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي عزمه رفع الفائدة.
الطيور المتنقلة
تلعب الأموال الساخنة دور البطولة في تذبذبات الاحتياطي المصري منذ 2011. إذ كانت تلك النوعية من الاستثمارات سببا وراء حالة التذبذب التي شهدتها الاحتياطيات الأجنبية لدى البنك المركزي فهي “قصيرة الأجل”. ومن الممكن أن تنسحب بسرعة إلى الأسواق المنافسة ما يجعل البعض يسميها بـ”الطيور المتنقلة” على الأشجار.
تحدث تلك النوعية من الاستثمارات وقت خروجها طلبا كبيرا على الدولار وتسبب أزمة للبنك “المركزي” من هذا الخروج المفاجئ. الأمر بضغطها على “الاحتياطيات الدولية”، وهو ما حدث خلال الربع الأول من العام الحالي. وواجه البنك منها ثلاث موجات خلال عامين فقط، ما بين خروج بالمليارات والعودة مجددا بعد رفع الفائدة أو اتخاذ قرارات تتعلق بطروحات مغرية في البورصة.
في فبراير/شباط 2017، بلغت حيازات الأجانب من أدوات الخزانة المصرية نحو 20 مليار دولار مقارنة بـ 60 مليون دولار منتصف 2016 قبل تعويم الجنيه. والذي أسهم في عودة المستثمرين الذين غادروا البلاد بعد ثورة يناير 2011. فحينها رفع البنك المركزي سعر الفائدة على الودائع والقروض البنكية إلى أعلى مستوى لها خلال السنوات العشر الأخيرة. في محاولة للحد من ارتفاع الأسعار الذي أعقب تخفيض قيمة الجنيه المصري.
في مايو/آيار 2017، رفعت لجنة السياسة النقدية سعري عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة بواقع 200 نقطة أساس. ليصل إلى 16.75% و17.75% على التوالي، وخلال 2017 نما احتياطي مصر من النقد الأجنبي بنسبة 78.8%. تعادل 13.8 مليار دولار، وذلك بعدما ارتفع من مستوى 17.5 مليار دولار خلال عام 2016 إلى نحو 31.3 مليار دولار بنهاية 2017.
بحسب المعهد المصري للدراسات، برزت مصر عام 2017 كإحدى أكثر الوجهات في العالم جذبا لاهتمام مستثمري المحافظ. بعدما تخطت عائدات أدوات الخزانة المصرية القصيرة الأجل 22% بجانب بيع سندات دولية بقيمة 4 مليارات دولار.
الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة
واصلت الاحتياطيات في البنك المركزي الارتفاع حتى تجاوزت مستوى 45 مليار دولار في سبتمبر/تشرين الأول 2019 وهو أعلى مستوى للاحتياطي النقدي المصري في التاريخ. في ظل منح مصر فائدة حقيقية (الفارق بين سعر الفائدة والتضخم) ضمن الأعلى. لكن عادت مشكلة الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة في الظهور مع التقارير الأمريكية عن رفع سعر الفائدة أكثر من مرة خلال العام الحالي.
وعادت الأسواق الناشئة في 2019 لموجة خروج لاستثمارات الأجانب في أدوات الدين الحكومية مع ارتفاع الدولار الأمريكي. والمخاوف المتصاعدة من أزمات تركيا والأرجنتين. وخلال الفترة من أبريل وحتى نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2019 فقدت مصر حينها 10.7 مليار دولار استثمارات أجنبية في أذون الخزانة. بحسب ما أظهرت بيانات للبنك المركزي، لتصل إلى نحو10.8 مليار دولار بنهاية نوفمبر.
واستخدم البنك المركزي ما يقرب من 10 مليارات دولار حتى يونيو/حزيران 2020 من احتياطيها الأجنبي لمكافحة الجائحة العالمية. بعدما تراجع الرصيد من 45.5 مليار دولار في نهاية ديسمبر/كانون الأول عام 2019. إلى 36 مليار دولار في نهاية يونيو/حزيران 2020.
وقررت لجنة السياسة النقدية في مارس/آذار 2020 خفض أسعار العائد الأساسية لدى البنك المركزي المصري بواقع 300 نقطة أساس. ليصبح سعري عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة وسعر العملية الرئيسية عند مستوى 9.25% و10.25% و9.75% على الترتيب. في ظل تداعيات جائحة كورونا على الاقتصاد المحلي.
وائل عنبة، رئيس شركة الأوائل للاستشارات المالية، أكد أن السوق المصرية تشكل أعلى سعر فائدة على أدوات الدخل الثابت. وتتحرك الأموال الأجنبية من سوق الأسهم إلى أدوات الدين لاقتناص فرص الفائدة المرتفعة. لكن رفع الفائدة الأمريكية يغير من هذه المعادلة وفق النسب التي ستؤثر على قرار المستثمرين.
فترات الاضطراب الاقتصادي
وطالب صندوق النقد الدولي، في يناير/كانون الثاني الماضي، الاقتصاديات الناشئة بالاستعداد “لفترات من الاضطراب الاقتصادي”. مع قيام البنك المركزي الأمريكي برفع معدلات الفائدة الأساسية وتباطؤ النمو العالمي بسبب أوميكرون. خاصة أن تلك البلدان تواجه بالفعل “تضخمًا مرتفًعا” إلى جانب “دين عام أعلى بكثير”.
قال الصندوق إن ارتفاع أسعار الفائدة الأساسية يعني زيادة بتكاليف إعادة تمويل ديون عدد من البلدان الناشئة المستحقة بالدولار. غير أن تلك البلدان متخلفة أيضًا عن ركب الانتعاش الاقتصادي. وبالتالي فهي أقل قدرة على تحمل هذه التكاليف الإضافية. موضحا أن الزيادات المتسارعة في أسعار فائدة الاحتياطي الفيدرالي قد تؤدي إلى “زعزعة الأسواق المالية وتشديد الشروط المالية عالميا”.
ويقول أحمد العطيفي محلل أسواق المال إن تراجع الاحتياطي النقدي إلى 37 مليار دولار ليس مفاجأة. فكل الاسواق الناشئة حدث بها تخارج من الاستثمارات غير مباشرة بما فيها مصر. مضيفا أن المشكلة في مكونات الاحتياطي النقدي المصري التي تتضمن نسبة كبيرة من استثمارات ساخنة سريعة الخروج. وعوائد سياحة وتحويلات مصريين ولا نعتمد على عوامل داخلية أهمها تصدير أو استثمار مباشر يساهم في وجود استقرار الاحتياطي.
وأوضح أنه حال رفع الفائدة بأمريكا وهو أمر محسوم فلن يحدث تخارج بنفس القوة للاستثمارات غير المباشرة في أدوات الدين. لأن النسبة الأكبر من مكونات الاحتياطي حاليا استثمارات عربية ومستقرة. وسوق الأسهم حال حدوث أي تخارجات سيكون في مقابلها مشتريات عربية.
تراجع صافي الأصول الأجنبية
وأظهرت بيانات البنك المركزي المصري تراجع صافي الأصول الأجنبية بوتيرة واضحة خلال الستة أشهر الأخيرة. خاصة فبراير/شباط الذي سجل انخفاض بمقدار 60 مليار جنيه (3.29 مليار دولار). بعدما انخفضت في يناير/كانون الثاني بقيمة 11.8 مليار جنيه، وهو أدنى مستوى لها منذ أبريل/نيسان 2017.
صافي الأصول الأجنبية تمثل أصول النظام المصرفي المستحقة على غير المقيمين مخصومًا منها الالتزامات. وتشير لأي تغيير في تدفق الواردات أو الصادرات أو خروج محافظ أجنبية أو عمليات سداد الدين الخارجي. أو تغيرات في تدفق تحويلات العاملين أو تباطؤا في السياحة.
بحسب طارق متولي، نائب رئيس بنك بلوم مصر سابقاً، فإن انخفاض صافي الأصول الأجنبية، وهو نتيجة طبيعية لتخارج الأجانب من مصر مؤخراً. حيث خرجت تدفقات تبلغ 15 مليار دولار من استثمارات الأجانب في أدوات الدين الحكومية. موضحًا أن الانخفاض سيشكل مزيداً من الضغط على الدولار بفعل زيادة الطلب على العملة الأمريكية ونقص المعروض منها. إلا أن الاستثمارات الخليجية والمساعدات كالوديعة السعودية الأخيرة البالغة 5 مليارات دولار قد تخفف من ضغوط الطلب على العملة الأجنبية.
وسجل صافي الأصول الأجنبية أعلى مستوى له خلال عام 2021 خلال فبراير/شباط 2021. عندما سجل 320.2 مليار جنيه، وفقاً لبيانات المركزي المصري.
لكن الدكتور صلاح فهمي، أستاذ الاقتصاد، يشير إلى أن الاحتياطي النقدي وصافي الأصول الأجنبية مرتبطتين بخروج عملات أجنبية وانخفاض دخول أخرى. فعلى مستوى الخروج كانت العملات الساخنة التي خرجت من أدوات الدين والبورصة المصرية. التي تتزامن مع انخفاض الإيرادات الدولارية بجانب ارتفاع أعباء استيراد النفط والسلع الأساسية.
تراجع السياحة الأوروبية
يضيف فهمي أن السياحة الأوروبية تراجعت منذ الحرب الأوكرانية الروسية وهي مصدر أساسي للعملة الصعبة. في الوقت ذاته تقلصت الصادرات مع منع تصدير بعض السلع لضمان تغطية احتياجات السوق المحلية. مطالبا بالتوسع في الاستثمار الأجنبي المباشر لأنه يحقق عائد اقتصادي من إنتاج سلع أساسية وارتباط أكبر بالدولة المستضيفة.
وطالبت “سى آى كابيتال” قبل شهور باستثناء الأجانب من الضريبة البالغة 20% على أرباح أدوات الخزانة. مثلما فعلت بعض الدول المنافسة بالفعل، واستمرار الجهود التي يبذلها البنك المركزي لاستيعاب السيولة وخفض الطلب المحلي على الديون.
مصدر مصرفي: الرقم الجديد للاحتياطي النقدي مطمئن إذ تجاوز 5 أشهر الاحتياجات الأساسية. لا يتضمن حزمة الودائع والاستثمارات الخليجية الأخيرة وبالتالي فإن الاحتياطي من المتوقع أن يشهد ارتفاعًا في أبريل/نيسان الحالي.
وقررت وزارة المالية أخيرًا تعديلات على مشروع قانون الضريبة على الدخل، بوضع آلية تسمح بخصم الضريبة على التوزيعات ضمن الهياكل الضريبية المركبة. تشجيعًا للاستثمارات في مصر؛ بشرط ألا تُستخدم لتجنب الضريبة. وتم تعديل المعاملة الضريبية لصناديق الاستثمار، لتشجيع الاستثمار المؤسسي. الذي يدعم الاقتصاد والشركات الناشئة مع وضع ضوابط تضمن سلامة التنفيذ؛ بما يتوافق مع التطبيقات الدولية، وإعفاء صناديق الاستثمار في أدوات الدين. وصناديق الاستثمار فى الأسهم المقيدة بالبورصة، وصناديق وشركات رأس مال المخاطر. وخضوع حملة الوثائق بواقع 5٪ للأشخاص الطبيعية و15٪ للأشخاص الاعتبارية، وإعفاء الصناديق الخيرية بالكامل. وتم إنشاء “كيان شفاف ضريبيًا” لاستثمار الأفراد في البورصة المصرية عن طريق متخصصين؛ مما يخلق بيئة استثمارية جيدة لدعم الاقتصاد المصري.
حوافز إضافية
وأجرت تعديلات أيضًا لتشمل مزايا للمحاسبة المبسطة للمستثمرين الأفراد والمؤسسات. ولأغراض تحقيق العدالة الضريبية تم تعديل مواد القانون لتضمن عدم خضوع الأرباح المحققة خلال فترة وقف سريان الضريبة. ومنح المستثمرين مجموعة حوافز ضريبية إضافية لدعم سوق رأس المال وزيادة الإقبال على التداول. وكذلك قيد الشركات في البورصة، وإعفاء نسبة من الربح المحقق لحملة الأسهم تعادل معدل الائتمان والخصم الصادر من البنك المركزي في بداية كل سنة ميلادية.
بجانب خصم نسبة 50٪ من قيمة الأرباح الرأسمالية المحققة عند الطرح الأولي في بورصة الأوراق المالية لمدة سنتين من تاريخ صدور القانون. التي تخفض إلى 25٪ بعد ذلك، وفي حالة زيادة رؤوس الأموال من خلال الطروحات الأولية. لن يتم الاعتداد بهذا البيع كواقعة منشئة للضريبة على الأرباح الرأسمالية. وعدم اعتبار تبادل الأسهم بين شركات مقيدة وشركات غير مقيدة كواقعة منشئة للضريبة لتشجيع زيادة هياكل الشركات المقيدة بالبورصة.
وبحسب مصدر مصرفي فإن الرقم الجديد للاحتياطي النقدي مطمئن إذ تجاوز 5 أشهر الاحتياجات الأساسية. لا يتضمن حزمة الودائع والاستثمارات الخليجية الأخيرة وبالتالي فإن الاحتياطي من المتوقع أن يشهد ارتفاعًا في أبريل/نيسان الحالي.
يضيف المصدر أن الأموال الساخنة لا تشكل ضغطا على الاحتياطي لأن المركزي يتعامل معها في حسابات تسمح بخروجها في أي وقت، كما أن الأموال الساخنة مفيدة أيضًا في ضخ سيولة تساهم في حل مشكلات نقص العملة الصعبة، واستقرار سعر الصرف، وانتعاش البورصة.