على الرغم من التآكل النسبي للنفوذ العالمي للولايات المتحدة، فقد استطاعت في أيام قليلة وبمساندة حلفائها الأوروبيين حشد أغلبية الثلثين من أعضاء الأمم المتحدة لتعليق عضوية روسيا في المجلس الدولي لحقوق الإنسان، وذلك على خلفية ما وصف بأنه جرائم حرب روسية ضد المدنيين في مدينة بوتشا الأوكرانية، ولا يهم هنا كثيرا أن عدد الدول المؤيدة لذلك القرار كان أقل بنسبة ملحوظة من عدد مؤيدي قرار إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، في أوائل مارس الماضي.

هذه واحدة، والثانية هي تزايد الإحباط لدى أكثر المعجبين بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خاصة أولئك الذين راهنوا على قدرته على استعادة نظام الثنائية القطبية، أو على تمهيد الطريق لعالم متعدد الأقطاب، ذلك الإحباط الناتج من فشل مخططه الأول لإحراز نصر خاطف يضع ظهر التحالف الأطلنطي إلى الحائط، ويجبره على تجرع مرارة التحدي الروسي، ثم الإحباط من سوء أداء الجيش الروسي من الناحية الاحترافية البحتة، على معظم الجبهات.

وأما الثالثة، فهي مؤشرات القلق الصيني من مجمل المغامرة الروسية في أوكرانيا، فعلى الرغم من تصويت الصين ضد قرار تعليق عضوية روسيا في المجلس الأممي لحقوق الإنسان، فإنها اكتفت من قبل بالامتناع عن التصويت سواء في مجلس الأمن، أو في الجمعية العامة على قرارات إدانة روسيا، والمعنى هو أنه لو كانت الصين ترى في الحرب الروسية في أوكرانيا ما ينبئ بسيناريو منسق لتغيير نظام القطبية الأحادية الراهن لكانت قد ألقت بكل ثقلها وراء موسكو، كما كان يأمل بعض الحالمين، أو الهواة من المهتمين بالعلاقات الدولية.

يضاف إلى ذلك أن بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) لايزال يراوح مكانه في فتح باب التبادل التجاري مع الجانب الروسي بالعملتين الوطنيتين للبلدين على حساب الدولار الأمريكي على مصراعيه، وكل ما يجري في هذا السياق هو صفقات محدودة، وخاضعة لتحكم البنك الصيني بصرامة، كما أوقف البنك الآسيوي للاستثمارات -والذي تهيمن عليه بكين- أعماله في الداخل الروسي، وامتنع الصينيون حتى الآن عن تلبية الطلب الروسي بتزويده بقطع الغيار البديلة في عديد من القطاعات، أهمها قطاع الطيران المدني.. إلخ.

وللأهمية الاستراتيجية لموقف الصين، والتي يبدو أن الرئيس الروسي توقع خطأ مساندتها الشاملة له، مثلما يبدو أنه أخطأ في حسابات عمليته الأوكرانية ككل، فمن الواجب الاطلاع على تقدير الموقف الاستراتيجي المتداول في دوائر الحكم في بكين، وتمثل ورقة مقدمة إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني من هوو وي نائب رئيس مركز الأبحاث في مجلس الوزراء هناك (ويسمي مجلس الدولة) ذلك التقدير المتداول للموقف، ويقول الرجل إن احتمالات انتصار بوتين تبدو قاتمة، وأن الاقتصاد الروسي هش، ويمكن أن ينهار في غضون سنوات قليلة إذا استمر الاستنزاف العسكري في أوكرانيا، ثم إن حلف الأطلنطي سيقوى ويتوسع، وقد يسقط بوتين ونظامه، مما يغري الغرب بالعمل على تفكيك روسيا، ومما يلفت النظر هنا أن هذا التقدير باحتمال تفكك الدولة الروسية من الخبير الصيني يتفق مع توقع يروج له فرانسيس فوكوياما المفكر الاستراتيجي الأمريكي من أصل ياباني، وصاحب نظرية نهاية التاريخ المشهورة.

من الواضح أن محصلة المعطيات الثلاثة السابقة هي -كما جاء في العنوان- إعادة تثبيت المركزية الغربية في العلاقات الدولية، وفي سائر الشئون العالمية، إلى مدى غير مرئي، بغض النظر عن حبنا أو كراهيتنا لهذه المركزية الغربية بمكوناتها المرغوبة وغير المرغوبة، وهي المركزية التي بدأت مع الكشوف الجغرافية، وترسخت بالثورات العلمية والصناعية والقومية والديمقراطية، ثم بالمد الاستعماري الذي اجتاح العالم غير الغربي، وفي ركابه النهب الرأسمالي لموارد المستعمرات، واحتكار أسواقها، لكن ما يهم في هذه اللحظة أن معظم حيثيات وأدوات هذه المركزية الغربية لاتزال فاعلة، فالتبعية الاقتصادية للغرب في أغلب دول العالم الصغيرة والمتوسطة لاتزال قوية، وستبقى كذلك في المستقبل المنظور، ليس فقط من خلال المؤسسات المالية الدولية، ولكن أيضا بسبب الأسواق تصديرا واستيرادا، وأما الدول الكبري اقتصاديا غير التابعة للغرب اقتصاديا فبينها وبينه درجة عالية من الاعتماد المتبادل، وهذه هي حالة الصين تحديدا، واليابان كذلك، بل وروسيا نفسها قبل حرب أوكرانيا، ثم الهند بدرجة أقل.

وبعيدا عن هذا الجانب الاقتصادي للمركزية الغربية، أو متصلا به في الحقيقة، فإن مكونات النظام الدولي هي من صنع الغرب بالدرجة الأولى، فالقانون الدولي نفسه تطور في الغرب، والتنظيم الدولي نشأ عن مخاض فكري غربي، وتأسس بمبادرات غربية، كما كان حال عصبة الأمم، وكما هو الآن حال الأمم المتحدة، ووكالاتها المتخصصة، التي تغطي كافة جوانب الحياة الدولية، بل والمحلية في الدول الأعضاء، من الثقافة إلى الصحة ومن المناخ إلى  البيئة، إلى حقوق الانسان عموما، وحقوق والطفل خصوصا، وكذلك فإن اللواء لا يزال في يد الغربيين في البحث العلمي والاختراع والثقافة والاعلام والفن .

لكن إعادة تثبيت المركزية الغربية على نحو ما تؤكده حرب بوتين في أوكرانيا، لا يكتمل فهمها دون التطرق إلى أسباب فشل المحاولات السابقة لتحدي هذه المركزية أو تحجيمها، ولندع جانبا التفاؤل الذي روج له بعض الهواة، حين اندلعت موجة وباء كوفيد ١٩ الأولى الشرسة، من أن الصين التي قيل إنها نجحت بسرعة وفاعلية في مكافحة الوباء تقدم الآن للعالم شهادة وفاة تفوق الغرب المتخبط في مواجهة الوباء، أقول لندع جانبا ذلك التفاؤل قصير الأجل بما أن أفضل اللقاحات ضد الفيروس، ثم محاولات علاجه خرجت من المعامل الغربية، ولنركز على فشل المعسكر الاشتراكي، وحركة عدم الانحياز وثورات التحرر الوطني في كسر تلك المركزية الغربية، فبحق كانت هذه الروافد الثلاثة أخطر تحدي واجهته المركزية الغربية، وكانت هي الأكثر إلهاما ووعودا لشعوب العالم غير الغربي، سيما وقد بدا في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي أن هذه الروافد الثلاثة يمكن أن تشكل قيادة عالمية بديلة أو موازية على الأقل، وهي الحقبة المصطلح علي تسميتها بحقبة باندونج، لكن وكما نعلم جميعا فقد انهار كل رافد من تلك الروافد الثلاثة على نفسه ومن داخله. ولأسبابه الذاتية، وهذا حديث آخر يطول شرحه، لكن يمكن إجماله في انعدام النهوض الشامل والمتكافئ للمكونات السياسية والاجتماعية، في دول العالم الثالث، وفي الدول الاشتراكية، وهو ما نتج عن تكبيل المجتمعات وخنق المبادرات بمؤسسات بيروقراطية عقيمة وفاسدة، وأجهزة أمنية متغولة جهولة، وزعامات متأبدة في السلطة.