قد لا يجد المتلقي اختلافا كبيرًا بين المعنى الاصطلاحي لكلمة “السلفية” ومعناها اللغوي، ولا يختلف المعنيان كثيرًا عن معتقدات هذه الفئة من الناس التي تعرف بـ”السلفيين”، سواء على مستوى الاعتقاد أو على مستوى السلوك اليومي، أو على مستوى الشكل والهيئة، فالسلفيون الآن يملؤون السمع والبصر في مصر وغيرها من البلاد.
فالسلفية في ذهن العامة، وفي اعتقاد أصحابها، توجه إلى الماضي، أو رجوع إليه وتمثُّله والاحتماء به، وحيث يوجد الحنين إلى الماضي يوجد بالضرورة التَّوجس من الحاضر والخوف من المستقبل، وحين يُقرِّر جمع من الناس أن يعودوا إلى الماضي، اعتقادًا بسموّه ونبله، فهذا يعني هزيمة الحاضر وخسارة المستقبل لحساب الماضي.
وحين يكون الماضي- في هذا التصور- “دينًا” يتسلح بكامل عتاده؛ من وحيٍّ يتنزل من السماء، ورسول كريم معصوم، ورجال “صدقوا ما عاهدوا الله عليه”.. فهذا يعني أننا إزاء ماضٍ يُشكِّل استثناء في التاريخ، إزاء حالة لا يملك الحاضر إلا أن يتصاغر أمامها؛ فهذا ماض يحيا بين الناس كالحلم، تتعشقه القلوب وتهفو إليه العقول والأرواح، ولن يحتاج السلفيون إلى أيِّ برهان أو دليل عقلي يقنع الجماهير بأهمية العودة إلى هذا الماضي الاستثنائي؛ يكفيهم فحسب أن يداعبوا أحلام الجماهير المحبطة بهذه المفردات/ المفاهيم كي تلتف حولهم، وتؤمن بهم، وتنادي بهم شيوخًا وأئمة..!
يكفي السلفيون أن يُحدّثوا الناس بهذا الحلم لكي يغفلوا عن إنسانية الماضي وتاريخيته، وأنه ليس كتلة واحدة، ولم يكن كله وحيًا خالصًا، وأنه مجرد تاريخ نأخذ منه الاعتبار والفهم الذي تغنى به تجربتنا الإنسانية، وتثرى به طرائقنا في الوصول إلى ما نرجوه لأنفسنا حاضرًا ومستقبلًا..
لقد صار التاريخ- فيما يطلق عليه السلفيون “الفترة الخيرية” الأولى- نورًا مشرقًا، توالت على تأكيد نورانيته النصوص، فخير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”، ثلاثمائة عام إذن، تضم الصحابة والتابعين وتابعي التابعين. فمن ذا الذي يماري هذه الخيرية؟ من يُماري فيها يماري بالضرورة في النص، ومن ذا الذي يتوقف ليمحص ويُعمل عقله، ليقول: إنَّ الخيرية بالمعنى الذي ترونه لا يمكن التسليم بها. !!
وهنا يغدو العقل حائرًا بين التاريخ والنص، بين ما جرى من حروب ونزاعات أهلية وما يقوله النص؛ فهل يصدق بالنص المعصوم الذي أثبت الخيرية ويكذِّب التاريخ، أم يصدق بالوقائع ويدفع النص ؟ وهنا يقع المتلقي بين حدين لا سبيل أمامه سوى التسليم بأحدهما: الكفر أو الإيمان، لقد حسمت الجماعة “السلفية” أمرها واتخذت النص حقيقة حاكمة على التاريخ، وإذا قال النص فقد صدق، وعلى الوقائع أن تأتي وفقه بلا زيادة أو نقصان، أو أن تكون محض كذب وتدليس على النص. ( كان الشهرستاني مثلًا يأخذ على مؤلفي الفرق والنحل أنهم يتعسفون كثيرًا في تقسيم الفرق كي تصل إلى ثلاثة وسبعين فرقة، ليوافق التقسيم الحديث الشريف، رغم أن الواقع لم يكن يعرف كل هذا العدد!! )
أصول وجذور:
ترجع الجذور الأولى للفكرة السلفية إلى “أحمد بن حنبل”(164-241ه)، الرجل الذي ارتاب في مقولات المتكلمين وإجراءاتهم، والمعتزلة منهم بوجه خاص؛ فقد أخذ عليهم اعتدادهم بالرأي والقياس والتأويل، وتقديمهم العقل على النص وتحكيمه فيه. فدعا “ابن حنبل” إلى العودة إلى البساطة الأولى للدين الإسلامي، والابتعاد عن الأفكار المعقدة التي جاء بها المتكلمون، وتمثَّلت هذه العودة في مجموعة من المبادئ أو الأصول هي على الترتيب:
الأصل الأول: الاحتكام إلى النص وتقديمه على غيره، من حديث أو عمل الصحابي أو القياس.
الأصل الثاني: الالتزام بفتوى الصحابي التي لا يخالفه فيها أحد وعدم العدول عنها.
الأصل الثالث: إذا اختلف الصحابة في أمر يُتخير أقرب أقوالهم إلى الكتاب والسنة، فإذا عَزَّ الاختيار عُرِض الاختلاف كما هو دون القطع فيه برأي.
الأصل الرابع: الأخذ بالحديث المرسل والضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه.
الأصل الخامس: لا قياس إلا لضرورة، وتتمثل الضرورة في غياب الأصول الأربعة السابقة، أي: عدم وجود النص، أو قول الصحابي، أو حديث مرسل أو ضعيف.
هذه هي أصول منهج “ابن حنبل”، وإذا أخذنا في الاعتبار ما يشترطه لإجراء القياس تأكَّد لنا أنه يفرغه من معناه، ولا يبقى منه غير إلحاق أمر بأمر آخر (سابق) يطابقه.. وهذا يعني أننا إزاء حالة كاملة من الاتباع، تعتمد في البداية والنهاية على النصوص والمأثورات، تقف إزاءها ولا تتعداها، حالة يتراجع فيها ومعها دور العقل والتأويل، في أبسط الأمور وفي أعظمها على السواء؛ فهي تنكر استخدام العقل، أو تأويل النص حتى إذا تعارضت النصوص أو تناقضت، فعلى المسلم في كل الأحوال أن يتبع النص، بصرف النظر عن قطعية ثبوته أو قطعية دلالته. (راجع د. محمد عمارة: تيارات الفكر الإسلامي، ط(3) دار الشروق، القاهرة 2008م ص 142وما بعدها)
كان من البدهي والحال كذلك، أن يتجاوز السلفيون، في العصور التالية خاصة، تقديسَ النص إلى تقديس العصر الذي قيل فيه النص، يؤكد هذا المعنى “محمد عمارة” في قوله: ” لقد شاع في الحركة السلفية تقديس الماضي، وزاد ذلك التعظيم كلما ازداد هذا الماضي إيغالًا في القدم واقترابًا من عصر صحابة الرسول”.( السابق،142)
هي إذن عودة “عقدية” خالصة إلى الفترة الأولى حيث البساطة والعفوية الصحراوية في فهم النصوص وفي تنزيلها على الواقع، وذلك عبر “تمثُّل” فهم الصحابة والتابعين، وهم خيار الناس، وخيار الأفهام في خيار الأزمان، وهذه العودة- في جوهرها– احتجاج على الوضع الثقافي والمعرفي المركّب الذي وسم العصر العباسي، ولم يك ممكنًا تجنب انعكاسه على الفقه وآراء المتكلمين واستدلالاتهم وبراهينهم.
ورغم أن السلفيين يعتبرون “ابن حنبل” إمامهم وشيخهم الذي عبَّد لهم الطريق، ووضع لهم أصول المذهب، إلا أنه من الصعب أن نساوي بين السلفيين في العصور الوسطى أو في العصر الحديث وموقف “ابن حنبل”؛ فالسلفيون بعد “ابن حنبل” مجرد مقلدين له، تابعين لمذهبه، بخلاف “ابن حنبل” الذي بنى موقفه ردًّا على مواقف معاصريه، وفرق كبير بين “الموقف” الذي يقتضي عقلًا وثقافة، و”تقليد” التلاميذ والتابعين لهذا الموقف، فرق بين الحيوية العقلية التي عرفت وانتقدت وانتهجت سبيلًا آخر، مهما اختلفنا معها، وبين من حوَّل هذا “الموقف” الإنساني التاريخي إلى منهج يتقرب به إلى الله، ويدعو أتباعه إلى التمسك به وعدم الانحراف عنه.
لقد بدأ التيار السّلفي إذن في فترة تاريخية مبكرة، مثله مثل كثير من تيارات الفكر الإسلامي، إلا أن “السلفية” ظلت باقية حيّة على امتداد التاريخ الإسلامي، رغم أن تيارات أخرى نشأت معها واختفت بعد عقود قليلة من ظهورها، وظلت “السلفية” استثناء ليس فقط في بقائها ولكن في جماهيريتها أيضا، لا ينافسها في ذلك إلا “الصوفية”.
ورغم هذا الوجود التاريخي الطويل، ورغم التقلبات والتحولات التاريخية والاجتماعية والحضارية التي لا حَدَّ لها، فقد حافظ السلفيون إلى حد كبير على أصول “ابن حنبل” الأولى؛ فالسلفيون منذ ذلك العهد البعيد وحتى اللحظة الحالية يتمسكون بخيرية القرون الأولى، وأنَّ النجاة كل النجاة في اتباع فهم الصحابة وتمثلهم – ما أمكن – سلوكًا واعتقادًا، وأنه لا خير في عقل ولا رأي يتجاوز ما كان عليه هؤلاء. ولا يمنعنا هذا المستخلص من الإقرار بوجود قدر من المرونة في مواقف بعض أعلامها في الحقب التالية، وإن ظلت بلا تأثير في عموم التوجه السلفي، من ذلك قول “ابن القيم”(691-751هـ):
“إنَّ الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العدل، وأسفر صُبْحه بأي طريق كان، فثمّ شرع الله ودينه ورضاه وأمره…”.( ابن القيم: أعلام الموقعين ج 4 بيروت1973م ص272)
وهذا الموقف المتقدم يعدُّ إزاحة مهمة لأصل الالتزام الحرفي بالنصوص إلى تحري الغايات والمقاصد، حيث تتحقق مصالح العباد. غير أن هذا الفهم لم يتح له أن ينتشر ويعم، فسريعًا ما تعود الأمور سيرتها الأولى، حيث الإيمان بالاتباع والتحصُّن بالتقليد.