في سلسلة مقالات تحت عنوان «مسافر وسط العاصفة» نشر الحلقة الأولى منها يوم 15 سبتمبر 1972 ذكر محمد حسنين هيكل تفاصيل مثيرة عن حكايات ترددت في عدة عواصم أوروبية عن لقاء مرتقب يجمعه مع هنري كيسنجر مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي، وإنها محاولة جديدة في الدبلوماسية السرية التي مارسها كيسنجر بنجاح مشهور في بكين وموسكو وباريس، وجاء الدور فيها الآن على أزمة الشرق الأوسط.
وكان هيكل وقتها في زيارة إلى ألمانيا الغربية، وعقب لقائه مع “ويلي براندت” المستشار الألماني كانت بطاريات التليفزيون الألماني في انتظار هيكل، وكان طبيعيًا أن يكون السؤال الأول لدي مذيع التلفزيون الألماني إلى هيكل عن: (ذلك اللقاء المنتظر بينك وبين كيسنجر، باعتباركما مستشارين لرئيسين سوف يكون لقاء مثيرا، فماذا تتوقع أن يتحقق فيه؟).
**
وجدها هيكل فرصة لكي يقول ما عنده، فنفى أولًا أن يكون له موقع أو منصب المستشار، وأكد على كونه صحفيًا وفقط، ثم راح يشرح رأيه في الموضوع فقال إنه “لا يعتقد أنه في مقدور الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الراهن أن تسهم بأي جهد إيجابي في أزمة الشرق الأوسط”.
وأضاف أنه “منذ شهر نوفمبر الماضي -أي منذ سنة تقريبا- فإنني أعارض أي اتصال بيننا وبين الولايات المتحدة، ورأيي الآن بالنسبة لنا أن هناك أولويات لابد لها أن تسبق أي شيء آخر، بل إنه بدونها يصبح أي شيء آخر مجازفة في الفضاء”.
ثم أعاد التأكيد على أهمية إعادة ترتيب وتوثيق العلاقات بيننا وبين الاتحاد السوفيتي على أساس صحيح وصحي، وقال: (لا يجب أن يخامركم شك في أن الاتحاد السوفيتي أهم وأقرب الأصدقاء بالنسبة لنا)، ثم أشار إلى أهمية إعادة ترتيب وتدعيم الموقف العربي العام لمواجهة واسعة ومتعددة الأساليب مع الولايات المتحدة الأمريكية قبل غيرها من القوى.
**
الرئيس أنور السادات كان في وادٍ آخر، على صعيد السياسة الخارجية التي يسعى إلى تعديلات رئيسية فيها، وعلى المستوى الأوضاع الداخلية التي يعاني فيها العديد من المشاكل والمصاعب، ووسط كل هذه الاهتمامات والهموم، كانت الصحافة من المواقع التي أدرك السادات مبكرًا أهمية أن يكسبها إلى صفه، وهو صاحب علاقات قديمة بالوسط الصحفي، وعلى دراية لا بأس بها بالتركيبة الصحفية التي كانت في أغلبيتها تغار من الموقع المميز الذي يحتله هيكل.
رغم أن هيكل لعب دورًا محوريًا في اختيار أنور السادات لخلافة جمال عبد الناصر، ثم لعب دورً حاسمًا في صراعه مع من سماه مراكز القوى، إلا أن السادات كان يسعى منذ البداية إلى أن يفتح بابه لكل الصحفيين، ومنذ اللحظات الأولى عقب أحداث 15 مايو 1971، نشطت تحركات من بعض رؤساء التحرير أرادوا أن يرثوا عند السادات مكانة تناظر مكانة هيكل عند عبد الناصر، وكان مطلبهم أن يُعامل هيكل مثل سائر رؤساء التحرير، أو يُعامل رؤساء التحرير بمثل معاملة هيكل، واقترح البعض أن يكون للرئاسة مستشار صحفي يتعامل مع جميع الصحف على قدم المساواة.
**
كانت رغبة السادات واضحة في إعادة التموضع للكتاب والصحفيين المقربين من السلطة، وكان يحاول بعث رسائل إلى الجميع بأن وضع هيكل مع الرئيس الراحل عبد الناصر لم يعد قائمًا في جمهورية السادات.
ولا شك أنه قد ساءته تصريحات هيكل في ألمانيا، وجاءت هذه التصريحات لتضع خطة السادات موضع التنفيذ، ووجدها مناسبة لكي يستخدم المدفعية الثقيلة الممثلة في قلم صديقه المقرب موسى صبري، وكان يعلم ما يعانيه موسى من أحقاد على هيكل، فأطلق يده.
**
لم يكن أحد يعرف المخفي من كل هذه الخلفيات التي صدر بسببها أخطر مقالات هيكل في ذلك الوقت، وفوجئت الأوساط الصحفية والسياسية في الربع الأخير من عام 1972 بحملة ضد هيكل، هي الأولى من نوعها، شنَّها موسى صبري الصحفي المعروف بأنه وثيق الصلة بأنور السادات، خرجت الحملة من التلميح إلى التصريح، ومن الغمز إلى العبارات المدوية، اتهم فيها موسى هيكل بالعديد من الاتهامات، كثير منها لم يهتم به هيكل، ولكنه توقف عند فقرة في حملة موسى صبري.
خلاصة التهمة التي استرعت انتباه هيكل ما ذكره صبري من أن هيكل يدعي ما لا حق له فيه، ومن ذلك أنه يصور نفسه سياسيا على هيئة صحفي، ويفوت خبرا على «جريدة يمينية في بيروت، هي من أبواق الدعاية له، يقول إنه طائر إلى ميونيخ لعقد اجتماع سري مع كيسنجر مستشار البيت الأبيض، وتنقل وكالات الأنباء الخبر الكبير، ويصدر كيسنجر تكذيبا رسميا له، ولكن الضجة تثور، ويعود منتفخ الأوداج يسجل أنباء الضجيج والعجيج».
وبشكل ملتو راح صبري يلعب على وتر أن هيكل يبحث عن دور في وقت لم يعد له فيه دور، وإن كل ما يسعى إليه في النهاية هو “أن تجري مصر في فلك أمريكا”.
**
تأكد هيكل أن الحملة عليه جرت بمعرفة ومباركة الرئيس السادات، وقرر أن يرد الصاع صاعين، وأن يكون رده على “المحرض”، حتى لا يورط نفسه في الرد على “الأداة”، فكتب المقال الأخطر في مسيرة العلاقة مع السادات.
أراد هيكل أن يكون المقال بمثابة «وثيقة تاريخية» تلقي الأضواء على حقائق كثيرة متصلة بالدور الذي لعبه في كواليس السياسة المصرية المعاصرة، وتضع أمام الرأي العام حقائق كثيرة متصلة بأسلوب السلطة في التعامل مع عناصر الصراع حولها.
جاء المقال مباشرة عقب نشر مقالي موسى صبري، في عدد الأهرام 29 ديسمبر سنة 1972، وكان العنوان ـ قبل التفاصيل ـ مستفزًا، ومتحديًا وواثقًا: «كيسنجر.. وأنا… مجموعة أوراق».
**
كانت مقدمة المقال كالقذيفة دخل بها هيكل دون تلكؤ عند المقدمات التي كان يجيدها دائما، مباشرة دخل إلى صلب الموضوع فقال: لقد تعرضت أخيرا إلى حملة مازالت طبولها تدق، ولم أتعود في حياتي أن أرد على أية حملات؛ لأنني روَّضت نفسي منذ زمن طويل على الحكمة المأثورة: قل كلمتك وامشِ».
ولأن هناك من يعرفون ذلك عني فإنهم يتمادون، وما أخشاه هو أن يتصور أحد أن السكوت عن عجز، وليس عن عفة، ومن هنا فقط خطر لي أن أضع نقطة واحدة على حرف، وهدفي بالدرجة الأولى أن يكون من ذلك نموذج عملي يحكي بالوقائع قصته، ويلقي أضواءه إلى أبعد من حدوده. ثم يتجاوز الطبول التي تدق إلى ما وراءها، (يتجاوز الأداة إلى المحرض هذا ما يقصده)، ولقد اخترت نقطة واحدة تبدو وكأنها الإيقاع الرئيسي في دقات الطبول.
**
بدأ هيكل بتفاصيل قصة اتصال الدكتور زكي هاشم (الذي أصبح وزير السياحة وقت نشر المقال) ولقاءه مع دونالد كاندال الصديق المقرب من الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون ورئيس مجلس إدارة بيبسي كولا، وذكر وقائع اللقاء.( يمكنك أن تراجع مقالنا الأول الأحد الماضي).
ومن بعد عرَّج على قصة رسالة كاندال إليه، ورده عليها، وأنه عرف فيما بعد أن نيكسون رحب بزيارته لواشنطن (على أساس أن يدور حوار بالعمق- على حد تعبيره – بيني وبين كيسنجر، الذي حضر جزءا من الاجتماع بين نيكسون وكاندال في البيت الأبيض، وذكر أنه يتابع بعض ما أكتب، وأنه على استعداد للمناقشة معي، فلقد بدأ يدرس أزمة الشرق الأوسط، وهو يريد أن يناقشها مع طرف يمثل وجهة النظر العربية، ولا يريد أن يناقش مع «موظف» أو «مسؤول رسمي»، وإنما يؤثر أن يبدأ تعرفه عليها من خلال نظرة إستراتيجية أوسع، هكذا كان قوله).
وسرد هيكل بالتفصيل قصة رسالة السفير أشرف غربال القائم بأعمال المصالح المصرية في واشنطن وقتها، والذي أصبح مساعدا للسيد حافظ إسماعيل مستشار رئيس الجمهورية للأمن القومي وقت نشر المقالة، ولم يكتف بذلك، بل نشر نص رسالة أشرف غربال، التي كانت بحوزته.
**
الأهم والأخطر أن هيكل لم يتورع عن أن يذكر أن الرئيس السادات اتصل به ليقول له بالحرف: (يبدو أن كيسنجر يريد أن يقابلك؟، سوف أبعث لك الآن بخطاب شخصي أرسله الدكتور محمد حسن الزيات (رئيس الوفد المصري لدى الأمم المتحدة) إلى الدكتور محمود فوزي (رئيس الوزراء) أن واحدا من أقرب المقربين إلى نيكسون تقابل مع الدكتور الزيات وتحدث إليه في الأمر، ورأى الدكتور الزيات أن الموضوع مهم، ولم يشأ أن يبعث به في تقرير عن طريق وزارة الخارجية؛ ومن ثم فإنه كتب بمضمونه خطابا شخصيا إلى الدكتور فوزي، وأعطاه للسيد عبد الخالق حسونة الأمين العام للجامعة العربية لكي يسلمه بنفسه للدكتور فوزي. وقد أعطاني الدكتور فوزي هذا الخطاب وقرأته، وطلبت إرساله إليك لكي تقرأه بدورك ثم نتحدث فيه عندما نلتقي).
ولم تتوقف قذائف هيكل عند هذا الحد بل نشر نص الخطاب الموجه إلى السادات عبر الدكتور محمود فوزي رئيس الوزراء، الذي يحتفظ بنسخة منه لديه.
**
كانت هذه هي المرة الأولى التي يعلن فيها هيكل أحاديث وأحداث تتناقض مع المعلن من السياسات، بل على النقيض من الأحاديث المعلنة على لسان رئيس الجمهورية الذي لم يكن يتوقف عن إدانة أمريكا وسياستها المنحازة إلى جانب العدو، في سابقة لم تحدث من قبل.
ثم يقص على قرائه قصة لقاءه مع الرئيس في استراحة القناطر، ويؤكد أن السادات رأى أنها فرصة تساوي أن نستغلها، وأن رأيه أن يذهب ويتكلم ويسمع من كيسنجر، مشيرًا إلى أن (كيسنجر هو الرجل الذي يحل ويربط في البيت الأبيض، الذي هو مصدر السلطة، ومصدر القرار، وأنت تعرف كل شيء عن تطورات الموقف، وقد عشت الأزمة من الداخل).
ولكن هيكل كان له رأي آخر. وطلب منه السادات أن يعطي نفسه فرصة للتفكير في الأمر.
هكذا وعلنا يطلب الرئيس، ويرفض هيكل، ويعلن ذلك بلا مواربة (وفكرت بعدها، وأطلت التفكير، ثم استقر قراري وبعثت إلى دونالد كاندال ببرقية أقول له فيها بالنص: «شكرا جزيلا على دعوتك الرقيقة، وصادق تقديري لكل الترتيبات التي أعددتها لمناقشة جادة ومثيرة، وإن كنت مع الأسف سوف أرجوك في تأجيلها- ومع خالص الود»).
**
لم تكن مقالات هيكل تمر على الرقيب، فنشر المقال، ونزل كالصاعقة على أنور السادات حتى أنه لم يستطع أن يكمل قراءته ورمي «الجورنال» على طول يده.
ولا شك أنه كان أتعس شخص قرأ المقال، لأنه فهم ما يريد هيكل أن يقوله، لم يكن المقال صاعقا فيما أورده من أسرار تجري على مستوى القمة في الدولة، وفقط، ولكنه كان صاعقا وربما أكثر فيما يريد أن يقوله من وراء كل سطر وكل حكاية، بل وكل كلمة جاءت فيه.
**
أراد هيكل أن يقول بوضوح: إنه لن ينزل إلى مستوى الرد على من يجري تحريضهم عليه، وأنه سيتناول بالرد المحرض نفسه، وهو «إعلان شجاعة» من هيكل، شجاعة محسوبة بدقة، دقة الحاسوب الذي يقبع في عقله، ذلك أن خطأ الحساب في مثل هذا الأمر نتائجه أكثر من وخيمة.
أراد هيكل أن يقول في العلن وعلى رؤوس الأشهاد: إن أحدا لا يمكنه أن يهدده بشيء، بل إنه هو الذي يمكنه أن يهدد، بل ويهز مواقع ومقاعد استقر أصحابها فوقها، وفهم السادات “الرسالة”، وكانت من أكثر الأشياء ألما له.
وأراد هيكل أن يقول علنا إنه لن يسكت على محاولات ضرب مصداقيته، حتى ولو كان الثمن أن يسقط مصداقية الآخرين، خاصة هؤلاء الذين لم تكن بيوتهم إلا من زجاج قابل للكسر من أول نفخة وليس من أول حجر.
**
ثم كانت القاصمة حين أصر هيكل على التفريق بين أن يطلب جمال عبد الناصر وبين أن يرجو أنور السادات، فطلب عبد الناصر أمر، «الآن تذهب لتحزم حقيبتك، واليوم تذهب إلى موسكو»، وينفذ الأمر، كما ذكر في المقال، أما رجاء السادات فهو شيء قابل للتفكير فيه، ثم لرفض تنفيذه.
وأراد هيكل أن يقول وأن يعيد القول بأنه ليس هناك أحد -بعد رحيل عبد الناصر- يملك عليه حق الأمر، وواجب الطاعة، ذلك أنه كان القائد الذي لا يرد له أمر.
وأراد أن يؤكد -على الملأ- أن العلاقة بينه وبين أنور السادات فيها أن الرئيس يتمنى، وأن هيكل يمكنه أن يرفض ما تمناه الرئيس، وأنه يمكن -فوق ذلك- أن يعلن ذلك، برغم ما يحيط بهذا الإعلان من محاذير قد تجعل غيره يفكر ألف مرة قبل أن يقبل عليه.
**
كان مقال هيكل يضارع في الشكل والمضمون بيانا يُلقيه من الإذاعة رجل احتلها، وراح يذيع منها ما يشاء، ذلك لأن الأسرار التي أذاعها هيكل في بيان «كسينجر وأنا» تظهر خطورتها ودقتها إذا وضعنا في الحسبان الإطار الذي كان معلنا لسياسة مصر في أواخر سنة 1972 وقت نشر بيان هيكل.
في ذلك الوقت كانت السياط تنهال في مصر رسميا وصحفيا وشعبيا وبلسان الرئيس السادات تنقم على السياسة الأمريكية والرئيس نيكسون ومستشاره كسينجر.
وهو الوقت الذي كانت تدان فيه علنا أي محاولة لأي اتصال مصري أمريكي على أي مستوي، ولو على سبيل جس النبض.
وهو الوقت الذي كان الملك حسين العاهل الأردني يتهم علنا الرئيس أنور السادات لاتصالاته التحتية مع أمريكا.
في هذا الوقت بالذات يخرج هيكل ليعلن أن الرئيس السادات كان متحمسا لهذا الاتصال السري المقترح مع صناع القرار الأمريكي، ويكشف بالوثائق أن السادات يريد السباحة سرا في جنح الظلام ضد الاتجاه الجارف المعلن على الناس، وأن اللهفة تأكله من أجل فتح أبواب الوصال الخلفية مع واشنطن.
**
جاء مقال هيكل ليظهر أنه قادر على أن يرمي بالقفاز، لا في وجه الصحفي الذي اندفع – بدوافع حقد دفين- إلى شن الحملة عليه دون أن يحيط بأسرار القصة كلها.. ولكنه يرميه في وجه من هو أعلى منه بكثير.. في وجه المحرض شخصيا.. في وجه السادات.
وأدرك السادات أنه أخطأ الحساب، إذ سمح لموسى صبري بالتهجم على هيكل، خاصة وهو ما يزال يملك من «الأوراق» الكثير القادر على «فضح» ما يجري من وراء الأبواب المغلقة.
**************
المقال السابق: هل لعب كيسنجر خلف الكواليس لإبعاد هيكل عن السادات؟ (1 – 3)
الأحد المقبل: كيف لعب كيسنجر خلف الكواليس لإبعاد هيكل عن السادات؟