شَكَّلت أزمة كورونا 2019 ومن قبلها الأزمة المالية في 2008 علامَتَين بالغتي الأهمية لِتَبَدي التناقض الكائن بالعالم المعاصر إلى أن أتت الأزمة الأوكرانية بظلالها الثقيلة على كل المستويات لتثبت أن التناقض بين الأضداد قائم يتطور، فالضدين -وإن تناقضا- يعيشان في نفس السياق الزماني والمكاني ويتصارعان بما يُنتِج تراكمًا كميًا يصل إلى ذروته ليتحول الضدين إلي عدوين. يشير “ماوتسي تونج” بأطروحته الأشهَر “في التناقض” إلي ضرورة إدراك مسألة “التعادي” في التناقض وهي النقطة التي يصل فيها صراع الضدين إلي مُنتهاه الذي يأتي من بعده مباشرة الحدث الجلل. يقول ماو: “إن المرحلة التي تمر على القنبلة قبل انفجارها هي مرحلة تتواجد فيها المتناقضات في كيان واحد بسبب عوامل معينة. ولا يقع الانفجار إلا عندما يحصل عامل جديد (الاشتعال). وثمة وضع مماثل في جميع الظواهر الطبيعية عندما تتخذ في النهاية شكل التعادي الصريح كي تحل تناقضات قديمة وتنتج أشياء جديدة”.

كان التناقض فيما بعد الحرب الكونية الثانية وحتى انهيار جدار برلين الدرامي في 1989 واضحًا جليًا حيث الضدين ظاهِرَين تمامًا بكل ملامح مجتمعيهما الثقافية والسياسية والاجتماعية المتباينة. بَدَا الأمر كما لو كان مختلفًا خلال العقد الأخير من القرن العشرين لما تحلل حلف وارسو وانطوت بعض دُوَلِهِ على نفسها قانعة بحجمها وقدر تأثيرها بِحُكم محدودية ما تمتلكه من موارد بشرية وطبيعية بينما التحق البعض الآخر بالناتو تحت إدارة الولايات المتحدة الأمريكية التي انفردت بالعالم كقطب واحد تفعل به ماتشاء. بدا الأمر كما لو أن “التناقض” قد زال إلى غير رجعة في ظل عولمةٍ لا قيود فيها على حركة البضائع والأفكار، وصار تعبير “العالم هو قرية واحدة” بمثابة الوصف المُسَلِم به لحالة ثقافية تحكم الكون وتتحكم فيه من خلال حزمة قيمٍ ومعاييرٍ ثابتة تعاطى معها البعض باعتبارها تعاليم مُقدسة لا يأتها الباطل من بين يديها ولا من خلفها كنتيجة للتحلل الظاهري للأساس الفلسفي الذي كان يحدد التصنيفات إبان فترة الحرب الباردة. في سنوات التيه التي تلت انهيار الجدار الدرامي، صارت كل القوى الدولية تعمل وفق نموذج قيمي واحد في سباقٍ للتفوق اقتصادي الملامح ظن الكثيرون معه أن التناقض قد زال كمحرك لصيرورة التاريخ، لكن ماحدث لم يكن سوى نوع من التنافس بين أضداد تتناقض لا في الوسيلة ولا في آليات العمل ولكن في الهدف النهائي، وهنا تتجلى حقيقة التناقض في جوهره لا في النظرة الصورية له.

وأظن أن الخطأ المنهجي الذي وقع فيه مفكرون وفلاسفة كثيرون فَآل بهم إلى تلك النظرة الصورية لزوال التناقض هو مسألة في غاية البداهة والتجريد تتعلق بالأمر الذي اجتهد هيجل ومن بعده فيورباخ ثم ماركس وإنجلز لوضع تصور بشأنه وهو “أسبقية الواقع على الفكر”، فالواقع هو الذي يُنتج الفكر لا العكس، لكن الذي حدث أن كثير من مفكري هذا العصر تعاملوا مع نتائج حدث انهيار جدار برلين الدرامي باعتبار أن تحلل حلف وارسو (كواقع) كان ناتجًا عن انهيار النموذج الفلسفي (كفكر) الذي تأسست عليه مجتمعات هذا الحلف وما ارتبط به من بنيتها الفوقية والتحتية من مؤسسات وتشريعات وأنماط إنتاج وعادات إجتماعية وثقافية.

وأظن أن تحلل حلف وارسو كان راجعًا بالأساس إلى تماهي الأحزاب الحاكمة بمجتمعات دُوَلِهِ مع سيطرتها الشمولية على السلطة فتخلت شيئًا فشيئًا عن إتمام مهامها الديمقراطية كما كان يُبَشِر آباؤها الأوائل لينتهي الأمر بتلك الأحزاب وقد تحولت من أحزاب جماهيرية إلى أحزاب بيروقراطية متحجرة جامدة تدعم مصالح نخبتها العليا فقط فانفصلت عن “الواقع” بتناقضاته المتعددة، وهو ما يُعَدُ في ذاته تعبيرًا واضحًا عن “التناقض” بين مصالح النُخب ومصالح الجماهير التي كان يُفترض أنها تمثلها فكان انهيار الجدار الدرامي مظهرًا للتعادي الذي أشار إليه “ماو”. لم يكن أمر تحلل وارسو إذن سوى نتيجة للجمود الذي أصاب مجتمعاته فأفقدها حيويتها الثقافية بشأن البحث الدائم في “الواقع” كأساس للفكر وباعتبار أن النموذج العملي الذي تم تقديمه وبالذات في الاتحاد السوفيتي السابق كان بمثابة اكتمال للنظرية ليحدث نوع من التكلس الذي كان عامِلًا حاسِمًا في مسار الوقوع بالشَرَك الذي نَصَبَهُ الداهية الأمريكي “روبرت ماكنمارا” صاحب نظرية الإنهاك التي قام بموجبها حلف وارسو بإهدار موارده في سباقٍ للتسلح لأجل معركةٍ لن تقع فلم يتبق من تلك الموارد ما يفي بالإنفاق على حلم الرفاه الاشتراكي.

من ناحية أخرى انتهزت أمريكا وحلفاؤها حالة السيولة تلك لتفرض سيطرتها الفكرية وآليات عمل نموذجها الاقتصادي على العالم مدعومة بقوة الناتو العسكرية الهائلة، فوقعت هي الأخرى في ذات الخطأ المنهجي “الفكر الذي يُنتج الواقع” لا العكس، وحين ظهرت علي السطح أزماتها الكامنة بسبب هشاشة الأسواق وسيطرة النمط المالي لا الرأسمالي حيث المال الذي يلد مالًا دون قيمة مضافة حقيقية وما ارتبط بذلك من أعمال غير مشروعة عابرة للحدود تراكمت فيها الثروات بمراكز كالباهاماز وجزر العذراء وليختنشتاين، راحت تُصَدِر تلك الأزمات لمجتمعات أخرى بمنتهى الوحشية التى تخلت فيها -بموجب انفرادها بالعالم- عن قِيَّمٍ كانت تروج لها بشأن الديمقراطية والحريات لتصبح تلك الوحشية بمرور الزمن وبمقتضيات العولمة جزءًا من تركيبتها البنيوية التي لا يمكن لها أن تحقق أهدافها من دونها. ارتبطت الوحشية إذن بالنموذج القيمي الذي قامت أمريكا وحلفاؤها بتسويقه بعد انهيار الجدار والذي مع سيادته (النموذج) على العالم ظل التناقض الأساسي به يتفاعل ليتبدى مُشتَعِلًا في أوكرانيا 2022.

للحديث بقية إن كان في العمر بقية.