يُعيد الغزو الروسي لأوكرانيا سيرة انتهت دوليًا قبل ما يزيد عن ثلاثين عامًا. منذ حاولت إحدى الدول غزو دولة أخرى معترف بها دوليًا بشكل مباشر. كان ذلك عندما غزا الرئيس العراقي صدام حسين الكويت في عام 1990. استغرق بوتين وقتًا طويلًا لتنفيذ نية كان قد أعلنها مسبقًا. عندما قال لنظيره الأمريكي جورج بوش في وقت مبكر من عام 2008 إن أوكرانيا ا-لجمهورية السوفيتية السابقة- “ليست حتى دولة”.

وفي خطاب ألقاه في 21 فبراير/شباط الماضي. أوضح بوتين أن “أوكرانيا الحديثة أنشأتها روسيا بالكامل وكاملها”. بعد أيام، أصدر أمرًا للقوات الروسية بغزو أوكرانيا. وبينما كانت الدبابات الروسية تتدفق عبر الحدود الأوكرانية. صُدمت أوروبا من فكرة تحطيم “الحدود”، والتي كانت مقدسة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

ما جعل الغزو الروسي صادمًا للغاية هو “طبيعته التي عفا عليها الزمن”. كما تقول تانيشا فزال، أستاذة العلوم السياسية بجامعة مينيسوتا. والتي أشارت في مقالها التحليلي في Foreign affairs. إلى أنه في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حاولت الدول بشكل عام مراعاة قدسية الحدود، أو على الأقل الحفاظ على مظهرها.

هذه القاعدة التي استمرت لأكثر من سبعة عقود في أوروبا تم اختبارها في غزو الأراضي بأكثر الطرق تهديدًا. والتي يلفت نجاح روسيا فيها وإعادة إدماج أوكرانيا في القوة العظمى السابقة. إلى احتمالية استخدام باقي الدول القوة بشكل متكرر لاختراق الحدود. تقول فزال: قد تندلع الحروب، وقد يتم إعادة الإمبراطوريات السابقة. وقد يتم دفع المزيد من الدول إلى حافة الانقراض.

اقرأ أيضا: روسيا وتفكيك الشكل القديم للعولمة

موت الدولة

في كتابها “موت الدولة: سياسة وجغرافيا الفتح والاحتلال والضم”. تشير فزال إلى أن هذه الظاهرة تعني فقدان الدولة الرسمي للسيطرة على السياسة الخارجية لدولة أخرى. بعبارة أخرى، عندما تعترف دولة ما بأنها لم تعد قادرة على التصرف بشكل مستقل على المسرح العالمي، فإنها تتوقف فعليًا عن أن تكون سلطتها الخاصة.

في بداية عصر الدول الحديثة، كان هناك سبب واحد لوفاة الدولة “هو صدمات القوة الغاشمة”. منذ عام 1816 وحتى عام 1945، اختفت دولة من خريطة العالم كل ثلاث سنوات في المتوسط. وفي تلك الفترة، عانت ما يقرب من ربع دول العالم من الموت العنيف في وقت أو آخر. حيث تم نهب عواصمهم من قبل جيوش العدو، وتم ضم أراضيهم، ولم يعد بإمكانهم التواجد بشكل مستقل على المسرح العالمي.

بالعودة إلى ما هو أقدم من تلك الفترة. نجد أن هناك بلدانًا شكّل موقعها الجغرافي أسبابًا للموت، حيث تتواجد في مواضع بين الإمبراطوريات المتنافسة. ففي الفترة بين عاميّ 1772 إلى 1795، تم تقسيم بولندا من قِبل النمسا وبروسيا وروسيا. اختفت بولندا تمامًا من خريطة أوروبا لأكثر من قرن. كذلك، عانت باراجواي من نفس المصير في عام 1870 عندما خسرت حربًا ضد الأرجنتين والبرازيل. وفي أوائل القرن العشرين، ضمت اليابان كوريا بعد سلسلة من حروب شبه الجزيرة مع الصين وروسيا.

كان الافتقار إلى العلاقات الدبلوماسية القوية مع القوى الاستعمارية نذير خطر آخر للدول الضعيفة. حيث لم تكن العلاقات التجارية كافية. في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كانت الدول الأفريقية والآسيوية -التي أبرمت صفقات تجارية مع قوى إمبريالية مثل فرنسا والمملكة المتحدة- أكثر عرضة للوفاة من دول أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. التي استضافت علاقات أقوى وأكثر رسمية. مثلما وقعت بريطانيا معاهدات مع دول الهند ما قبل الاستعمار من السند إلى ناجبور إلى البنجاب. والتي اعتبرها العديد من القادة الهنود على أنها اعتراف بالدولة. لكن، لم يتخذ البريطانيون الخطوة التالية المتمثلة في إنشاء بعثات دبلوماسية في هذه الدول. وهو -غالبًا- ما كان مقدمة للغزو.

معايير القوى العظمى

في أوائل القرن العشرين، ظهر الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون كمؤيد للسلامة الإقليمية. صاغ النقاط الـ 14 -والتي تم الكشف عنها مع قرب انتهاء الحرب العالمية الأولى- بهدف حماية الدول التي تنتمي إلى عصبة الأمم. اعتقد ويلسون أن هذه النقاط يمكن أن تقدم “ضمانات متبادلة للاستقلال السياسي والسلامة الإقليمية للدول الكبرى والصغيرة على حد سواء.

لكن، بدا أن التزام ويلسون بتقرير المصير كان مقصوراً على الدول الأوروبية. حيث فضّل استقلال البولنديين، لكنه لم يستجب لنداءات الدعم من المصريين والهنود. علاوة على ذلك، أصبح دفاعه عن وحدة الأراضي أسهل من حقيقة أنه بحلول الوقت الذي أصبح فيه ويلسون رئيسًا، كانت الولايات المتحدة قد أكملت غزواتها الإقليمية. بما في ذلك زحفها غربًا والاستيلاء على أراضي الأمريكيين الأصليين.

واصل خلفاء ويلسون تقليد معارضة الاستيلاء على الأراضي. في عام 1935. أعرب الرئيس فرانكلين روزفلت عن معارضته الشديدة لاستيلاء إيطاليا على إثيوبيا. وكان على استعداد لتأجيل التحالف مع الاتحاد السوفيتي في بداية الحرب العالمية الثانية. لأن موسكو طالبت بأن يتم الاعتراف بقيامها بضم دول البلطيق. في الحقيقة، لم يكن التزام ويلسون أو روزفلت بالمعايير مطلقًا. فقد كان روزفلت مستعدًا للاعتراف بغزو ألمانيا للنمسا، إذا كان ذلك سيحد من الحرب في أوروبا.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية لم تنقرض ممارسة الغزو الإقليمي تمامًا. فقد استولت شمال فيتنام على الجنوب عام 1975. ما عُرف بـ “سقوط سايجون”. واحتلت إسرائيل أجزاء من أراضي الدول العربية المجاورة في 1967. وحاولت الأرجنتين للسيطرة على جزر فوكلاند.  ولكن -بشكل عام- تدخلت الدول في دول أخرى دون محاولة إعادة ترسيم حدودها. فعندما غزا الاتحاد السوفيتي المجر في عام 1956. كان الهدف هو منع الدولة الواقعة في أوروبا الشرقية من مغادرة حلف وارسو. عندها نصّب الكرملين نظامًا جديدًا أكثر ولاءً في بودابست، لكنهم لم يطالبوا بالأراضي المجرية. بالمثل، عندما غزت فيتنام كمبوديا في عام 1978. قامت بتشكيل حكومة موالية.

اقرأ أيضا: دبي وإسطنبول والقدس: قمة غير مسبوقة في إسرائيل.. وقضية فلسطين هي الضحية

لماذا التراجع المفاجئ في الغزو الإقليمي بعد الحرب العالمية الثانية؟

يمكن العثور على الجواب في قوة جبارة في العلاقات الدولية. هي “المعايير”. كما حدد عالما السياسة مارثا فينمور وكاثرين سيكينك المصطلح بأنه “معيار السلوك المناسب للفاعلين الذين لديهم هوية معينة”. أدرك القادة الذين طوروا القاعدة ضد الغزو الإقليمي أن معظم النزاعات -بما في ذلك الحرب العالمية الثانية- كانت تدور حول الأرض. لذلك كان وضع معيار ضد استيلاء دولة ما على أراضي دولة أخرى بالقوة جزءًا من مشروع أوسع لتعزيز السلام.

من خلال المساعدة في تكريس هذه القاعدة في ميثاق الأمم المتحدة. كانت الولايات المتحدة مصممة على إلزام الجميع بعد أن خرجت من الحرب أقوى بكثير من حلفائها. نظرت الولايات المتحدة إلى فرض القاعدة ضد الغزو الإقليمي كعنصر أساسي في الحفاظ على الاستقرار العالمي. وقدمت الدول المستقلة حديثًا التزامات مماثلة في الوثائق التأسيسية للمنظمات الإقليمية. مثل جامعة الدول العربية، ومنظمة الوحدة الأفريقية..

تلتزم الدول والقادة بالمعايير لأسباب مختلفة. في حين أن بعض المعايير ترتكز على مخاوف إنسانية، فإن القاعدة ضد الغزو لها جذور استراتيجية أكثر وذات مصالح ذاتية. تحترم بعض الدول القاعدة لأنه ليس لديها طموحات إقليمية. استوعبها آخرون بعمق لدرجة أن انتهاكها أصبح أمرًا لا يمكن تصوره. بعض الدول -حتى القوية- تلتزم لأنهم يعرفون أن النزاعات الإقليمية كانت سببًا رئيسيًا للحروب. ويرون أن استقرار النظام الدولي في مصلحتهم. بينما لا يزال آخرون يتبعونها خوفًا من العقاب إذا خالفوه.

عواقب غير مقصودة

ليس من قبيل الصدفة ظهور قاعدة مناهضة الغزو الإقليمي بعد الحرب العالمية الثانية. إن أهوال هذا الصراع -إلى جانب بزوغ العصر النووي- حفزت القوى العظمى على تجنب الحروب في المستقبل. كما سمح عصر القطبية الثنائية -بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي- بتغيير النظام والحفاظ على الحدود الدولية. أيضًا، قللت العولمة من الفوائد الاقتصادية للغزو الإقليمي. فزيادة حركة التجارة تعني أن البلدان يمكنها الوصول إلى موارد الدول الأخرى دون اللجوء إلى القوة.

لم تكن الحدود آمنة فحسب. بل أصبحت الدولة نفسها سلعة ذات قيمة متزايدة. يرجع ذلك جزئيًا إلى أن قادة ما بعد الحرب -في البلدان المستقلة حديثًا- يمكن أن يكونوا واثقين من أن القاعدة المناهضة للغزو الإقليمي ستستمر. وأن دولهم الوليدة ستكون آمنة. لكن مواطني تلك الدول الجديدة -التي يقع العديد منها في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي- هم بالتحديد هم الأكثر قلقًا اليوم بشأن مستقبل بلدانهم.

رغم جميع مزاياها، كان للقاعدة المناهضة للغزو الإقليمي عواقب غير مقصودة. الأولى تصلبت الحدود بين الدول بطرق تخلق ظروفًا مهيأة لفشل الدولة وانهيارها. وكما أوضح الخبير السياسي بواز أتزيلي، فإن “الثبات على الحدود حرّر قادة الدول الضعيفة من الاضطرار إلى توجيه انتباههم لحماية حدودهم ضد الافتراس الخارجي”.  مثلما تمكن دكتاتور زائير، موبوتو سيسي سيكو، من تركيز جهوده على استخراج الموارد لتحقيق مكاسب شخصية -جزئيًا- لأنه لم يكن بحاجة إلى جيش قوي للدفاع عن حدود بلاده.

وكما أوضحت عالمة الاجتماع آن هيروناكا في كتابها “حروب لا تنتهي”. فإن القاعدة المناهضة للغزو الإقليمي ساهمت أيضًا في نمو “الحروب التي لا تنتهي أبدًا”. فبدلاً من تسوية الخلافات حول السيطرة السياسية من خلال محاولة الاستيلاء على الأراضي. تدخل القادة الانتهازيون في الحروب الأهلية في الدول الضعيفة لإطالة أمد الصراع وإضعاف الحكومات غير المستقرة. كما فعلت جنوب إفريقيا في أنجولا في ثمانينيات القرن الماضي.

تصنيف الأخطار

تشير فزال إلى أن الغزو الروسي لأوكرانيا يسلط الضوء على عدم استقرار القاعدة ضد الغزو الإقليمي. كان الغضب العالمي سريعًا وواسع النطاق، مع قلق مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة. من أن هجوم بوتين يمكن أن يقوض استقرار الحدود على الصعيد العالمي.

في الواقع، يعتمد مصير تلك القاعدة جزئيًا الآن على مدى انتهاك بوتين لها في أوكرانيا. إذا انتهى الأمر ببوتين إلى استبدال إدارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وتثبيت نظام دمية في أوكرانيا. فسيكون منخرطًا في تغيير صارخ للنظام، ووجه ضربة قاصمة للشعب الأوكراني. لكنه لن يتحدى القاعدة السائدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. حيث ستكون البلاد تحت السيطرة الروسية غير المباشرة.

بالمثل، إذا حاول بوتين استيعاب شبه جزيرة القرم ودونيتسك ولوهانسك -التي طالما ادعى أنها أراضي روسية- ووافق بقية العالم. فسوف يضعف ذلك، ولكن لن يقلب تمامًا القاعدة التي تحمي وحدة أراضي الدولة، لأن معظم أوكرانيا ستبقى سليمة. تقول الأستاذة بجامعة مينيسوتا: مع ذلك، فإن قبول انتهاك محدود للقاعدة قد يؤدي إلى مزيد من الضرر على المدى الطويل أكثر من رفض انتهاك كبير لها. بعد كل شيء. من المرجح أن رد الغرب -الضعيف نسبيًا- على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 هو ما شجع بوتين على حربه.

تضيف: هناك سبب للخوف من أن طموحات بوتين تتجاوز هذه الأهداف. كما توحي ملاحظاته التي تشكك في شرعية أوكرانيا كدولة مستقلة. بوتين يبدو مهتمًا بأكثر من مجرد تكليف صديق له بمسؤولية جمهورية سوفييتية سابقة أو اقتطاع أجزاء من البلاد. ربما يفكر في إعادة رسم خريطة أوروبا للعودة إلى روسيا الإمبراطورية. إذا استولت روسيا على أوكرانيا بأكملها، إذا ذهب إلى هذا الحد. فإن مصير القاعدة سيعتمد إلى حد كبير على رد فعل بقية العالم.

اقرأ أيضا: التهديدات الإلكترونية والنووية.. مزيج يهدد العالم في حرب أوكرانيا

في مواجهة الانقراض

تبدو ردود الأفعال الدولية المتهالكة في مثال آخر تابع لروسيا. ففي عام 2013، انتهك الرئيس السوري بشار الأسد بوضوح القانون الدولي وحظر استخدام الأسلحة الكيميائية. عندما أطلق صواريخ مليئة بغاز السارين على ضواحي دمشق. على الرغم من أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما قد أعلن أن استخدام الأسلحة الكيميائية هو “خط أحمر”. إلا أن الرد على هذا الانتهاك كان “فاترًا”، لدرجة أنه يمكن السؤال عما إذا كان تحريم الأسلحة الكيميائية لا يزال قائمًا.

لم يتكاتف المجتمع الدولي لصد التوغل الروسي بالطريقة التي قلب بها التحالف العالمي -بقيادة الولايات المتحدة- محاولة العراق ضم الكويت. هذه الخطوة لم تعيد استقلال الكويت فحسب، بل عززت أيضًا رفض فكرة الغزو. مع الوضع في الاعتبار أن روسيا -بالطبع- أقوى بكثير من العراق في أي وقت مضى، وتمتلك أسلحة نووية فعالة. لكن، تشير الكثير من استجابة العالم للغزو الروسي إلى أن الدول متحدة إلى حد كبير في تصميمها على حماية قاعدة عدم الغزو. إن العقوبات غير المسبوقة على روسيا، إلى جانب التبرعات بالمساعدات الإنسانية والأسلحة لأوكرانيا. تمارس ضغوطًا على بوتين. بينما تقدم الإغاثة -المحدودة- إلى زيلينسكي.

تشير أستاذة العلوم السياسية إلى أنه يجب على المجتمع الدولي مواصلة الضغط على روسيا. حتى لو كان هدف بوتين هو ضم شبه جزيرة القرم ودونيتسك ولوهانسك فقط. فلا ينبغي رفع العقوبات المفروضة على روسيا بالكامل، حتى لو لم يعترف بوتين بحدود أوكرانيا قبل عام 2014. ويجب على القانونيين الدوليين أن يأخذوا قضايا أوكرانيا المختلفة ضد روسيا على محمل الجد. مع الوضع في الاعتبار أن روسيا -بصفتها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن- يمكنها استخدام حق النقض “الفيتو” ضد إحالة جريمة العدوان إلى المحكمة الجنائية الدولية.

تضيف: من الصعب الحفاظ على الأعراف عندما تكون القوى العظمى عازمة على كسرها. إذا فشل المجتمع العالمي. فإن الدول المتاخمة للقوى العظمى ستواجه أكبر مخاطر الانقراض.