تتسابق دول العالم في استضافة المؤثرين/الإنفلونسرز والمشاهير للترويج لمعالمها ومزاراتها وتاريخها إلا في مصر. نتسابق في تخشين القوة الناعمة التي نملكها.

وقصتنا اليوم شغلت الرأي العام في مصر والعالم. لأنها ببساطة تخص اليوتيوبر ويل سونبوشنر -مدون فيديو يتابعه 8 ملايين على يوتيوب و2 مليون على فيسبوك. فهو من أشهر صانعي محتوى “الستريت فوود” أو “أطعمة الشوارع” عبر المنصتين.

وينشر اليوتيوبر -المعروف باسم سوني- محتواه عبر قناة Best Ever Food Review Show المتخصصة في استكشاف الأطعمة حول العالم.

وفي رحلة “سوني” لمصر في يناير الماضي -أي بعد إلغاء الرئيس عبد الفتاح السيسي العمل بقانون الطوارئ بشهرين- صوّر مجموعة فيديوهات وثق بها أيامه في مصر. لكنه في 5 أبريل نشر فيديو قال فيه إن “مصر أسوأ مكان للتصوير في أفريقيا”. فيما حقق الفيديو -الذي يعتبر تقديماً لسلسلته عن أطعمة الشوارع في مصر- أكثر من مليون مشاهدة خلال ساعات من نشره.

قوة ناعمة مجانية

وقد استهل المدوّن الفيديو الذي نشره مع جملته في أبريل الجاري بقوله إنه “لدى وصوله إلى مصر صادرت الشرطة جميع معدات التصوير التي كانت معه”. وإن “السلسلة بأكملها قد صُورت باستخدام هاتف آيفون”.

لعل في القصة مفارقة مبكية مضحكة كالمعتاد. فكيف لواحد من المؤثرين المشاهير يقوم بالترويج لبلد ما ثم يعامل بهذه الطريقة غير المفهومة وغير القانونية في آن.

“سوني” قال إنه تم منعه من استخدام الكاميرات التي جلبها. وأنه تم استجوابه أمنيا لمدة أربع ساعات. رغم إشارته مرارا إلى حصوله على إذن تصوير من الهيئة العامة للاستعلامات.

تصريح تصوير لسوني في مصر
تصريح تصوير لسوني في مصر

وحكى اليوتيوبر الشهير تجربته مع الشرطة المصرية. وقال إنها لم تنته عند مصادرة معداته. ففي أثناء استخدامه الهاتف لتصوير برنامجه أوقفته الشرطة وطلبت استعراض المقاطع التي صوّرها. بعدها طُلب منه حذف ما صوّره، بدعوى أن الصور “غير جميلة ولا ترقى للمعايير”. فيما سخر الرجل بقوله في الفيديو: “متى أصبحت عناصر الشرطة مخرجي أفلام وثائقية؟!”. وأكد أنه لا يعلم سببا حقيقيا وراء مصادرة معداته ومنعه من التصوير.

التصرف الأمني الذي تعرض له المدون الشهير خلال زيارته مصر يجب أن يوضع في مكانه المناسب على مستوى القانون وإجراءاته. وعلى مستوى الفائدة التي جنيناها من ورائه. فبدلا من أن يكون هذا اليوتيوبر المؤثر وسيلة دعاية مجانية لمصر في الخارج صار سلاحا موجها إلى سمعتنا وسياحتنا وتاريخنا وحضارتنا الإنسانية.

لافتة “ممنوع التصوير”

إن تداول المعلومات بحرية يعد عاملاً رئيسيًا في تحقيق الشفافية ومكافحة الفساد. كما أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يؤكد حرية تداول المعلومات. وينص على “أن حق التعبير عن الرأي يشمل التماس المعلومات والأفكار وتلقيها والحق بنقل المعلومات إلى الآخرين بأي وسيلة ممكنة”. الأمر الذي كفله الدستور المصري أيضًا بالنص على حق التعبير عن الرأي بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غيرها من الوسائل.

 

هكذا تشير ورقة سياسات أصدرها مركز التنمية والدعم والإعلام “دام” حول طبيعة العلاقة بين الكاميرا والسياسة في مصر أعدها الباحث ماريو ميخائيل. الذي يقول -في ورقته- إن القيود على التصوير في مصر خلال السنوات القليلة الماضية لم تقتصر على المؤسسات المغلقة. بل امتدت إلى الأماكن العامة والشوارع.

ويعرض لأمثلة لهذه القيود التي فرضتها بعض الوقائع. ومنها جريمة القتل المروعة التي شهدتها مدينة الإسماعيلية نوفمبر الماضي. عندما قتل رجل آخر وفصل رأسه عن جسده في وضح النهار في شارع مكتظ بالمارة.

ومع انتشار مقاطع الفيديو والصور الموثقة لهذه الجريمة، اقترح بعض النواب تغليظ عقوبة تصوير ونشر الصور أو مقاطع الفيديو التي تعرض لجرائم.

أيضًا بين الحين والآخر يتعرض بعض المصورين الفوتوغرافيين إلى الاستيقاف الأمني. بسبب عدم استخراج تصاريح تصوير في الشوارع والميادين الرئيسية على سبيل المثال.

أشار في الفيديو إلى أن توقيت وصوله إلى مصر، في منتصف يناير كانون الثاني الماضي، وتاريخ انتهاء تصريح التصوير الممنوح له يوم 25 يناير والذي يتزامن مع ذكرى ثورة 2011، يشيران إلى توجس الشرطة المصرية من أن يشهد قيام مظاهرات مناهضة للنظام قد يقوم بتصوير وقائعها ونشرها.

وانصبت تعليقات مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي فيما يتعلق بالتعامل المريب مع اليوتيوبر العالمي حول خسارة مصر كل جهد مبذول لتنشيط السياحة والتي تدفع فيها الدولة ملايين الدولارات.

على جانب آخر تحسر كثيرون على المكاسب التي لم تأت من وراء الدعاية التي كمان يمكن حصد أثرها الإيجابي لو تم التعامل اللائق مع هذا الزائر المؤثر.

مصروفات تضيع هباء

موكب المومياوات
موكب المومياوات

وزير السياحة الدكتوبر خالد العناني كشف في فبراير من العام الماضي أمام كلمته خلال اجتماع لجنة السياحة والطيران بمجلس النواب عن الإعداد لحملة ترويجية دولية للسياحة المصرية بتكلفة 30 مليون دولار. وبالتوازي كانت مصر قد تبنت مؤخرا حملات لترويج وجهاتها الأثرية في العالم. مثل افتتاح طريق الكباش وموكب المومياوات والمتحف القومي للحضارة المصرية. كما أن مواقع سياحية وإعلامية معروفة قد نصحت مؤخرا بزيارة المواقع الأثرية المصرية.

ومن بين تلك المواقع صحيفتا “الإندبندنت” و”ديلى ميل” البريطانيتين ومجلة “تايم” الأمريكية وموقع TripAdvisor للسفر والسياحة.

وكانت مصر قد ألغت العمل بقانون الطوارئ حين كتب الرئيسي السيسي على صفحته في أكتوبر 2021. وأعلن عبر حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي إلغاء مد حالة الطوارئ لأن مصر “باتت واحة للأمن والاستقرار في المنطقة”. مؤكداً أن الشعب المصري هو الصانع الحقيقي لذلك القرار على مدار السنوات الماضية بمشاركته في جهود التنمية.

وقد كان قانون الطوارئ يعطي صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية والحكومة. إذ يسمح باتخاذ إجراءات استثنائية بموجبه. من بينها وضع قيود على حرية الأشخاص في التجمع والانتقال والمرور في أماكن أو أوقات معينة. فضلا عن مراقبة الرسائل أياً كان نوعها ومراقبة الصحف والنشرات والمطبوعات والمحررات والرسوم وكل وسائل التعبير والدعاية والإعلان قبل نشرها وضبطها ومصادرتها وإغلاق أماكن طباعتها.

إن إجراء أمنيا واحدا يتم دون وعي بتبعاته قد يكلف الدولة المصرية خطوات إلى الوراء بدلا من تحقيقها قفزات للأمام لمجرد تغول الهواجس الأمنية في مقابل حرية الأفراد وحقوقهم التي تبدو عادية ولا تضر بأحد.

ورغم اختيار موقع The Travel -أحد البوابات الإلكترونية السياحية الشهيرة- المقصد السياحي المصرى ضمن قائمة “أفضل عشر دول تمتلك أروع أماكن سياحية” لكن تقريرا لمؤسسة رويترز أظهر أن العاصمة المصرية هي أخطر مدينة على النساء وأن التهديدات أصبحت أكبر منذ ثورة 2011.

الجمع بين المتناقضات يُحدث المفارقات التي غالبا ما تبقينا “محلك سر”. فمن ناحية نملك كنوزا نحملها على كواهلنا. فيما لا نقدر قيمتها ولا الكيفية المثلى للتعامل معها فتضيع هباء منثورا.