في مايو من عام 1966 تم القبض على مجموعة من الشباب بتهمة قلب نظام الحكم. وتم حبسهم في سجن القلعة لمدة ثمانية أشهر. واعترف أغلب المقبوض عليهم بتلك التهمة. إلا أن أحدهم أصر على عدم الكلام إلا في وجود سامي شرف -مدير مكتب رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر.

عندما حضر “شرف” إلى سجن القلعة تبين أن المجموعة المقبوض عليها ما هي إلا جزء من “التنظيم الطليعي”. وهو مجموعة سياسية قام بتأسيسها الرئيس عبد الناصر بنفسه! وقد تم تكوين هذا التنظيم من أعضاء “تنظيم القوميين العرب” ليكون العمود الفقري للاتحاد الاشتراكي “التنظيم السياسي الحاكم في مصر وقتها”. وكان عبد الناصر قد تعهد بقيادة التنظيم بنفسه. وفق حديثه مع أعضائه عند تكوينه. فـ”كيف تم القبض على تنظيم يقوده رئيس الجمهورية؟”.

بعد تكوين التنظيم بقليل وصل الخبر إلى علي صبري -أمين عام الاتحاد الاشتراكي- وغضب لتجاهله بأمر كهذا. فأوكل إليه عبد الناصر مهمة تكوين مجموعة أخرى. وبعد أن علم وزير الداخلية شعراوي جمعة بالأمر كون هو الآخر مجموعة ثالثة. لتبدأ الصراعات بين القيادات والتنظيمات ويصل الأمر إلى الحادثة سابقة الذكر بالقبض على أعضاء التنظيم الطليعي التابع لرئيس الجمهورية.

ووفق شهادة الدكتور يسري هاشم فإن زميله في التنظيم “سمير حمزة” كان يعطي الضباط أي أسماء تخطر على باله لإيقاف الضرب والتعذيب حتى أسماء الخدم والبوابين وبائع اللبن. وكلهم قد تم القبض عليهم تحت نفس الخلية والقضية والتهم.

ربما يتجادل الكثيرون حول عصر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلا أن هناك نقطتين صعب التملص منهما. وهما أنه كان أكثر فترات العصر الحديث عدالة اجتماعية. والتوسع الكبير للممارسات القمعية من جانب السلطة دون حساب ولا عقاب أو بشكل أدق عدم تطوير النظام الشرطي والأمني في عهده رغم تطور كثير من نواحي الحياة. حيث إن كثيرا من تلك الممارسات بل والقوانين قد تم تدشينه منذ عهد الوالي محمد علي باشا. أي قبل ثورة يوليو بقرابة قرن ونصف. وهو ما يمكن قراءته بوضوح من خلال البحث الهام “مجتمع الاشتباه الدائم” للباحث علي الرجال. وبعد مرور الزمن تُنسى العدالة ويظل القمع في الأذهان خاصة أنه كان أحد أهم أسباب انتهاء تلك العدالة والطفرة الاقتصادية.

إلا أن المحزن حقاً أن هذه الممارسات والأداء الأمني القمعي يظل موجوداً حتى يومنا هذا. وبدلاً من تطوير وتحديث الأداء الأمني والشرطي مواكبة للتطور العالمي في هذا المجال بعيداً عن القمع والعنف والأذى البدني. يتم استخدام التطور التكنولوجي في تطوير آليات القمع نفسها. والذي هو كفيل بالقضاء على أي خطوات في الإصلاح سواء أكانت اجتماعية أم اقتصادية.

ففي ظل الأزمة الاقتصادية التي تعانيها مصر الآن على سبيل المثال. وفي ظل سعي النظام لجذب الأموال الأجنبية بأي طريقة ممكنة (وعلى رأسها السياحة). لا يمر شهر دون فضيحة عالمية تضرب ذلك التوجه في مقتل. كان آخرها قصة مدون الطعام الشهير ويل سونبوشنر الذي نشر تجربته عن مصر تحت عنوان “”مصر أسوأ مكان للتصوير في أفريقيا“. والتي حازت -حتى كتابة المقال- على مشاهدة 5 ملايين شخص حول العالم خلال ساعات. وذلك بعد المعاملة السيئة التي تلقاها من أفراد الأمن منذ لحظة وصوله الأولى بداية من مصادرة جميع معدات التصوير واستجوابه لمدة 4 ساعات. ثم منعه من التصوير ومن استخدام تلك المعدات رغم من حصوله على تصريح بذلك.

ويحكي المدون المعروف باسم “سوني” كيف أن تجربته مع الشرطة المصرية لم تنته عند مصادرة معداته وحسب. فحتى أثناء استخدامه الهاتف لتصوير برنامجه أوقفته الشرطة وطلبت استعراض المقاطع التي صورها. وبعدها طُلب منه حذف ما صوره بدعوى أن الصور “غير جميلة ولا ترقى للمعايير”. وهو ما علق عليه قائلاً “متى أصبحت عناصر الشرطة مخرجي أفلام وثائقية؟”.

الغريب والمحزن أن قناة هذا المدون تمتلئ بعشرات المقاطع المصورة من كل نواحي العالم. من المكسيك وكوبا ومن آسيا وأمريكا اللاتينية ومن داخل أفريقيا. في زيمبابوي ومدغشقر وناميبيا ونيجيريا ولم يحدث معه ذلك إلا في مصر.

قصة هذا المدون هي نفس قصة السائح الروسي “أرسيني كوتوف” الذي تم الاعتداء عليه بشدة واحتجازه قبل سوني بأيام وفق ما نشرته السفارة الروسية. وكذلك السائح “Alex Chacon” الذي تم الاعتداء والقبض عليه قبلهما. وغيرها مئات من الحالات المعروفة.

وبعيداً عن التبرير وأوهام المؤامرات فليس من الصعب معرفة السر وراء هذا الأداء من جانب المنوط بهم تأمين الناس وليس إخافتهم. وهو اعتياد أفراد تلك الأجهزة على استباحة الناس وفي نفس الوقت اطمئنانهم لعدم تعرضهم للحساب أو العقاب. وهو ما خلق حالة شيوع للقمع والرعب والخوف. دون أدنى محاولة لتقويم هؤلاء أو ردعهم على الرغم من التجارب السابقة للأنظمة التي حاولت استخدام هذا الرعب لتثبيت أركانها فكان هو السبب المباشر في فشلها وهدمها.

في عام 2019 قام المذيع عمرو أديب بعرض ما قال إنه “اعترافات” لبعض الشباب غير المصريين الذين تم القبض عليهم بسبب “تصوير ارتكازات أمنية ونقل المعلومات عن مصر والتحريض ضدها” وفق وصف المذيع. وبعد عدة أيام من إذاعة هذه الحلقة تم الإفراج عن الشباب المحتجز وأصدرت سفارات بلدانهم بيانات تنفي تماما ما قاله “أديب”. ومر الأمر مرور الكرام دون أي محاسبة لمن قام بإجبار هؤلاء على الاعتراف وتصويرهم ولا محاسبة هذا الإعلامي أو من أمره بتلك الجريمة.

ووفق ما يرويه بحث “مجتمع الاشتباه في مصر” فإنه خلال العقود السابقة تحولت الغالبية العُظمى من المصريين إلى مشتبه بهم جنائياً قبل سياسياً. لتتحول الاستباحة للأجساد والحيوات والأعمار عرفا داخل أجهزة الأمن التي تحولت إلى أجهزة رعب وخوف دائم. وأصبح القمع والضرب والتعذيب (وأحيانا القتل) حقا من حقوق تلك الأجهزة غير قابل للنقاش وغير قابل للمحاسبة أو العقاب (إلا في حالات استثنائية جداً). حتى صارت مصر كلها مكلبشة بكلبشات حديدية من أيديها وأرجلها.

هل قرأت يوماً عن محاكمة ضابط لاحتجاز مواطن دون حق؟ أو بسبب الاعتداء على شخص في الشارع أو داخل كمين. أو احتجاز أحد الأشخاص للضغط على أحد أقاربه لتسليم نفسه؟. أو لاقتحام حرمة بيت دون إذن قضائي؟ بعبارة مختصرة: متى كانت آخر مرة سمعت فيها عن تطبيق القانون في مصر على الأجهزة المكلفة بتطبيقه؟

هذا الشيوع والتطبيع مع الظلم والانتهاك جعل من مصر بؤرة عالمية للخوف والأذى. دون أدنى محاولة لإصلاحها من النظام الحالي. على الرغم من أن هذا كان أهم أسباب خروج الملايين ضد حسني مبارك والتوجه مباشرة نحو مراكز الشرطة للانتقام. وعلى الرغم من أن هذه اللحظة يوليها نظام السيسي كل تركيزه فإنه يكرر ذلك وبتوسع أكثر. خصوصا مع ملف الاختفاء القسري الذي كان آخر ضحاياه الباحث أيمن هدهود. وبعيداً عن التدليس وحديث المؤامرات فإن هذا الفعل لم يكن جديداً. وإنما تكرر مراراً مع تفشي الظلم والقمع منذ قرابة قرن ونصف في مصر وخارجها.

وكذلك أصبحت هذه الممارسات سبباً رئيسياً في استحالة إحداث أي تنمية اقتصادية. فببساطة شديدة يمكن لأي فرد من أفراد هذه المنظومة هدم توجه كامل تعمل عليه الدولة بكامل مؤسساتها كما حدث عقب حفلات وعروض مواكب المومياوات وطريق الكباش. الذي أنفق عليهم عشرات الملايين لتنشيط السياحة وتسبب فرد واحد بتوصيل رسالة إلى 5 ملايين شخص حول العالم مفادها “لا تذهبوا أبداً إلى ذلك البلد فخصوصيتكم وأمنكم بل وحياتكم ستكون في خطر”. أو إضاعة مليارات على مصر كانت ستجنيها من تصوير أحد أشهر مسلسلات العالم الذي لم يستطع مخرجه المصري الحصول على تصاريح التصوير. في الوقت الذي نحن في أحوج ما يكون لمثل هذا المبلغ الضخم.

ليس غريباً أن أكثر بلاد العالم جذباً للسياحة ورفاهية اقتصادية وأمنا وأمانا هي نفسها أكثر البلاد احتراماً لقدسية الإنسان: حياته وجسده وخصوصيته وحقوقه وحرياته. وذلك ببساطة لأن هذه الدول تستخدم التطور العلمي والمعرفي في تطوير وسائل الأمن والاستخبارات وجمع المعلومات بشكل دقيق بعيدا عن الأذى. وكذلك في الحفاظ على أفراد الشعب من النزعات المؤذية المصاحبة للسلطة والنفوذ الذي يتمتع به رجال الأجهزة الأمنية والسيادية مثل سوء استخدام السلطة والهيمنة والتسلط والعنف والسطوة.

وذلك على العكس تماما مما يحدث في مصر التي صار أهلها يظنون بأن هذا الظلم الممنهج وإهدار الكرامة أمر من عند الله مثل الحياة والموت. ويظن كل فرد في المنظومة الأمنية بأن كل كاميرا وكل جهاز وكل تطور هو مؤامرة وكارثة -على الرغم من أن الأجهزة التي تستخدم في مثل تلك الأمور أصبحت في الفضاء الخارجي أو بأشكال مختلفة تماما عما يصادر من أيدي الناس. فيصنع ما يحلو له بتلك الآلات وبأصحابها منتشياً بسلطته. كمثل ذلك الذي أجبر المدون على حذف كل ما صوره وهو لا يعلم أنه يمكن استرجاعها بضغطة واحدة من سلة المحذوفات.

وربما لو كان عبد الناصر حاسب من أجبر أولئك الشباب على الاعتراف بجريمة لم يقترفوها ما وصلنا إلى قتل خالد سعيد في الشارع أمام المارة. ولا تعكير صفو العشرات من السياح ولا إشاعة الخوف والرعب في كل أنحاء مصر اليوم.

المصادر:

11 يوماً مات بعدها جمال عبد الناصر، د. يسري هاشم.

مجتمع الاشتباه الدائم، علي الرجال.