في عام 1974 سافر الرئيس الأمريكي ريتشارد نيسكون إلى المملكة العربية السعودية. كانت الزيارة من أجل إقناعها بتوحيد بيع منظمة أوبك للنفط بالدولار. ذلك إنقاذًا للعُملة الأمريكية من التدهور بعد فك الارتباط بالذهب. وقد شمل الاتفاق -الذي كانت بنوده سرية آنذاك- إعادة استثمار المملكة عوائدها النفطية في الاقتصاد الأمريكي. ذلك مقابل ضمانات وحماية أمنية. وهو اتفاق أعلن ميلاد نظام “البترودولار”، وشراكة أمنية وعلاقات متينة بين الولايات المتحدة والدول الخليجية النفطية. لكن بعد نصف قرن تقريبًا “يبدو أن الولايات المتحدة وأصدقاءها في المنطقة قد وصلوا إلى منعطف لا تتقابل فيه مصالحهم بعده”، بتعبير مجلة “فورين بوليسي“.

تراكمت المشكلات ببطء في علاقة الولايات المتحدة مع حلفائها الخليجيين. لكن مزيج العوامل الإقليمية والدولية والسياسية التي تضافرت معًا في الأشهر الأخيرة كانت السبب وراء التدهور العلني الواضح في العلاقات.

هل تذكرون آخر مرة رفض خلالها زعيم شرق أوسطي الرد على مكالمة هاتفية من رئيس الولايات المتحدة؟ أصبح لدينا واقعتان حديثتان الآن: محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، ومحمد بن زايد الحاكم الفعلي للإمارات. والغزو الروسي لأوكرانيا كان السبب خلف “تسريع عملية الانجراف الجيوسياسي بين المصالح الأمريكية ومصالح شركائها في الخليج”، بتوصيف المركز العربي في واشنطن.

رفضت السعودية زيادة إنتاجها من النفط في “أوبك +” وخاضت مباحثات مع الصين لبيعها النفط مقابل اليوان بدلا من الدولار. بينما انتقد بن سلمان علنًا طريقة تعامل الرئيس الأمريكي جو بايدن معه. أما الإمارات فقد رفضت إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا. كما سافر وزير خارجيتها إلى موسكو. وأيضًا استقبلت رأس النظام السوري، بشار الأسد. وكلها رسائل لا تخطئها العين وتشي بالكثير من التحولات التي جرت في مقادير العلاقات الأمريكية مع حليفين راسخين.

في عام 1974 سافر الرئيس الأمريكي ريتشارد نيسكون إلى المملكة العربية السعودية
في عام 1974 سافر الرئيس الأمريكي ريتشارد نيسكون إلى المملكة العربية السعودية

العلاقات الأمريكية مع الخليج.. كيف وصلنا إلى المنعطف؟

أظهر التدخل العسكري الأمريكي لتحرير الكويت من الغزو العراقي عام 1991 معادلة حماية الخليج. لكنه في الوقت ذاته كان نهاية “صفقات” من هذا النوع بين واشنطن ودول الخليج، وفقا لـ أناسيس كامبانيس مدير برنامج السياسة الدولية في مؤسسة القرن في نيويورك، في تحليله لمجلة “World Politics Review”.

توطدت العلاقات أكثر مع إعلان الولايات المتحدة “الحرب العالمية على الإرهاب”. ورغم دعم الحكام الخليجيين الغزو الأمريكي على العراق عام 2003. إلا أنهم أظهروا لاحقًا غضبهم من إفساح الطريق أمام إيران للتوغل وزيادة النفوذ على أرض جارتهم. ورغبة جورج بوش الابن في نشر الديمقراطية بالشرق الأوسط.

إلى ذلك كان الأمر مجرد قطرات في أول الغيث. غيث انهمر مع قدوم باراك أوباما إلى رأس الإدارة الأمريكية واتخاذه ثلاث قرارات: استراتيجية التوجه نحو آسيا والابتعاد عن الشرق الأوسط، دعم ثورات الربيع العربي، والاتفاق النووي مع إيراني.

ثلاث ضربات هزت الثقة بشكل فادح مع الحلفاء الخليجيين -تحديدًا السعودية والإمارات. إذ رأوا في ذلك خيانة لأنظمتهم وعدم وضع مصالحهم في الحسبان. ما أرسى معادلة دعم الجمهوريين و”التشنج” مع الديمقراطيين.

وفي عام 2016 وصف أوباما بعض الحلفاء أنهم “رُكّاب بالمجان”. ذلك كأول انتقاد من نوعه لرئيس أمريكي. سياسة وللمفارقة اتفق فيها معه خليفته دونالد ترامب الذي طالب الخليج علنًا بالدفع مقابل الخدمات.

الاتفاق النووي.. نقطة مفصلية في العلاقات

ولا تزال النقطة المفصلية في العلاقة هي الاتفاق النووي الإيراني في 2015 وشعور الدولتين بأنه لا يراعي مصالحهما. والآن يبدو أنهما عادا إلى نفس النقطة مع السعي الأمريكي الحثيث  للعودة إلى الاتفاق في أقرب وقت.

لنرجع بالزمن إلى الوراء في أيام إدارة ترامب، ونتذكر القصف الإيراني لمنشآت نفطية سعودية في بقيق وخريص في سبتمبر/أيلول 2019. اختار الرئيس الأمريكي ترامب حينها عدم الرد على تلك الهجمات “ما قوّض أربع عقود من السياسة الأمريكية التي كانت تستهدف الدفاع عن الحقول النفطية في الخليج ضد التهديدات المنبعثة من داخل وخارج المنطقة”، بحسب “فورين بوليسي”.

تشير المجلة إلى أن هذه القضايا جعلت “الرفاق” في واشنطن يتساءلون عما إذا كان شركاء واشنطن في الشرق الأوسط هم شركاء بالفعل أم لا. وفي الوقت ذاته يطرح مسؤولو عواصم الشرق الأوسط نفس التساؤلات حول الولايات المتحدة، وهو موقف يزداد سوءا بسبب الحديث عن “مغادرة المنطقة” والـ”الابتعاد عنها”.

ولكن كلا من السعودية والإمارات لا يملكان شريكا أمنيا غير الولايات المتحدة واستبدالها يحتاج الكثير من الموارد ووقت طويل، وفق رؤية ألكسندرا ستارك، الباحثة في شؤون الشرق الأوسط بمركز “نيو أمريكا” التي تؤكد أن الصين وروسيا ليسا مهيئين  لشراكة أمنية من النوع الذي تبحث عنه ممالك الخليج.

“بعد عقود من تلقي المساعدة العسكرية والأسلحة والتدريب من الولايات المتحدة، وكذلك من فرنسا والمملكة المتحدة، فإن مثل هذا المحور الرئيسي يستلزم تغيير الأنظمة اللوجيستية التي تم إعدادها للحفاظ على المعدات الأمريكية (والفرنسية والبريطانية) والحفاظ عليها وإعادة تدريب الأفراد العسكريين لاستخدام أنظمة مختلفة. كل هذا من شأنه أن يمتص الكثير من الموارد ويتطلب الكثير من الوقت”، تقول ستارك.

اختلاف تفسير الأحداث

يلفت كامبانيس مدير برنامج السياسة الدولية في مؤسسة القرن، إلى أن الكثير من الخلافات الحالية متجذرة بشكل كبير في التفسير المختلف للأحداث نفسها. فبينما يرى الخليجيون أن الولايات المتحدة لا تقدم الضمانات الأمنية الكافية، تعتقد الأخيرة أنها قدمت الكثير بالفعل ومن بينها الأسلحة الأكثر تطورا والتي لا يملكها حلفاء آخرون.

يقول بلال صعب، المسؤول السابق في البنتاجون ومدير برنامج الدفاع والأمن في معهد الشرق الأوسط، إن دول الخليج لا يبدو أنها تدرك تمامًا الأعمال البطيئة للبيروقراطية الأمريكية. وقال: “حتى مع أقرب حلفائنا في الناتو، لا يمكننا على الفور إرسال كبار مبعوثينا ونشر معدات عسكرية لدعمهم. قد تكون توقعات دول الخليج من الولايات المتحدة مرتفعة للغاية، وهو ما يسبب الكثير من خيبة الأمل هذه”.

لكن “المجلس الأطلنطي” يعتقد أن التحول في تركيز الولايات المتحدة ومواردها من الشرق الأوسط إلى المحيطين الهندي والهادئ، إلى جانب الطلب المتزايد على منصات الدفاع الجوي في أجزاء أخرى من العالم، يعني أن الوحدات الاحتياطية قد لا تكون متاحة دائمًا للاستخدام في الخليج.

وقد شهدت المنطقة بالفعل إعادة الانتشارمن العديد من أنظمة الدفاع الجوي الأمريكية البعيدة للصيانة، المتوقع أن تحتاج القيادة الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ إليها. ولطالما أثار هذا مخاوف بين شركاء واشنطن الخليجيين بشأن مدى توفر هذه المنصات في المستقبل.

ليس استرضاء لروسيا

يرى تحليل لمجلة “ناشيونال إنترست” الأمريكية أن المملكة العربية السعودية والإمارات لا يتبنيان مواقفهما الأخيرة من أجل استرضاء روسيا. ولكن استجابةً لمعاملة واشنطن لهما. حيث فشلت في أخذ مصالحهما ومخاوفهما بعين الاعتبار.

“تشير تصرفات السعوديين والإماراتيين إلى أنهم لا يريدون انفصالًا تامًا عن واشنطن، لكنهم يحاولون دفع إدارة بايدن نحو تفضيلاتهم السياسية. وفقًا لذلك، في حين قد يعتقد مسؤولو البيت الأبيض أن التواصل الدبلوماسي الأمريكي يؤدي إلى نتائج. فمن غير المرجح حدوث اختراق ما لم تكن واشنطن مستعدة لتقديم تنازلات معينة”. السعودية والإمارات تريدان “التزامًا أمنيًا مؤسسيًا أكثر”.

على الجانب الآخر، سنجد أن المصالح الأساسية التي كانت تُحرك الولايات المتحدة داخل الشرق الأوسط -مثل التدفق الحر للنفط وتأمين إسرائيل- لم تعد طارئة بالقدر نفسه. و”لا شك أن الهجوم الروسي على أوكرانيا يسلط الضوء على مدى أهمية النفط الشرق أوسطي في الوقت الراهن. فضلًا عن أن التحول للطاقة النظيفة لن يكون بالسلاسة التي تصورها البعض”.

إعادة تشكيل العلاقات

تقول “فورين بوليسي” إنه يمكن بالطبع أن يُعيد المسؤولون في واشنطن وعواصم الشرق الأوسط تشكيل العلاقات القديمة بناءً على مجموعة أهداف جديدة. لكن الأهداف التي تريدها الولايات المتحدة ليست مرغوبةً من أحد مثل مواجهة الصين وروسيا، أو حتى دمج إيران في المنطقة لتحقيق الاستقرار.

“لقد حان الوقت للولايات المتحدة ودول الخليج للتركيز على أخطر القضايا الأمنية المطروحة والقيام أخيرًا بالعمل الجاد لإنشاء نظام متكامل للحماية من الهجمات الإيرانية. ومن شأن أي جهد من هذا النوع أن يعمل أيضًا على ترسيخ الثقة بين دول الخليج، وبين الولايات المتحدة وهي علاقات حاسمة لتأمين الاستقرار على المدى الطويل في المنطقة”، بحسب المجلس الأطلنطي.

يعتمد تأمين تعاون دول الخليج إلى حد كبير على قدرة الولايات المتحدة على إظهار أنها جادة في الدفاع عنهم ضد العدوان الإيراني، بحسب دراسة لمعهد الشرق الأوسط بعنوان “العلاقات الأمريكية الخليجية في مفترق الطرق: حان وقت إعادة الحسابات“. تطالب الدراسة بمزيد من الانخراط من الولايات المتحدة في الشؤون الدفاعية والطاقة وغيرها وتقديم ضمانات أمنية تحميهم لأن “البدائل في صعود”.

سوء التفاهم وانعدام الثقة

الكثير من التباعد بين الولايات المتحدة والخليج نتيجة لأسباب طبيعية. لكن “جزء ليس صغير منه ناتج عن سوء تفاهم وانعدام ثقة متبادلين يبدو أنها نمت على مر السنين”. الولايات المتحدة تنظر اليوم إلى تحدي الصين على أنه التحدي الجيوسياسي الأكثر أهمية.

تشير الدراسة التي قدمها بلال صعب وجيرالد فايرستاين السفير الأمريكي السابق في اليمن وكارين يانج مدير برنامج الاقتصاد والطاقة في معهد الشرق الأوسط إلى أن “إرهاب ينطلق من الشرق الأوسط لا يزال مصدر قلق. لكنه لم يعد يحتل مركز الصدارة في سياسة الولايات المتحدة الأمنية.

الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان بعد حضور دام 20 عامًا، ينظر إليه العديد من الشركاء الإقليميين باعتباره أوضح مظهر من مظاهر رغبة واشنطن في ذلك. ليس فقط في الخليج ولكن من المنطقة بأكملها”.

وهذا “الاختلاف العضوي أو الحتمي هو مصنع الانفصال” الذي ساهم في توتر العلاقات بين الولايات المتحدة ودول الخليج خاصة مؤخرا بعد قرار بايدن برفع جماعة الحوثي من قائمة الإرهاب وعدم تقديم دعم دفاعي سريع ضد الهجمات التي تعرضت لها البلدين.

الطرق لا تتلاقى لكنها لا تتباعد

يقول جورجيو كافييرو الرئيس التنفيذي ومؤسس شركة Gulf State Analytics، وهي شركة استشارية للمخاطر الجيوسياسية مقرها واشنطن، إننا لا نعرف ما إذا كانت المحادثات في فيينا ستؤدي إلى إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة أم لا. لكن على أي حال، ستستمر الولايات المتحدة في اعتبار إيران وأنشطتها الإقليمية تهديدًا كبيرًا لمصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وستواصل النظر إلى السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى على أنها حصن ضد توسع وترسيخ النفوذ الإيراني في العالم العربي. و”أعتقد أن هذا عامل مهم يجب أن نضعه في الاعتبار”.

ويعتقد كافييرو أن الولايات المتحدة تقدر بشدة شراكتها مع الخليج “على الرغم من مصادر الإحباط وخيبة الأمل العميقة”. إذ تعتمد الولايات المتحدة على هذه الدول بعدة طرق مختلفة. “وأعتقد أن إدارة بايدن حريصة على تجنب اتخاذ إجراءات من شأنها أن تثير استعدائها بشكل مفرط”.

“بعد كل شيء، في عام 2020، قامت الإمارات بتطبيع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل عبر اتفاقيات إبراهيم. وبعد أن فعلت الإمارات ذلك، حذت ثلاث دول عربية أخرى حذوها. أبو ظبي لديها الكثير من النفوذ في واشنطن. تعرف القيادة الإماراتية ذلك، وأعتقد أن ذلك سيمكن الإمارات من الإفلات من القيام بعدد من الأشياء التي لا تتوافق بشكل جيد مع واشنطن”، يوضح الخبير في شؤون الشرق الأوسط.

بحسب موقع “ذا إنتربريتر” فإنه ربما الأهم أن قدرة واشنطن على تجميع جبهة موحدة إلى حد كبير من الديمقراطيات الليبرالية الغربية الأخرى لعزل روسيا ستكون بمثابة جرس إنذار للبعض في الشرق الأوسط”. “ففي حين أن الصين قد تكون قوة اقتصادية، فإنها ليست قادرة على عرض نوع بناء التحالف الأمني ​​العالمي الذي تستطيع واشنطن القيام به”.