أثار حادث قتل رجل دين مسيحي مؤخرا تساؤلات حول مدينة الإسكندرية، هذه المدينة التي كانت نموذجا للتنوع والتعايش بين مختلف الجنسيات والأعراق في سلم اجتماعي كان مضرب المثل دوليا، الإسكندرية الآن غير الإسكندرية التي استقرت في المخيلة المصرية والدولية، مدينة الواقع غير مدينة التصور، لذا حان الوقت لطرح هذا الفارق لكي نستعيد روح الإسكندرية التي فقدناها.

وبدون مناقشة ما جرى على أرض الواقع وتحليل دوافعه، فإن ما حدث بالمدينة واستنكره الجميع سيتكرر.. تكتظ الإسكندرية اليوم بكتلة سكانية تتجاوز 5 ملايين نسمة في شريط ساحلي ضيق ممتد من أبوقير حتى حدود المدينة غربا، هذا يعني أنها تعاني من كثافة سكانية عالية وندرة في الأراضي للبناء مع فرص عمل محدودة، تم معالجة هذا بغض الدولة الطرف في التسعينيات عن ارتفاعات المباني حتي رأينا أبراجا في شوارع عرضها أقل من 3 متر يصل ارتفاعها إلى 15 طابقا وقد يصل إلى 20 في بعض الأماكن، في أحياء بعضها نشأ عشوائيا بصورة غير مسبوقة في تاريخ المدينة التي كانت تشتهر بنسقها المعماري ونظامها في التخطيط العمراني الذي كان يدرس في جامعات العالم.

انظر لحالة ما يسمي بـ”ميامي الجديدة” جنوب شارع 45 إلى الطريق الدولي على سبيل المثال، وانظر لعشوائيات العجمي، إن هذا يدفعنا إلى التساؤل حول تأثير هذا على الناس في المدينة، إن معظم البنايات بلا ضوء طبيعي، وبالتالي هي مظلمة طوال الوقت، فضلا عن عدم توفير خدمات كافية من نواد وحدائق ومدارس، لذا مثلت مشكلة المدرسة عند العائلة الفقيرة والمتوسطة أزمة كبيرة تحتاج إلى حل.

وفضلا عن أن غياب الحدائق يكشف عن أن الكآبة التي تسببها هذه البنايات شاهقة الارتفاع لا تعطي متنفسا للأطفال والأسر في مساحة خضراء تتوسطها وتكون رئة لهذه المناطق، وهذه المساحات الخضراء ليست رفاهية في التخطيط العمراني، لكنها ضرورية وحتمية في أوقات الزلازل والكوارث، إذ تعد مكانا لاستعياب الناس في هذه الأزمات، وآخر حديقة عامة أنشئت في الإسكندرية كانت “الشلالات” على يد بلدية الإسكندرية، ومنذ أن ألغيت البلدية في خمسينيات القرن العشرين لم تنشأ في الإسكندرية حديقة عامة مماثلة، سواء إلى الغرب حتى الكيلو 21 أو إلى الشرق حتى أبوقير.

اقرأ أيضًا: ما وراء اغتيال قس الإسكندرية.. تطرف تحت الجلد في مدينة الرب

ويماثل هذا الأندية في الميدنة التي تعد صعبة المنال بالنسبة للكثيرين، فمن سبورتنج إلى المنتزة لا يوجد سوى نادي سيدي بشر وهو ساحة صغيرة جدا بين عمارات شاهقة الارتفاع في شارع محمد نجيب ومبنى صغير جدا في شارع جمال عبد الناصر، المدينة بهذا المعنى تعطي الإنسان روحا سلبية تنعكس على الناس وتصرفاتهم.

لقد تضاعف ضغط الهجرة للإسكندرية خلال العقود الماضية، خاصة من محافظتي البحيرة وكفر الشيخ، إضافة للهجرات القادمة من الصعيد، ويفضل القادمين من كفر الشيخ والبحيرة السكن في أحياء الشرق مثل سيدي بشر وميامي والعصافرة والمندرة، فيما يفضل القادمين من الصعيد مينا البصل والورديان علي سبيل المثال، وإذا نظرنا لجغرافية السكن في الإسكندرية سنجد أن شمال المدينة من شاطئ البحر إلى السكة الحديد حضري بصورة أفضل نسبيا من جنوب السكة السكة الحديد الذي هو عشوائي بامتياز، ما عدا منطقة سموحة، وهذا ما يتطلب ليس إيجاد حل من داخل المدينة بل البحث عن الحل خارج المدينة بإقامة مدينة جديدة غرب الإسكندرية على البحر المتوسط، والأنسب لها مدينة الحمام أو في موقع بين العلمين الجديدة ومطروح، يكون الهدف منها سحب هذه الكثافات السكانية من محافظات كفر الشيخ والبحيرة والإسكندرية لتخفيض الكثافات السكانية في هذه المحافظات وبالتالي خفض سكان الإسكندرية إلى 3 مليون نسمة وهو الحد الأقصى المناسب للكثافة السكانية على مساحة المدينة.

إن الإسكندرية تعبر عن روح التسامح والتنوع، ونحن بحاجة ماسة لاستعادتها مرة أخرى ولن يأتى هذا إلا عبر افتخار أهالي الإسكندرية بمدينتهم، هذه المدينة التي هي مخيلة كل مصري، مدينة الأحلام والتراث والثقافة، لذا فإن أدباء الإسكندرية عبروا عن هذا في روياتهم بصورة جيدة بدءا من الأديب المتميز إبراهيم عبد المجيد في روايته (لا أحد ينام في الإسكندرية) إلى مصطفى نصر في روايته (ليالي الإسكندرية) وله رواية بديعة هي (يهود الإسكندرية) ومؤخرا صدر في لندن كتاب عن الإسكندرية قبل 1952 للكاتب عادل درويش الذي يكتب في صحيفة الجارديان لاقى انتشارا بين القراء في بريطانيا وأوربا، إذا الإسكندرية ليست في المخيلة المصرية بل الإسكندرية أيضا في المخيلة الدولية، لذا فإن استعادة هذه الروح تقتضي من وجهة نظري ما يلي:

بناء برنامج لاستعادة روح المدينة عبر سلسلة من الأنشطة الثقافية، هذا ما يقتضي فتح قصور ثقافة في المدينة فمن سيدي جابر إلى أبو قير لا يوجد قصر ثقافة، ومن الأنفوشي إلى غرب المدينة لا يوجد قصر ثقافة، وبالتالي هذا الفراغ ترك لمن يملؤه بأفكاره وآرائه.

اقرأ أيضًا: سلفيو الإسكندرية وأقباطها.. كيف تنتج خطاب كراهية وتنتظر تعايشًا سلميًا؟

تنشيط ذاكرة المدينة عبر استعادة تراثها بصورة تجذب العالم لها، فمشروع لمواصلة الحفائر حول المسرح الروماني وتحت كوم الدكة وإطلاق حملة لاستكشاف قبر الإسكندرية وفق أسس علمية كفيلان بأن يزداد الإقبال سياحيا على المدينة وبالتالي تزداد فرص العمل وتقل البطالة وهو ما يتطلب أيضا زيادة الطاقة الفندقية المحدودة بها، مع استعادة مشروع الآثار الغارقة تحت الماء في الميناء الشرقي الذي ساهمت في طرحه منظمة اليونسكو العديد من المنظمات الأوربية.

تأكيد الشخصية المعمارية للمدينة فعبر سنوات كان هناك معمار في المدينة لا يعبر عنها، وكان كوبري استانلي فريدا لذا اجتذب سكان المدينة وزوارها لأنه يتسق مع الذات الإسكندرانية، فما هدم من بنايات ذات طرز معمارية لسنوات فائتة أفقد المدينة جانبا من شخصيتها، وهو ما نجح الكاتب أسامة أنور عكاشة في التعبير عنه في مسلسل الراية البيضاء.

إنه في ظل التكدس الداخلي، افتقدت الإسكندرية مساجد للصلاة، مساجد تبنيها مستقلة بهذه الوظيفة، وبصورة توضح أنه يسكن بالمدينة مسلمون، فعبر سنوات منذ السبعينيات ظلت المدينة بلا مساجد في شوارعها الرئيسية، ومعظم المساجد في المناطق التي نشأت في المدينة منذ سبعينيات القرن العشرين زوايا متناثرة تحت عمارات سكنية، هذا دون أن يدري أحد أن هذا يخلق أجواء متناثرة من الفكر والعشوائية وعدم الرضا.