قبل شهور قليلة شاءت الظروف دون تعمّد منّي أن تقع بين يدي مصادفة نسخة مكتوبة من السيناريو التليفزيوني “راجعين يا هوى”. الذي كتبه السيناريست محمد عيد عبد المالك عن قصة الراحل أسامة أنور عكاشة التي حملت الاسم ذاته في مسلسل إذاعي قديم من كتابته. لتحمل إلينا رائحة عودة الرجل الذي احتكر الكتابة الدرامية لسنوات تعلمنا من خلالها كيف نحب مشاهدة التليفزيون.

ببساطة تحكي قصة “راجعين يا هوى” سيرة البطل بليغ أبو الهنا وعائلته. الرجل الذي عاد إلى مصر بعد تراكم ديون طائلة عليه في أوروبا. على أمل استعادة حقه في الميراث لتسديد خطايا ماضيه الهروبي. لكن سرعان ما تتحول مهمته إلى مسعى للإصلاح ما بين أفراد عائلته المقسمة منذ سنوات بسبب ذلك الميراث أيضًا. وذلك في إطار دراما اجتماعية رومانسية.

عاد إلينا ساحر الدراما التليفزيونية أسامة أنور عكاشة -مخترع “زيزينيا”- درة إنتاجاته التي علمتني الكثير. والتي لا تزال تصلح كمادة لتدريس الكتابة التليفزيونية الكلاسيكية. عادت روحه بالرغم من مرور ما يقرب من اثني عشر عامًا على وفاته (مايو 2010). من خلال عمله الإذاعي المغمور.

قد تكون هذه المرة الثالثة التي تٌقتبس أحد أعماله بعد وفاته. التي بدأت باقتباس مسلسله المذهل “موجة حارة”. الذي أعاده السيناريست وائل حمدي وأعلن بعدها عن اقتباس “الباب الأخضر” الذي سيُعرض كفيلم سينمائي على غير العادة.

راجعين يا هوى- ظل أسامة أنور عكاشة
راجعين يا هوى- ظل أسامة أنور عكاشة

لعنة المال وانفتاح السادات

لم أقرا السيناريو كاملا لكني قرأت أجزاء طويلة منه. منذ اللحظة الأولى كنت أفهم تمامًا أين أنا بين شخصيات “عكاشة” المعتادة. نشاهد رجل الأعمال الأعزب الذي تتراكم عليه الديون. في الوقت الذي نشاهد وقوعه في غرام جديد وأفكار حول حبه القديم لابنة عمه ومحاولاتها العودة إليه. كانت الأسرة كما عهدنا في مسلسلات مثل “الحصار والشهد والدموع وأبواب المدينة وغيرها) محور فكرة “عكاشة “الأثيرة. تفرٌّقها بسبب شيطان المال وعدوانها على بعضها جهلا وطمعا. والمصير المشؤوم الذي أنتجه انفتاح “السادات” عمومًا الذي لا يفككه سوى تدميره قولًا واحدًا.

يضع “عكاشة” في قلب القصة العائلية المعقدة مفتاح حلها في الإنسان الأسطوري. قبل زمن شاهدنا جميعًا تلك الشخصية التي يعشقها عكاشة: العائد من الغربة الذي هرب لأنه أكثر صدقًا وصفاءً وحبًا: أبو العلا البشري في المسلسل الذي يحمل اسمه. مفيد أبو الغار في “الراية البيضا” وأيضًا الدكتور برهان في مسلسل “أرابيسك”.

شخصية الدكتور برهان- أرابيسك
شخصية الدكتور برهان- أرابيسك

في العائلة الجديدة التي اخترعها “عكاشة” وأعاد تدويرها ربما دون تدخلات محورية من محمد سليمان سنجد تنويعات من شخصيات “عكاشة” موزعة دون تجديد. الفارق الطبقى والتعليمي الممتد خلال صراع سليمان غانم وسليم البدري في “ليالي الحلمية” بكل أجزائها -باستثناء السادس الأسوأ على الإطلاق- سنجده في عائلة “أبو الهنا”.

استقطاب معهود

الصراع الميراثي الذي يتخلله صراع طبقي في الأساس على شخصيات لا يتعاطف كاتبها معها على الإطلاق. ملوثون بالموافقة على الاعتماد الريعي لممتلكات قتلت أصحابها الأصليين.

يلجأ المخرج محمد سلامة إلى التعريف بتلك القماشة الواسعة من الشخصيات سريعًا منذ اللحظة الأولى. نمر سريعًا على عائلتين تسكنان القصر ذاته/ميراثهما وتسعى كل منهما لتطفيش الأخرى. ثمة استقطاب “عُكاشي” معهود لشخصيات أحادية الجانب.

ربما ما ساعد صعود شخصيات “عكاشة” الكليشيهية في زمنه لم يعد مقبولًا الآن. الأشرار لا نشاهد براءتهم بينما نتعاطف مع شخصيات قليلة أفلاطونية مثل بليغ الدونجوان. كما نشاهد إعادة لخلق شخصياته التي عرفناها منذ زمن. حتى إني أكاد أتخيل “أنوشكا” في راجعين يا هوى أكثر امتعاضًا من كل ما حولها تمامًا مثلما شاهدت منذ سنوات صفية العمري ابنة الذوات القديمة بكل ما في الأمر من مبالغة غير مهضومة.

صفية-أنوشكا
صفية-أنوشكا

أبو الهنا.. وتاريخية شخصيات عكاشة

أفرد السيناريست محمد سليمان المساحة لخروج تاريخية شخصيات “عكاشة” دون تحريكها لتناسب حاضرنا. رغم كونه ربما أحد أفضل الكتّاب الذي أمكنهم الكتابة التاريخية للتليفزيون.

القماشة الواسعة التي ترك لها القاص الكبير تجربته الكتابية ليخلق عالما يمكنه محاسبة الانفتاح والجشع الذي أنتجه أصبحت معالجته وتقديمه الآن أكثر تركيبًا من سنوات مضت. لم يعد يصلح له رجل مثالي أكثر مما يبدو في بوهيميته مثل بليغ أبو الهنا.

“راجعين يا هوى” مسلسل خطابي فج غير معني بتركيبية شخصياته على حساب فلسفة كاتبه الأكبر المهووسة بالضياع الجمعي الذي خلقته أطماع تكوين الثروات. باعتبارها مساحة الأمان الأكثر أهمية بالنسبة لعصر الانفتاح من عصور العمل وتكوين الأسرة التي كان “عكاشة” أسيرها.

تقفيلة خطوط الخيال الموازية للمشاهدة بات أمرا غير معهود على مخرج العمل محمد سلامة. الذي جعل المشاهد ربما متوقعا لما ستؤول إليه أغلب خيوط القصة القديمة بدورها.

نقاط نور

ربما إلى جانبهما يُحسب لمدير التصوير الموازي البصري الكلاسيكي للأسرة شديدة الثراء. كما يُحسب اختيار الموسيقى التصويرية الملازمة والتتر الذي يتغنى به مدحت صالح على اعتباره أكثر النقاط قوة التي تُحسب للمسلسل.

التغريبة التي تعيشها الشخصيات في الداخل هي صراع جوهره بقاء أكثر نفوذًا في مقابل صراع أكثر أصالة يعيشه بليغ أبو الهنا. العائش في الوهم لا في الحقيقة. تمامًا مثل ماجي (نور اللبنانية) وجابر أبو الهنا (أحمد بدير) الذين يهربون من كل شيء للاستمتاع قليلًا بأنفسهم دون الوجود كعناصر تبحث عن نفوذ أكثر.

حتى القالب السياسي الذي يمكن تأويل القصة إليه أكثر تركيبًا من انفتاح السادات الذي كان مظلة الجشع المرعب الذي سيطر على الإنسان المصري وعائلته. بات من الواضح أن روح عكاشة يمكن اقتباسها في أي وقت مع معالجة مثلما شاهدنا في “موجة حارة”. لكن لا يمكننا إلقاء اللوم على قدم القصة بينما ربما نحتاج إلى الجلوس أكثر على فلترة الجواهر القديمة ووضعها في قالب قصصي أكثر تركيبًا ومعاصرة.