تبدأ تركيا فصلا جديدا من التحالفات مع دول الشرق الأوسط، بالتوازي مع تراجع نفوذ حلفائها السابقين. وعدم تمكنها من تحقيق أجندتها الإقليمية في المنطقة، ومؤخرا، أعلن وزير الخارجية التركي “مولود تشاووش أوغلو” اقتراب تعيين قائم بالأعمال في مصر. مع الإشارة إلى أن ربما ترتقي الخطوة إلى تبادل تسمية سفراء بين البلدين في ظل جهود عودة العلاقات بينهما. وتنبثق هذه الخطوة كجزء رئيسي من استراتيجية شاملة تتضمن تصفير الخلافات مع الدول المركزية بالشرق الأوسط. وإعادة ترتيب المصالح والأولويات، وهو ما يحمل تداعيات خطيرة على عملاء تركيا في المنطقة وعلى رأسهم جماعة الإخوان الإرهابية وحركة حماس.

تركيا نحو تحالفات جديدة

في الآونة الأخيرة، بدت تركيا نحو اتخاذ مواقف أقل صدامية مع دول الشرق الأوسط. وهو ما بعث مؤشرا إيجابيا نحو رغبتها في تبريد الخلافات تجاه بعض الدول، ويبدو من سعي تركيا المتواصل نحو إعادة العلاقات مع دول المنطقة. وإصرارها على تنويع أوجه التعاون والارتباط بصورة أكبر على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري. نوايا تركيا نحو الانضمام في التحالفات المزمع بلورتها وكذلك أن تكون نقطة وصل بين مختلف الدوائر الإقليمية. ويمكن رسم ملامح الموقف التركي من خلال تفاعلاتها مع بعض الدول:

مصر

بين سياسة المقاطعة والعداء التي مارستها تركيا بمختلف الوسائل في الماضي سواء في ليبيا أو عبر منصاتها الإعلامية. وما بين مساعيها في الوقت الراهن نحو تعزيز العلاقات مع مصر تبرز الأيدولوجية البراجماتية. حيث لم يدخر أردوغان جهدا في توثيق علاقته مع الكيانات التي تهدد الأمن القومي المصري لفترة طويلة إلى أن خف بريقهم ولم يعد يتمتعون بنفس الحضور والتأثير. حتى اتجه نحو ضبط بوصلة مصالحه مع مصر في مختلف مجالات التعاون.

ومؤخرا، ارتفع حجم التبادل التجاري بين مصر وتركيا بنسبة 32.6% مدفوعا بارتفاع حجم الصادرات لتبلغ قيمتها نحو 2.9 مليار دولار بنهاية عام 2021. وعلى المستوى الدبلوماسي، صرح وزير الخارجية التركي عن رغبة بلاده في تعيين قائم جديد بالأعمال في مصر. كما بدأت تركيا في ترحيل عناصر الإخوان المخالفة لتعليمات وقف التحريض التي انتهجتها تركيا في إطار مساعي التصالح مع مصر.

وتنبني هذه المواقف في إطار إرادة سياسية واضحة من الجانب التركي نحو حلحلة الأمة مع مصر. حيث بدأت مع مصر جولتان من المباحثات الاستكشافية في عام 2021 على مستوى نائبي وزيري خارجية البلدين خلال شهري سبتمبر/أيلول ومايو/أيار. وفي مارس/آذار 2021 أعلنت تركيا استئناف اتصالاتها الدبلوماسية مع مصر. كما أوقفت الدعم الإعلامي لقنوات الإخوان التي تبث من تركيا وكذلك الخطابات العدائية.

الإمارات

كانت جهود تركيا الأسرع نحو التعاون والمصالحة مع الإمارات بشكل خاص. وهي الدولة الوحيدة حتى الآن التي زارها أردوغان من بين دول المقاطعة. وشكلت زيارة الرئيس التركي في 14 فبراير/شباط خارطة طريق نحو مصالح مشتركة بين كلا البلدين. حيث أسفرت عن توقيع 13 اتفاقية ثنائية في التجارة والدفاع وتغير المناخ، وتأتي هذه الزيارة عقب زيارة ولي العهد “محمد بن زايد” لتركيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2021. والتي اختتمها بتوقيع 10 اتفاقيات مع تركيا بالإضافة إلى صندوق استثمار بقيمة 10 مليارات دولار لدعم الاستثمارات في تركيا.

كما وقع كلا من مصرف الإمارات المركزي والبنك المركزي التركي في يناير اتفاقا لتبادل العملات بقيمة 5 مليارات دولار. وتعد الإمارات أبرز شريك تجاري عربي مع تركيا، فقد بلغت قيمة التبادل التجاري بينهما خلال عام 2019 حوالي 8 مليار دولار أمريكي، مما يعكس أهمية الشراكة الاقتصادية بين البلدين. كنقطة انطلاق لفتح قنوات التواصل بين البلدين، وهو ما أكد عليه أردوغان في زيارته. معلنا أن هدف الزيارة “ليس أقل من بناء الخمسين عامًا القادمة من الصداقة والأخوة مع الإمارات”. وأكد ضرورة العمل المشترك في حفظ السلام والاستقرار الإقليميين.

السعودية

في تقرير نشره موقع “موركور” الألماني، واصفا تحركات أردوغان الأخيرة: “أنه يحاول التقرب من أعداء الأمس”. حيث صرح أردوغان عن نيته زيارة السعودية خلال الأيام القادمة، في إطار جهود التطبيع. “نريد تعزيز علاقاتنا مع السعودية، ودفع الحوار الإيجابي قدما بخطوات ملموسة في الفترة المقبلة”. كما أجرى وزير الخارجية التركي مباحثات مع نظيره السعودي الأمير “فيصل بن فرحان آل سعود” في إطار حلحلة ملفات الخلاف. ومن بينها إعلان النيابة العامة التركية بإحالة قضية محاكمة الأشخاص المتهمين بقتل خاشقجي. إلى السلطات القضائية السعودية بهدف إنهاء ملف خاشقجي مع السعودية بشكل نهائي.

إسرائيل

قام الرئيس الإسرائيلي، “إسحاق هيرتسوغ”، في 9 مارس/آذار بزيارة تاريخية إلى تركيا بدعم من رئيس الوزراء “نيفتالي بينيت”. وتبذل تركيا جهود حثيثة نحو تقوية علاقتها بإسرائيل في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية. حيث تضاءل الخطاب المعادي لإسرائيل بشكل كبير من قبل نخب الدولة، وتصنف إسرائيل شريكا تجاريا هاما لتركيا. ففي عام 2021 بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين رقما قياسيا بقيمة 8.1 مليار دولار. وتسعى تركيا نحو ممارسة نفوذ دولي في خريطة الطاقة العالمية، حيث صرحت رغبتها في مد خط أنابيب لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا.

الدلالات

يحمل التقارب التركي مع دول المنطقة (مصر والسعودية والإمارات وإسرائيل) بشكل خاص العديد من الدلالات. ويشكل تغير لهجة الخطاب العدائي وإعلان تركيا رغبتها في التعاون مع دول كانت في قائمة خصومها انعكاس واضح لتغير الوزن النسبي لنفوذ كل دولة.

فشل التحالفات القديمة

مارست تركيا صور مختلفة من العداء لدول المقاطعة الخليجية بجانب إسرائيل، وتحالفت مع كيانات غير نظامية (الإخوان وحماس). كورقة ضغط على الدول المذكورة بهدف النيل من أمنها وتحقيق مصالح اقتصادية على حسابها، كما في ليبيا. حيث وقعت تركيا اتفاقيتي ترسيم الحدود والتنقيب عن الطاقة بالتعاون مع حكومة السراج. واتجهت نحو تصرفات أحادية في شرق المتوسط بما يهدد دول منتدى غاز المتوسط. ولكن لم تفلح شبكة التحالفات مع الكيانات الإرهابية في تحقيق طموحات تركيا الإقليمية، وسرعان ما استبدلتها بالتعاون مع دول الشرق الأوسط. حتى إن احتفظت برصيد علاقتها مع الإخوان وحماس، ولكن مصالحها في الوقت الراهن تحتم عليها وقف الدعم المالي والفني والعسكري لتلك التنظيمات.

الاستثمار في التحالفات الجديدة

في خضم العلاقات التي نسجتها تركيا مع قادة الإخوان وإيوائها للعناصر الإرهابية، ظهرت خريطة من التحالفات الإقليمية. وهي بمثابة خريطة جيوسياسية جديدة تحركها المصالح الاقتصادية على حساب الخلافات الأيديولوجية. والتي بدأت باتفاقية العلا التي أنهت المقاطعة الخليجية، ثم اتجاه دول الخليج نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل بتوقيع اتفاقية أبراهام. وبالتالي وجدت تركيا نفسها على الهامش في ظل هذه التحركات المتسارعة، مما دفعها نحو تغيير سياستها مع أركان القوة في الإقليم بهدف لعب دور فعال في الشرق الأوسط. وتجنب الاستهداف من جانب الجبهة الإقليمية الموحدة في الشرق الأوسط وتعزيز مساحة إقليمية من المناورة الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية.

الخروج من العزلة

تعاني تركيا فترة طويلة من العقوبات والتجاهل خاصة من جانب إدارة بايدن على خلفية علاقتها مع روسيا وشرائها نظام الدفاع الجوي الصاروخي الروسي S-400. وتحاول تركيا الاستثمار في مختلف الجبهات، كما ظهر خلال الحرب الروسية الأوكرانية وسعيها نحو لعب دور الوساطة بين أوكرانيا وروسيا. كذلك رغبتها في المشاركة في نقل الغاز من الشرق الأوسط إلى أوروبا. وتشكل هذه الأهداف انعكاس واضح لحجم الضغوط على إدارة أردوغان، وبطبيعة الحال، لم يكن أردوغان ليترك فرصة إعادة العلاقات مع خصومه. والتي قد تضيف له زخم إقليمي يمكن التفاوض عليه في المنصات الدولية.

التداعيات

على الرغم مما تحمله هذه الخطوات من تطورات إيجابية على صعيد الشرق الأوسط، وتخفيف العبء الأمني في الإقليم مع انصهار مصالح تركيا مع دول المنطقة. إلا أن هذه التحالفات تحمل تهديدات مباشرة للكيانات غير النظامية التي ارتبطت مصالحها بتوتر علاقات تركيا مع مصر وإسرائيل وغيرها.

حماس

نشرت صحيفة التايمز البريطانية، أن حركة حماس “خسرت أصدقاءها في الآونة الأخيرة”، وتبدو زيارة الرئيس الإسرائيلي إلى تركيا بدون تنسيق مع قادة حماس. حيث شكلت الزيارة مفاجأة للحركة، والتي عبرت عنها ببيان شديد اللهجة “بضرورة عدم إتاحة الفرصة للكيان الصهيوني لاختراق المنطقة والعبث بمصالح شعوبها”.

وتعتبر العلاقات بين تركيا وحماس في مفترق طرق على وقع التقارب الأخير في العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل وتركيا. كما يحمل هذا التقارب تهديد لمستقبل مكتب الحركة وقادتها المقيمين في تركيا. خاصة في ظل التوقعات بأن تضغط إسرائيل على السلطات التركية بإغلاق مكاتب حماس أو ترحيل قادتها، وقد بدأت الحكومة التركية بتضييق عمل الحركة. حيث أوقفت منح الجنسية أو إصدار تأشيرات طويلة الأجل، وجاء في تقرير لصحيفة “hurriyet” التركية. أن أنقرة بوقف الدعم والمساعدات التركية بأعضاء الحركة ممن يثبت لهم أي أنشطة عسكرية.

الإخوان

باعتبار أن تركيا كانت المأوى الأول الذي احتضن عناصر الجماعة الهاربين من أحكام قضائية، ولعبت عناصر الإخوان موقف ذو وجهتين. حيث شكلت أداة صراعية أطلقتها تركيا لتشتيت الجهود المصرية، وفي الوقت ذاته. استغلت الجماعة العداء بين مصر وتركيا لضمان استمرار وجودها في تركيا ومواصلة الحصول على الدعم وتوافر المنصات الإعلامية. التي تساعدها على تأليب الرأي العام ضد الدولة المصرية. وبالتالي فإن حركة الإخوان في الوقت الحالي تقع قاب قوسين أو أدنى بين مساعي تركيا في عودة العلاقات مع مصر والخليج. التي وصفها وزير الخارجية التركي بمثابة “عهد جديد” بين العلاقات التركية المصرية الجديدة وبين سياسة عدم إغلاق الأبواب. التي تتبعها تركيا بهدف الحفاظ على رصيد من المناورة.

 

جماعة الإخوان المسلمين
جماعة الإخوان المسلمين

وبناء على ما تقدم، من الواضح أن تركيا تعمل على إعادة هيكلة علاقتها مع حلفائها بحكم طبيعة الظروف الراهنة على المستوى الإقليمي والدولي. وتتفاوت الآراء ما بين أن تداعيات مواقف تركيا مع دول الخليج ومصر على علاقتها بحماس والإخوان. ما هي إلا إعادة تموضع مع إبقاء الدعم والتعاون، وعلى الجانب الآخر. يمكن وصفها بأنها بداية فتور العلاقة بين تركيا وكلا من الإخوان وحماس، ولكن يجب التأكيد على تشابه الأدوات بين تركيا وكلا التنظيمين. وربما يتجه كلا منهما إلى البحث عن حلفاء جدد وأساليب جديدة تعيد نفوذهم في المنطقة.