العام الجاري 2022 هو تمام المائة عام الأولى على الاستقلال الصوري الشكلي الذي حصلت عليه مصر من بريطانيا بعد ثورة 1919.

العام المقبل 2023 هو تمام مائة عام على دستور 1923 الذي كان ثمرة لكفاح ثورة 1919 وتأسست بموجبه الملكية الدستورية التي عاشت ثلاثين عاما من 1923 إلى 1953.

في 23 يوليو من العام الجاري تستكمل مصر سبعين عاما من حكم الضباط الذين ألغوا الملكية الدستورية، وأعلنوا الجمهورية الديكتاتورية، ومازال حكم مصر في عهدتهم، يتداولون عليه ضابطا من وراء ضابط، باستثناء عام واحد من منتصف 2012 حتى منتصف 2013 حكمت فيه جماعة الإخوان بعد انتخابات أدارها الضباط بأنفسهم وأعلنوا نتائجها بأنفسهم، فلم يخرج عام الإخوان عن إرادتهم وتخطيطهم إذ هم من انتقلت إليهم إدارة شؤون البلاد ليلة نجحت ثورة 25 يناير في خلع الرئيس حسني مبارك في الحادي عشر من فبراير 2011.

كثيرون من الأجيال الجديدة ينظرون برومانسية زائدة للثلاثين عاما من الملكية الدستورية، كما ينظرون بحنق زائد لديكتاتورية السبعين عاما من العهد الجمهوري، والحقيقة الغائبة والمفقودة في هذه المجادلة هي أن ديكتاتورية الجمهورية التي حكمت ومازالت تحكم من 1952- 2022 هي ابنة الديمقراطية المشوهة التي حكمت من 1923 – 1953، الفارق بين العهدين فقط في المسميات والأشكال والألقاب وتغير الفاعلين لكن جوهر وروح الممارسة السياسية لم يختلف إلا في المقدار فقط، فكل الممارسات الديكتاتورية التي عرفها العهد الجمهوري نبتت بذورها وجذورها في العهد الملكي، الذي أضافه العصر الجمهوري هو أنه تعهد بذور الديكتاتورية وجذورها بالرعاية وتكفلها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه إذ أصبح رئيس الدولة في العهد الجمهوري يتمتع بأوسع صلاحيات وسلطات لم يتمتع بها ملك مطلق ولا سلطان مطلق ولا خديوي مطلق ولا باشا مطلق من حكام الدولة الحديثة على مدى مائة وخمسين عاما ابتداءَ من المؤسس الأكبر محمد علي باشا عند مطلع القرن التاسع عشر وحتى حفيد الملك فاروق وولي عهده الرضيع أحمد فؤاد عند منتصف القرن العشرين.

الديكتاتورية في الدولة الحديثة سواء قبل ثورة 23 يوليو أو بعدها هي القاسم المشترك الذي يجمع كافة حكامها من محمد على باشا  1805 – 1848 إلى الحكم الحالي 2014 – 2022 مع فارق واضح أن محمد علي باشا كان عليه أن يكافح سنوات طوال لإسكات المعارضة السياسية بينما لم تستغرق المهة أكثر من شهور في عهد الحكم الحالي، وسبب ذلك أن محمد علي باشا استغرق سنوات طوالا يبني أدوات السيطرة الحديثة من جيش ومؤسسات عقابية وقمعية، أما في حالة الحكم الحالي فقد كانت كل الأدوات جاهزة للاستخدام الفوري المباشر، هذه الأدوات القمعية سواء في شكلها المادي أو التنظيمي أو المؤسسي هي ترجمة أمينة لفكر وروح وتراث وتقاليد وثقافة وضمير الدولة الحديثة، وضمير الدولة الحديثة ورث كل ما في عصور الاستعمار من ازدراء لأهل البلاد واستعلاء عليهم وتجرؤ على حقوقهم واستهانة بغضبهم وهدر لأموالهم واستغلال لهم عبر الجباية والمصادرة والتأميم والاحتكار وكافة صور الإفقار والإذلال والتحكم والسيطرة المخططة الممنهجة.

هذه الدولة الحديثة من مطلع القرن التاسع عشر حتى الربع الأول من القرن الحادي والعشرين لم تصمد في وجه الاستعمار فقد مكث الاحتلال الانجليزي ثلاثة أرباع قرن فيما قبل 23 يوليو 1952، ثم  لم تصمد في وجه الاحتلال بعد ذلك في العهد الجمهوري وفي ظل حكام قادمين من صفوف الجيش تم احتلال سيناء كاملة مرتين في 1956 وقيل للشعب أن مصر انتصرت ثم في 1967 وقيل للشعب أنها مجرد نكسة صغيرة لا أكثر ثم حدث عبور لشرق القناة وحوصرت مدينة السويس في 1973، لكن هذه الدولة -في كل عهودها- عرفت وتعرف كيف تصمد في وجه الشعب، كيف تلتف حوله، ثم كيف تخدره، ثم كيف تزيف وعيه، ثم كيف تضلله، ثم كيف تسكته، ثم كيف تخمده، ثم كيف تقمعه، ثم كيف تقهره، ثم كيف تلبسه لباسين مدعومين مجانيين: لباس الجوع ومعه لباس الخوف يلبسهما واحدا فوق الثاني في حله وترحاله وفي ليله ونهاره وفي صحوه ومنامه وفي صيفه وشتائه.

***********

كل ما يؤخذ على ديكتاتوريات ما بعد 23 يوليو 1952 من مآخذ وملاحظات تعود جذوره إلى ما قبلها، وهذه الجذور تعود إلى لحظة التأسيس، أي محمد علي باشا، وتمتد إلى لحظة النهاية حيث الملكين فؤاد ثم نجله الملك فاروق، وكل ما فعلته ديكتاتوريات ما بعد 23 يوليو هو أنها حافظت على هذه الجذور مع تغيير الاسم من ملكية إلى جمهورية، وتغيير القيادة العليا من سلالة محمد علي إلى ضباط الجيش، وإحلال طبقة واسعة من الباشوات الجدد دون ألقاب رسمية محل طبقة الباشوات التي صنعتها سلالة محمد علي والاحتلال الانجليزي.

جاء تأسيس الدولة الحديثة على يد غرباء عن البلد، على يد محمد علي ومن جاء بهم من أقاربه وعائلته وأهل ثقته من الأتراك والألبان والأرمن والأرناؤوط والشركس وغيرهم، صحيح هؤلاء تمصروا فيما بعد، لكن بالبطئ جدا، لدرجة أن أول من تكلم لغة البلاد بطلاقة كان هو آخر حكامها كان هو الملك فاروق وقد حكم بين 1927- 1952.

هؤلاء الغرباء المتمصرون وضعوا البذور وغرسوا الجذور المهيمنة على عقل وقلب الدولة الحديثها وضميرها وروحها العميقة كما هي مهيمنة على تقاليدها في ممارسة السلطة وفي النظرة إلى الشعب.

1 – أول هذه الجذور وأخطرها أن الحكم لأهل الثقة، حكم أهل الثقة هو سرطان الدولة الحديثة في مصر منذ تأسست إلى اليوم والغد، كان محمد علي باشا يدرك أنه فرد وحيد في بلد غريب، فاستدعى من بلدته أبناءه وأصهاره وأقاربه ومن يثق فيهم من معارفه، وهؤلاء كانوا هم نواة الدولة الحديثة الناشئة، وبالذات في قيادة الجيوش والأمن الداخلي، ووسع الدائرة بكل من يحتاجهم ويثق قيهم من كافة الجنسيات العثمانية ثم من الأوروبيين، ثم من بعض أقباط البلاد الذين احترفوا عبر القرون المتطاولة مهن الصرافة والجباية والمالية ومسح الأراضي، ولم يتم الاستعانة بالمصريين إلا في وقت متأخر من عهده حين بدأ في تجنيدهم لكن بقوا في الرتب الأدنى واحتفظ بالرتب العليا لمن يثق فيهم من الغرباء المتمصرين والوافدين الأوروبيين، هؤلاء الغرباء سواء من الجنسيات العثمانية من ألبان ويونان وأرمن وترك وشركس وأرناؤوط أو من الجنسيات الأوروبية هؤلاء وأولئك كانوا هم الطبقة العليا في الدولة، وهم من نفذوا معه خطط التحديث، وهم من استفادوا بثمراتها .

2 – ثاني هذه الجذور أن أهل الثقة هم أهل الانتفاع، فهؤلاء الغرباء الوافدون من شتات العثمانيين ومن شتات الأوروبيين هم من توزعت عليهم الأراضي مثلما توزعت عليهم المناصب، فجمعوا بين نفوذ المنصب الرسمي والقوة الاقتصادية وصاروا بهذا وذاك الطبقة العليا الحديدة التي حلت محل طبقة المماليك وظلت هي الطبقة القائدة حتى ثورة 23 يوليو 1952 .

3 – لما تأسست مع الدولة الحديثة قاعدة أهل الثقة ثم قاعدة أهل الانتفاع، وتأسست من القاعدتين طبقة اجتماعية قائدة تجمع بين السلطة والثروة، أصبح ذلك هو القادة المستقرة في بنيان الدولة المصرية الحديثة، وأصبح صفة لصيقة بها، ورغم ما تسببت فيه هذه الصفة من ثورات المصريين إلا أن الثورات تلاشت وهذه الصفة بقيت إلى اليوم والغد، تستطيع القول أن الجامع المشترك بين كافة الثورات من العرابية 1881 إلى ثورة 1919 إلى ثورة 23 يوليو 1952 إلى ثورة 25 يناير 2011 هو شعار “مصر للمصريين”، لكن استطاعت الخصال المستقرة للدولة -أهل الثقة وأهل الانتفاع- هي المسيطرة، وفد استطاعت الدولة في كل المنحنيات التاريخية أن تستوعب الثورات وتلتف حولها وتحتويها وتقرغها من مضمونها ثم تكسر ما كان منها صلبا ثم تفسد ما كان منها قابلا لغواية الفساد بإغرائه بنصيب من المناصب والثروات .

4 -تأسس على ماسبق ما هو أخطر، تحولت الدولة الحديثة إلى ناد مغلق على من فيه، ودخوله بات مستحيلا على من هو خارجه، وحتى يتسنى للطامحين من الخارج إمكانية الدخول فلابد له من واسطة يقوم بها أحد من الكبار في الداخل، هذه الواسطة يظنها المصريون من الأجيال التي عاشت في العهد الجمهوري أنها من جملة فساده ونفاقه، ولكن الحقيقة أكبر من ذلك، فالواسطة هي من المواليد المبكرين للدولة الحديثة منذ نشأتها، تختلف في طريقة تنفيذها من مرحلة إلى مرحلة، ففي بعض المراحل -فترة محمد علي وفترات الوفد وفترات عبدالناصر- لم يكن يتم انتهاك المعايير، كانت الواسطة جزءا مكملا لتوفر الشروط في المتقدم للوظيفة، لكن في فترات أخرى لم يكن يشترط أي معايير للكفاءة مع الواسطة .

5 – مع سيادة معيار الواسطة لتحقيق الصعود الاجتماعي سواء إلى أصغر الوظائف والمناصب أو أكبرها وأخطرها وأعلاها، سادت منظومة الفساد اللصيق بكافة أجهزة الدولة الحديثة من محسوبية وشللية وانعدام كفاءة وفساد وترهل إداري، والأخطر من كل ذلك هو تدني نظرة الموظف العمومي للمواطن وما يترتب على ذلك من إساءة المعاملة عند تقديم الخدمة .

الدولة الحديثة شكلها حديث لكن مضمونها غير ذلك تماما، من الصعب وصفه بالقديم، لكن الأقرب للحقيقة أنه مزيج مشوه وخليط مسخ من القديم والحديث معا، كانت كذلك في أول عهدها، وكانت كذلك في كل عهودها، وهي كذلك في هذا العهد.

***********

تباعدت المسافات الزمنية بين ما قبل ثورة 23 يوليو وما بعدها، سبعون من عمر الزمن ليست هينة، وتقريبا فإن أغلبية من هم على قيد الحياة من المصريين هم من مواليد العهد الجمهوري، واليقين أن من كان عمره عشر سنوات عند قيام ثورة 23 يوليو، بما يعني أنه عاش عشر سنوات في العهد الملكي، هؤلاء في الثمانين من عمرهم، ومن في الثمانين وما فوقها هم الشريحة الأقل من تعداد المصريين الذين هم على قيد الحياة وقت كتابة هذه السطور .

تظن الأجيال الجديدة ثلاثة ظنون ليست صحيحة في العمق وإن بدت صحيحة من النظرة الأولى .

– الظن الأول غير الصحيح أن العهد الجمهوري أسس لحقبة الحكم الفردي المطلق، والصحيح أن الحكم الفردي المطلق تضخم بصورة مرعبة في العهد الجمهوري، ولكن تأسيسه يعود إلى لحظة تأسيس الدولة الحديثة عند مطلع القرن التاسع عشر، الفرق بين الحكم الفردي المطلق في العهدين قبل وبعد ثورة 23 يوليو يكمن في نقطتين اثنتين: الأولى أن في العهد الجمهوري تقدمت تكنولوجيا الديكتاتورية وتضخمت مؤسساتها وزادت إمكاناتها ووصلت إلى كل شبر معمور من مصر وهذا لم يكن متوفرا بهذه الصورة قبلها. الثانية أن الحقبة الدستورية التي أعقبت ثورة 1919 كان فيها الوفد كممثل للحركة الوطنية حائط صد ضد طغيان الملكين فؤاد ثم فاروق وهذا الحائط تمت تصفيته على يد ثورة 23 يوليو ثم لم يقم بديل عنه فلم يقف أي حائط صد ضد طغيان الرؤساء طوال السبعين عاما  .

إذا كان رئيس الجمهورية هو الدولة في العهد الجمهوري فكذلك كان الباشا ثم الخديوي ثم السلطان ثم الملك فيما قبل العصر الجمهوري، وحتى في الفترة الدستورية كانت السلطات الفعلية -خروجا على الدستور- هي التأسيس الفعلي لسلطات الرئيس بعد ذلك مع فارق أن سلطات الرئيس منصوص عليها في الدستور الذي يكتبه بنفسه أو يعدله بنفسه بين حين وآخر حسب مصلحته .

– الظن الثاني غير الصحيح أن التسامح الديني فيما قبل العهد الجمهوري كان أفضل منه في العهد الجمهوري، والحق أن التوجهات الدينية للدولة واحدة في كلا العهدين من حيث أن الحاكم يعتبر المؤسسة الدينية الإسلامية جزءا من منظومة الشرعية ذاتها وليست فقط جزءا من آلة الحكم، ومنشأ ذلك أن الدولة الحديثة تأسست على يد حاكم تركي مسلم ورث كل التقاليد العثمانية في الأمور الدينية، هذه التقاليد العثمانية هي الوسط الحسابي للثقافة الدينية لدى عموم المصريين، وهي ثقافة تتعايش بسماحة مع حقوق غير المسلمين إلا في مساحات معينة من المناصب والمواقع في الدولة بالذات، هذا إرث عثماني مستقر، فرض نفسه على الدولة الحديثة، كانت ومازالت، وخلاصتها: سماحة التعايش مع غير المسلمين لكن عندما يكون الأمر أمر دولة فلهم فيها مساحات بعينها وتحجب عنهم مساحات أخرى. ومرد ذلك أن الدولة الحديثة لا تزال دولة قديمة، دولة عصور وسيطة، فلم تستطع الارتقاء الكامل إلى دولة المواطنة الحديثة التي تكفل لكل مواطنيها حريات الاعتقاد والعبادة وممارسة الطقوس والشعائر على قدم المساواة، والتي تقف على مسافة واحدة من كل الأديان والمذاهب، والتي تجعل معايير الكفاءة والاستحقاق هي سبيل الصعود إلى المناصب والوظائف العامة دون النظر إلى دين الفرد وعقيدته ومذهبه .

– الظن الثالث غير الصحيح أن تلفيق القضايا واعتقال الأبرياء وتعذيب المعتقلين السياسيين كل ذلك من اختصاص العهد الجمهوري، والصحيح أن العهد الجمهوري تفوق في كل ذلك، لكن هذه التقاليد الكريهة كلها موروثة عن مرحلتين من مراحل الدولة الحديثة هما مرحلة الاحتلال الانجليزي على مدى خمسة وسبعين عاما ثم سبعين عاما من العهد الجمهوري، أما في حقبة محمد علي الخديوية وهي أيضا فترة سبعين عاما فكانت فترة إجرام دموي صريح وفوري ومباشر إذ لم يكن محمد علي باشا ولا نجله إبراهيم باشا ولا حفيده عباس الأول ولا نجله سعيد ولا حفيده إسماعيل لم يكن أي من هؤلاء في حاجة إلى تلفيق قضايا ولا تعذيب ولا اعتقال، فقد كانت ممارسة القتل حقا مكتسبا للحاكم يمارسه كيفما يشاء وقتما يشاء ضد من يضعه حظه العاثر في مرمى غضب الحاكم. الفرق بين انتهاك حقوق وحريات الأفراد في الفترات الثلاث، الخديوية، الانجليزية، الجمهورية، أن في الفترة الخديوية لم يكن هناك من دستور ولا قانون ليتم التحايل عليهما ولا الالتفاف حولهما فكانت سلطة الباشا أو الخديوي متحررة من كل قيد ولو كان نظريا ومنفلته من كل ضابط ولو كان صوريا، هذا بعكس فترتي الاحتلال ثم العهد الجمهوري حيث وجدت قوانين ودساتير تمثل قيودا نظرية على سلطة الحكم فوجب التحايل عليها بالتلفيق والاعتقال والإكراه والتعذيب وكافة أشكال انتهاك حقوق الإنسان والعدوان على الحريات العامة والخاصة.

***********

ديكتاتورية السبعين عاما من 1952 حتى اليوم لم تولد من فراغ.

ولدت من فشل التجربة الديمقراطية التي أعقبت ثورة 1919.

فشل ثورة 1919 يعود إلى العيوب الهيكلية الكامنة في تأسيس الدولة الحديثة ذاتها.

لا توجد حقبة خير من حقبة.. من محمد على باشا إلى يومنا هذا.

كل حقبة جديدة هي امتداد – في شكل مختلف – لما سبقها.

كل الثورات حاولت لكن الدولة كانت أبقى وأقوى.