في عام 1939، أراد الاتحاد السوفييتي مبادلة بعض الأراضي مع جارته فنلندا. كان الزعيم الأشهر -آنذاك- جوزيف ستالين يرغب في تأمين نفوذه، وإنشاء قواعد عسكرية متقدمة في بحر البلطيق. أراد استخدام الجزر الفنلندية، بالإضافة إلى السيطرة على معظم برزخ كاريليان -الذي يضم مدينة فيبورج ثاني أكبر مدينة في فنلندا- وهو امتداد الأرض في الطرف الجنوبي منه لينينجراد. في المقابل، عرض غابة شاسعة من مستنقعات كاريليا السوفييتية الواقعة على الحدود شمال البرزخ.

على الرغم من التعديلات المتسلسلة لمطالبه الأصلية. فوجئ الزعيم السوفييتي برفض الفنلنديين الصفقة. تحدته جارته الصغيرة التي يبلغ عدد سكانها نحو أربعة ملايين نسمة ولها جيش صغير. بينما يحكم إمبراطورية عملاقة يبلغ تعداد سكانها 170 مليون نسمة. وهي أكبر قوة عسكرية في العالم.

عندما غزا السوفييت فنلندا، فيما عُرف في التاريخ بـ”حرب الشتاء”. واجهوا شجاعة غير اعتيادية من المقاتلين الفنلنديين. الذين أوقفوا الهجوم السوفييتي -الذي كان سيئ التخطيط والتنفيذ- لعدة أشهر. وقتها -كما يحدث في أوكرانيا الآن- استولت مقاومتهم على خيال الغرب. أشاد رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل وقادة أوروبيون آخرون بـ”فنلندا الشجاعة”. لكن الإعجاب ظل كلاميًا، فالقوى الغربية لم ترسل أسلحة، ناهيك بالتدخل عسكريًا.

في النهاية، احتفظ الفنلنديون بشرفهم. لكنهم خسروا حرب استنزاف طاحنة، وتنازلوا عن أراض أكثر مما طالب به ستالين في البداية. على الجانب الآخر، تجاوزت الخسائر السوفييتية خسائر الفنلنديين، وشرع ستالين في إعادة تنظيم متأخرة من أعلى إلى أسفل للجيش الأحمر. كان لهذا الغزو تداعياته فيما بعد. فقد استنتج الزعيم النازي أدولف هتلر -الذي كان يستعد لاجتياح أوروبا- أن الجيش السوفييتي لم يكن بقوة هذه الهالة التي تحيط به.

اقرأ أيضًا: تحديث كفاءة جيوش الكرملين.. ثمن إنقاذ الأسد في سوريا

الوصاية على العالم الحر

قد يكون الموقف الغربي في “حرب الشتاء” أحد العوامل التي بنى قاطن الكرملين الحالي -فلاديمير بوتين- عليها نظريته قبل أن يشرع في غزو أوكرانيا. توقع أن يتم اجتياحها بسرعة بينما يتراجع الغرب. وبنى حساباته الاستراتيجية على دعايته الخاصة. وتوقع أن الغرب سيترك أوكرانيا الصغيرة وحيدة. هنا، تنقسم آراء الخبراء في الولايات المتحدة. بين من اكتفوا من المناوشات مع الروس بعد الحرب الباردة، وآخرون يرون أن سقوط الاتحاد السوفييتي أوهمهم بنهاية هذه الحرب.

في تحليله المنشور بعنوان “إغراء أوكرانيا.. يجب أن يقاوم بايدن الدعوات لخوض حرب باردة جديدة”. يرى ستيفن ويرثيم، الزميل بمؤسسة كارنيجي للسلام الدولي ومؤلف كتاب “الغد.. العالم: ولادة التفوق العالمي للولايات المتحدة”. أنه على مدى ثلاثة عقود استمرت السياسة الخارجية للولايات المتحدة في حالة من الجمود وصفتها بـ”الاستراتيجية”

يقول: رغم نهاية الحرب الباردة، لكن الولايات المتحدة مع ذلك احتفظت بتحالفاتها. اختفى الاتحاد السوفييتي، لكن عدم وجود تهديد كبير أنتج نفس الوصفة مثل وجود تهديد كبير. تمامًا كما دافع الجيش الأمريكي عن “العالم الحر”، أصبح الآن وصي العالم بأسره. عندما ظهرت المشكلات، اعتبرتها الإدارات المتعاقبة -عمومًا- أسبابًا لتوسيع الانتشار الأمريكي. حتى لو أدى سعيها إلى السيادة إلى خلق هذه المشاكل أو تفاقمها.

تغري الحرب في أوكرانيا صانعي السياسة في الولايات المتحدة بتكرار هذا “الخطأ” -كما يرى ويرثيم- بطريقة بالغة الأهمية. حيث يستغل المدافعون عن أولوية الولايات المتحدة هذه اللحظة المشحونة عاطفياً للإصرار على أن الاعتماد على مسار ما بعد الحرب الباردة يسود. وهم يجادلون بأنه بدلاً من التركيز على آسيا، يجب على الولايات المتحدة الآن تعزيز وجودها العسكري في أوروبا لاحتواء روسيا. حتى مع تعزيز دفاعاتها في المحيطين الهندي والهادئ لاحتواء الصين الصاعدة.

يعترف أصحاب هذه الرؤية بأن اقتراحهم سيكلف مئات المليارات من الدولارات الجديدة في الإنفاق الدفاعي. ما يؤدي لضعف ميزانيات أخرى مثل البحث العلمي. ويضع القوات الأمريكية في الخطوط الأمامية لحربين محتملتين للقوى العظمى، لكنهم يعتقدون أن الثمن يستحق ذلك.

تحفيز الغرب على المواجهة

لم تكن عملية غزو فنلندا هي الوحيدة التي تورط فيها ستالين. رغم خوضه الحرب العالمية الثانية إلى جوار الحلفاء. لكن في عام 1950 أعطى لمستبد بيونج يانج، كيم إيل سونج. الضوء الأخضر لغزو كوريا الجنوبية. كان يظن أن الأمر سيجري مثلما حدث في “حرب الشتاء. لكن -ولدهشة ستالين- شكلت الولايات المتحدة تحالفًا عسكريًا دوليًا مدعومًا بقرار من الأمم المتحدة.

رغم مقاطعة السوفييت مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فشلوا في ممارسة حق النقض. لتهبط القوات الأممية في الطرف الجنوبي من شبه الجزيرة الكورية. وطردت الكوريين الشماليين على طول الطريق إلى الحدود الصينية. هذه المرة نجح ستالين في توجيه خطئه الفادح إلى الزعيم الصيني ماو تسي تونج. حيث تدخل جيش التحرير الشعبي الصيني بأعداد هائلة فاجأت القائد الأمريكي. وأعادت التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة إلى الخط الذي قسم الشمال والجنوب قبل عدوان كوريا الشمالية. ما أدى إلى مأزق مكلف.

ولى ستالين والاتحاد السوفييتي منذ زمن بعيد. جاء فلاديمير بوتين الذي ورث ترسانة الاتحاد السوفييتي، وحق النقض في الأمم المتحدة، والعداء تجاه الغرب. في فبراير/شباط، اختار بوتين غزو أوكرانيا، ورفض سيادتها، واعتبرها بيدقًا في أيدي أعداء روسيا. يلفت ستيفن كوتكين، أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون. إلى أن الرئيس الروسي كان يتوقع ردًا دوليًا مثل الذي شهده ستالين عند غزو فنلندا. فقط ضوضاء من الخطوط الجانبية، والشقاق، والتقاعس. لكن حتى الآن، ولّدت الحرب في أوكرانيا شيئًا أقرب إلى ما حدث في كوريا الجنوبية.

حوّل الفنلنديون في ثلاثينيات القرن الماضي الزخم لصالحهم في معركة تولفاجارفي. لأن جنودهم آمنوا بقائدهم، الكولونيل بآفو تالفيلا. لكن الأهم ما قاله بيكا توفري رئيس المخابرات العسكرية الفنلندية السابق: التضحيات التي تحملتها القوات لم تكن لتتحقق لولا دعم الجبهة الداخلية. بالمثل، أظهر عدوان بوتين -بشكل حاسم- بطولة وبراعة الشعب الأوكراني والجنود والمدنيين على حد سواء. والعزيمة التي أظهرها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. حافظ الأوكرانيون -مثل الفنلنديين- على شرفهم. لكن هذه المرة حفّزوا الغرب الساكن، كما فعلت كوريا.

اقرأ أيضا: كيف يمكن للغرب إقناع الصين بـ “إعادة النظر” في علاقتها مع روسيا؟

قضية الانضباط الاستراتيجي

كما كشف غزو فنلندا للألمان ارتباك الجيش الأحمر. كشف غزو أوكرانيا -بخلاف استعداد بوتين للمجازفة- ضعف الجيش والاقتصاد الروسي. يعتقد ويرثيم أن الحرب عززت ما أسماه بـ”قضية الانضباط الاستراتيجي”، من خلال تقديم فرصة لتشجيع أوروبا على تحقيق التوازن ضد روسيا. بينما تركز الولايات المتحدة على الأمن في آسيا. يُشير إلى أن مثل هذا التقسيم للعمل “عادل ومستدام”. حيث سيضع الولايات المتحدة في أفضل وضع للحد من تداعيات الحرب في أوكرانيا، وتحقيق السلام والاستقرار على المدى الطويل في أوروبا وخارجها.

منذ بدء الغزو الروسي، جادل المدافعون عن تفوق الولايات المتحدة بأن الحرب لا تتطلب استجابة فورية من الولايات المتحدة فحسب. بل تتطلب أيضًا تحولًا استراتيجيًا كبيرًا دائمًا. وهم يركبون موجة من المشاعر المعادية لروسيا، يريدون من إدارة بايدن أن تتجاهل الموقف الجديد المتمحور حول آسيا.

في مطلع مارس/آذار الجاري، كتب وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت جيتس: لم يعد بإمكاننا التظاهر بأن تركيز الأمن القومي في المقام الأول على الصين سيحمي مصالحنا السياسية والاقتصادية والأمنية. كما رأينا في أوكرانيا، يمكن أن يكون الديكتاتور المتهور والمجازف في روسيا -أو في أي مكان آخر- تحديًا كبيرًا لمصالحنا وأمننا. لمنع الحرب من التوسع، عززت إدارة بايدن عدد القوات الأمريكية في أوروبا إلى نحو مائة ألف. وهو مستوى لم تشهده منذ عقود.

يجادل الفريق الداعم للتوغل الأمريكي في آسيا، بأن محاولة استعادة التفوق العسكري العالمي. لم تعد تستحق اليوم أكثر مما كانت عليه قبل الغزو. أدى هجوم بوتين إلى جعل التهديد الروسي عميقاً، لكنه لم يزيد التهديد في الواقع أو يقدم أدلة دامغة أخرى للاضطلاع بالتزامات أو مهام جديدة. وبينما جيتس يخلط بين كارثة إنسانية وتهديد للولايات المتحدة. أكدت إدارة بايدن أن المصالح الأمنية الأمريكية الحيوية “ليست على المحك في أوكرانيا”. وبالتالي، لن تتدخل الولايات المتحدة بشكل مباشر ضد القوات الروسية.

إعادة إنتاج الحرب الباردة

يقول ويرثيم، الزميل بمؤسسة كارنيجي للسلام: من غير الواضح بشكل خاص لماذا يجب افتراض أن بوتين. أو أي “ديكتاتور متهور ومجازف” يتحدى المصالح الأمريكية بنفس الحجم مثل الصين. القوة الاقتصادية والعسكرية الثانية في العالم. يرى أن التفكير بهذه الطريقة. يمكن أن يدفع المسؤولين الأمريكيين للتخلي عن صياغة استراتيجية على أساس المصالح الوطنية الواضحة. سوف تجد الولايات المتحدة نفسها تراقب العالم، بغض النظر عن المخاطر. الذين يتبنون وجهة النظر هذه يرون أنه إذا تمكنت روسيا من اجتياح قلب أوروبا. فإن أمن الولايات المتحدة وازدهارها سيصبح في خطر. لأن الكثير من المناطق الغنية والمكتظة بالسكان ستخضع لسيطرة موسكو.

في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، شنت الولايات المتحدة الحرب الباردة جزئيًا لمنع الاتحاد السوفييتي من استخدام موارده الهائلة لغزو أوروبا غير الشيوعية. وفي مقال للباحثان مايكل بيكلي وهال براندز أعادا إحياء هذا الهدف الاستراتيجي ضمنيًا من خلال التذرع بـ “السياسات التي انتصرت في الحرب الباردة”. كنموذج لما يجب القيام به اليوم: احتواء روسيا والصين في وقت واحد من خلال التعزيزات العسكرية الأمريكية في كل من أوروبا وآسيا.

وفقًا لتقديراتهم، سيتطلب مسار العمل هذا زيادة الإنفاق الدفاعي خلال العقد القادم من 3.2% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 5% من إجمالي الناتج المحلي. مما يؤدي إلى زيادة بنسبة 56%. لكن -مع هذا- من الصعب معرفة كيف يمكن لروسيا أن تتوغل بعيدًا في أوروبا، حتى لو حاولت.