في بعض الأحيان نحتاج أن نتوقف لنتأمل أدورًا فارقة لبشر ساهموا بشكل أو بآخر في مجتمعاتهم، وساهموا إما في صناعة الأفكار أو تطويرها، أو تدشين منصات التفاكر والتشاور حول أحوال البلاد والعباد، عساهم يحصلون علي يسر في الأحوال، وربما أمل ولو بعيد في راحة البال.
ولأن السودان من الدول المبتلية بعدم الاستقرار السياسي تاريخيًا، فإن الرواية عن السودان غالبًا ما تكون إما مخضبة بدماء أو موسومة بصراعات وخلافات. بينما يقبع المجتمع السوداني ونخبته المميزة في زاوية بعيدة من الصورة. وتحت مظلة الانقسامات والصراعات السياسية وأيضًا التصنيفات تتوارى فرص معرفة مجهودات وعطاءات رموز المشهد الفكري والثقافي السوداني على المستويين المصري والعربي.
ولأن التراث السوداني في أغلبه مجبولًا على أن شكر الناس لا يتم في حياتهم ويتم التعبير عن ذلك بمقولة “مايجي يوم شكرك”، فإنه غالبًا تتواري أدوار رموز مهمة عن الإدراك السوداني الجمعي رغم مركزية هذه الأدوار وأصحابها في تمثيل السودان والتعريف به في المحيطين العربي والدولي.
ومن هؤلاء الذين مارسوا أدورًا مؤثرة خلال الثلاث عقود الأخيرة د. حيدر إبراهيم علي المفكر السوداني الذي ساهم في نقل التراث الثقافي السوداني من مراحل الشفاهة التي يبرع فيها السودانيون إلى مرحلة التدوين، والتقويم. وذلك حين أصدر مجلة الثقافات السودانية في تسعينيات القرن الماضي من القاهرة، مستحثًا كل صاحب قلم أو رؤية سوداني أن يساهم في المقارعة بالفكر، وتدوين الثراث الثقافي والفني السوداني بكافة أشكاله.
ولدت مجلة الثقافات السودانية من رحم مركز الدراسات السودانية الذي تم تأسيسه في القاهرة عام 1992 بروح وثابة من د. حيدر، وبالقدرة على الحلم وبتفاعل جميل من أصدقائه المصريين.
وعبر مركز الدرسات السودانية الذي كان مقره في شارع شامبيليون بوسط القاهرة قبل أن ينتقل في مرحلة لاحقة إلى مصر الجديدة، تفاعل د. حيدر مع كل المؤسسات الفكرية والبحثية المصرية والعربية منذ أن هجر السودان بعد انقلاب الجبهة القومية الإسلامية وحتى عودته إليه خلال العقد الأول من القرن العشرين، حيث كانت محطته الأولى كأستاذ اجتماع سياسي حاصل على درجة الدكتوراة من ألمانيا في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية. وكانت هذه هي المحطة التي تعرفت فيها علي د. حيدر عام 1991. ثم كان مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، منصة تم فيها التفاعل بين مركز الدرسات السودانية ومركز الأهرام في مؤتمرات كبرى حول السودان وأحواله وتطوراته. كما شاركنا الدكتور حيدر في كل الفاعاليات المرتبطة بمشروع الإسلام السياسي وأثره وتداعياته في المنطقة العربية.
أما قضايا الديمقراطية والإصلاح السياسي حيدر هو فارسها، حين شارك في مشروع الإصلاح السياسي العربي بمكتبة الإسكندرية، والمجلس القومي للثقافة العربية بالرباط الذي اختطفه من القاهرة لبعض الوقت.
عاش حيدر إبراهيم في مصر لفترة تجاوزت عقدين من الزمن علي فترتين أنقطعت إحداهما في المغرب والأخرى كانت في السودان بعد 2005 حين عاد حيدر تحت مظلة انفتاح سياسي نسبي سمح له أن ينقل مركز الدرسات السودانية للخرطوم وأن يكون هذا المركز منارة إشعاع علمي وتنويري، فإلي جانب أعمال المركز العادية في البحث، فإنه دشن إصدار تقرير استراتيجي سنوي سوداني من منصة مستقلة عن الحكومة. كما وفر لأجيال من السودانيين فرصة التعلم ومهارات البحث، وكذلك إتاحة الفرصة للحصول على الثقافة والعمل من مكتبة المركز التي كانت مفتوحة للجميع.
وتحت مظلة القمع الفكري والتطرف الديني في بلد كان يحكمه قانون للنظام العام يحرم لبس البنطلون على النساء ويلزمهم بالحجاب قانونًا ويلاحق الشباب إن تجرؤا على اللقيا مع فتيات حتي في الشارع استطاع حيدر إبراهيم بإمكانات المركز المتواضعة، أن يدعو إلى السودان في رموز الفكر والثقافة والإبداع العربي ومن هؤلاء أمسيات كان محمود درويش.
أما على المستوى الشخصي، فقد اعتنق الرجل شعار “كن واقعيًا واطلب المستحيل”. هذا الشعار الذي رفعته ثورات الشباب في النصف الثاني من القرن العشرين، وحوله حيدر إبراهيم إلى واقع في مجتمع يركن للشفاهة، فأصدر فيه عبر مركز الدرسات السودانية 220 عنوانًا في العشرين سنة الأولي من عمر المركز، الذي تعرض للإغلاق من جانب النظام السياسي للبشير عام 2012 كنتيجة مباشرة للحرب التي شنها حيدر ضد نظام الإخوان المسلمين في السودان، ومن مؤلفاته في هذا المجال سقوط المشروع الحضاري/أزمة الإسلام السياسي الجبهة القومية في السودان نموذجًا/الأمنوقراطية وتجدد الاستبداد في السودان/كسب السلطة وخسارة الدين. بينما كان من أخريات كتبه أنثربولوجيا الشعر والحجاب.
وعلى الرغم من المعركة الضروس التي أدارها حيدر إبراهيم ضد الظلامية في السودان على المستوى الفكري، إلا أن حصل على اعتراف أعدائه من الإسلامويين السودانيين بتميزه، وريادته واستحقاقه لقب المفكر المتميز الممثل للسودان، وذلك مع كل جائزة أو تقدير دولي يحصل عليه د، حيدر إبراهيم إقليميًا ودوليًا.
من يعرف حيدر إبراهيم يعلم كيف كان الرجل حرًا من أي استعباد، مخلصًا ومبدئيًا، فعاش في القاهرة كل سنواته دون أن يملك منزلًا، كما عاش في السودان متأجرًا وليس مالكًا لأي شيء سوى إخلاصه لأفكاره واهتمامه بالشباب وتنويرهم ودفعهم نحو المزيد من التعلم في كافة المجالات.
لم يبخل علينا حيدر إبراهيم بتفاصيل مسيرته الإنسانية والعلمية، فكتب مذاكراته الشخصية ورحلته من السودان للقاهرة التي حصل فيها على ليسانس اجتماع من جامعة القاهرة عام 1970، ثم رحلته إلى ألمانيا التي عمل فيها بأعمال هامشية حتى يستطيع أن يوفر القدرة على الاستمرار للحصول على الدكتوراة. حيث جاء هذا السفر تحت عنوان أزمنة الريح والقلق والحرية. وهو كتاب في 320 صفحة، سجل فيها كل تفاعلاته الإنسانية مع المحيطين به ومواقفه التي ما فتئت داعمة لحرية الفكر الإنساني وضرورة تحليقه إلى آفاق كل مستحيل مرئي ليكون واقعيًا.
هذه السطور استدعاها وجود د. حيدر إبراهيم في أحد مستشفيات القاهرة مستشفيًا، لنقول له وبالطريقة السودانية شكرًا حيدر على ما أبدعت وما قدمت من عمل وفكر وجهد لمسيرة تلاقي نخب وادي النيل في دعم الحرية كقيمة أساسية رافعة لتقدم مجتمعاتنا التي ما زالت تزرح تحت وطأة القيود.