في أسبوع واحد تأرجح المسيحيون المصريون ما بين ممارسة نوستالجيا محببة في شهر رمضان الذي يصبغ الحياة المصرية كلها بلونه، وبين رمضان الجديد الذي صار ضاغطًا عليهم. والذي يأتيهم وكأنه علامة على التمييز الديني. ففي حين استيقظت الإسكندرية على مقتل القمص ارسانيوس وديد على يد جهادي سابق (نهرو عبد العزيز)، والذي قضى عقوبة بالسجن في قضية إرهاب سابقًا، ذلك في حادث قتل على الهوية، فإن سيدة شكت من رفض محل كشري شهير بالقاهرة تقديم الطعام لها قبل المغرب، فانتشرت حملة لمقاطعته، قبل أن تنشر صحيفة قاهرية فتوى لشيخ عربي تصف فيها المسيحيين بالكفار، وتضطر بعدها للاعتذار استجابة لحملة تنديد واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي.

رمضان الذي يحبه المسيحيون

عن رمضان الذي يحبه المسيحيون، يقول مارك فلبس الباحث في اللاهوت وشئون المسيحيين: كإنسان مصري شرق أوسطي، تربيت في بيئة عربية إسلامية، أسمع الآذان خمس مرات يوميًا، وأجد نفسي مُحاطًا بمظاهر التدين الإسلامي في أغلب تفاصيل حياتي اليومية، التلاوات القرآنية في المواصلات العامة، حِفاظ زملائي المسلمين على إقامة الصلاة في توقيتاتها، ونداءات “الصلاة على النبي” المتلاحقة التي تجري في أواسط الحديث كما تجري المياه في الجداول. بل والمشاركة الحقيقية في احتفالات دينية ذات طابع شعبي.

كمسيحي، اشترى حلاوة المولد كل عام، ولديَّ ماكيت لفانوس رمضاني صغير في غرفتي، ولوحة خشبية حُفرَت عليها الآية الكريمة: “أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ”. وهي من بقايا هدية قديمة حصلت عليها في أحد تلك المناسبات.

ظمأ التعارف

يؤكد مارك أن كل تلك المظاهر يتلقاها المسيحي برحابة صدر. بل ويجدها فرصة للقاء والشراكة بينه وبين أخوته من المسلمين، الذين لا تتوافر لديهم نفس القنوات والمعابر والسُبُل التي يستطيعون من خلالها التواصل ثقافيًا ووجدانيًا مع مسيحيي مصر. فالمسلم العادي لا تتوفر له مصادر صحيحة لمعرفة معتقدات المسيحيين ولا طقوسهم ولا طريقة عيشهم الخاصة.

وهو يوضح: القبطي أصبح يُعاني مما يُمكن تسميته بـ”ظمأ التعارف”. وأحببت هنا أن استخدم ذات اللسان القرآني، في سورة الحجرات: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚإِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”.

يشير مارك أن المسيحي يرتبط برمضان وجدانيًا أكثر مما يتخيل المسلم العادي، ودون أن يؤثر ذلك على إيمانه أو قناعاته الدينية. إذ يُمكننا الحديث عن “جماليات” الشعيرة الرمضانية الخاصة جدًا. وهي تعبير خصوصي عن هوية التدين المصري الذي يلمس المسيحي مع المسلم.

يقول: لا أستطيع أن أُنكر التأثير الجمالي العميق للتلاوات الدينية التي يعقبها الآذان عند لحظة الغروب. وإذا أضفنا إلى ذلك حالات النوستالجيا التي تنتابنا في تلك اللحظات، فهذا أمر لا يُمحى من ضمير وشعور الشخص إلى الأبد.

رمضان الذي لا يحبه المسيحيون

أما رمضان الذي يكرهه المسيحيون، فهو رمضان مختلف على حد قول مارك. يقول: تموت الرغبة في اللقاء، وتشوه الجماليات الرمضانية حين يخرج منزع الشراكة هذا عن حدوده إلى ما يُسميه الأقباط بالـ”ذمية”. وهو مصطلح خاص يُطلق على المبالغة في التودد والاسترضاء واللعب على أوتار كسب مشاعر الاستحسان والثناء من المسلمين.

ينتقد مارك ما يسميه “عُصاب محموم آخر يصيب بعض المسلمين”. موضحا: وهو عندما تتحول حركتي الحرة نحو الشراكة إلى قواعد فقهية مفروضة عليَّ بالإكراه من دين الآخر، لأني ذمي، وربما كافر كما في الفتوى التي صدرتها الجريدة الشهيرة. فلا يحل لي المجاهرة بالإفطار كوني كافرًا مُخاطبًا بأحكام الشريعة.

هنا تتحول حريتي إلى فرض، فتموت الرغبة في الشراكة وتتحول إلى ضدها، أي نفور وخلاف، ويُشوه المعنى الجمالي.

يشدد مارك: في النهاية، لا أحد يرغب في التحكم فيما يدخل جوفه أو لا يدخل من قِبل أي أحد وتحت أي زريعة، وكشخص مسيحي حر، أقرر أن أقتل إظهار رغبتي في إظهار الشراكة من أجل الحفاظ على حريتي وكرامتها.

يضيف مارك: يجب أن يعي المسلم هذا، ويستثمر تلك الفرص القليلة للتعارف على آخره المسيحي كما يأمره القرآن الكريم، لا أن يهد الجسور ويبني القلاع ويُكبِّر للحرب.

رمضان في تاريخ الجبرتي

ويذكر ماركو الأمين، الباحث المتخصص في التاريخ الكنسي، تاريخ الجبرتي. فيقول: إن شهر رمضان وفق الجبرتي كان موسمًا قاسيًا على المسيحيين. خاصة بعد الاحتلال الفرنسي لمصر. حين بدأ الحديث عن مجاهرة الكفار (أي الفرنسيين) بالفطر. ما دفع إلى إصدار مرسوم يطالب بمراعاة العادات الدينية والثقافة. غير أن الأمر بدأ مع الدولة الفاطمية التي تمسكت بمظاهر دينية واحتفالية صبغت الشهر الكريم. فصار الصوم عرفًا اجتماعيًا وثقافيًا أكثر منه طقسًا دينيًا.

ويتفق الأمين يتفق مع فلبس في حالة التباين. وهو يميز بين رمضان الذي يثير مشاعر النوستالجيا ورمضان العصابي. والأخير تعاني فيه المسيحيات أو غير المحجبات من “استغفر الله العظيم” و”اللهم  إني صائم”، تحاصرهن في الشوارع والأسواق. كما تقل فيه القدرة على الإنتاج وإنجاز المصالح اليومية بكفاءة، تعللًا بالصيام. ذلك وصولًا إلى ما جرى في محل الكشري. فضلًا عن الخطأ المهني الذي ارتكبته الصحيفة الشهيرة. وهو يرى أن تلك الوقائع انعكاسات عما جرى في رمضان الجديد الذي لا يحبه المسيحيون.