كثيرًا ما يخلط البعض بين مشكلات المواطنة ومواجهة التشدد والطائفية، وبين استهداف الأقباط بالقتل أو عمليات إرهابية مثلما جرى مؤخرًا في الإسكندرية مع الكاهن أرسانيوس وديد أو قبلها مع عمليات إرهابية استهدفت كنائس ورجال دين ومواطنين أبرياء.
إن هذا الخلط يرجع لكون البعض اعتبر أن الأفكار السلفية والتشدد هو الذي يصنع العنف أو على الأقل هو خطوة على طريق تحويل الفكر المتشدد إلى ممارسة متشددة أي ممارسة العنف والقتل.
والحقيقة أن هذه المقولة ليس لها أي أساس علمي ولا عملي، وإن الأفكار المحافظة التي ينحاز فيها المسلم للمسلم أو المسيحي للمسيحي، تخلق بشر رجعيين أو طائفيين وليس إرهابيين، فنجد مسلمين لا يرتاحون لبناء كنيسة ويعتبرون أن مصر بلد المساجد ودولة إسلامية وعلى المسيحيين القبول بذلك، وهناك مهما ادعى أنه مؤمن بالمواطنة، فإنه يميز بين المصريين على أساس الدين، وإن كل هؤلاء رغم أراءهم المتعصبة فإنهم لم يفكروا للحظة أن يقتلوا مسيحي ولا أن يبرروا قتله حتى لو لم يؤمنوا بحقة في المواطنة الكاملة.
والحقيقة أن هؤلاء الناس يعدوا بالملايين، وأن تغيير قناعتهم ودفعهم نحو الإيمان بالمواطنة لا يعني محاربة الدين أو تهميش دوره في المجال العالم (وليس المجال السياسي)، إنما هو مشروع لتقدم هذا البلد، وهو يتطلب جهود سياسية ومبادرات أهلية ودولة قانون تحاسب، وهي كلها أمور جوهرها سياسي واجتماعي قبل أن يكون ديني.
فعلينا ألا نتصور أن الأزهر هو الذي سيحل مشكلة المواطنة وليس الدولة، فالأزهر قام بواجبه في إصلاح مناهجه وقدم رؤية في بعض القضايا أكثر تقدما من المجتمع نفسه، في حين إنه سيكون مطلوب من الدولة ان تواجه الطائفيين بمشروع سياسي واجتماعي يعتبر الكفاءة هي القيمة العليا في النظام السياسي، وعلى أساسها يحدث الترقي والصعود المهني، وبالتالي تتحول قضية المواطنة إلى ممارسة في الوقع وليس شعارات، فأي بلد ينوي التقدم سيعتمد على الكفاءات بصرف النظر عن دينها، وهو ما سيعني مواجهة الطائفية والتمييز بشكل علمي وعملي.
يقينا مصر تواجه تحديًا كبيرًا اسمه “بناء المواطنة” وتواجه تيارات متشددة غير مؤمنة بقضايا المواطنة، ولكن هذه المشكلة ليس لها علاقة بالعنف والإرهاب الذي ينطلق من منطلقات أخرى، وإن الخلط بينهما يجعلنا نختزل المعركة في إصلاح الخطاب الديني، ونتناسى الجوانب الأخرى وعلى رأسها قضايا الإصلاح السياسي وبناء دولة القانون والتنمية الاجتماعية والثقافية والعدالة الاجتماعية. وهي كلها أمور تحاصر الطائفية وتعزز من مبادئ المواطنة بالممارسة وليس بالشعارات.
أما تحدي الإرهاب واستهداف المسيحيين بعمليات قتل تكررت في السنوات العشر الأخيرة لأسباب عديدة منها تنامي تنظيم داعش قبل انكساره مؤخرًا، وتبنيه عقيدة تكفيرية لكل المخالفين لتوجهاته واعتبر نفسه في حرب مع الدولة والجيش والشرطة والأقباط والمسلمين المخالفين له.
والحقيقة أن مواجهة داعش وتنظيمات التطرف والإرهاب يجب أن تنطلق من دحض خطابه الجديد، والتي مثل شريط داعش الذي بثه في 2017 نقطة تحول في تاريخ هذه الجماعات حيث انتقل من “التكفير الديني” للأقباط إلى “التكفير السياسي” أو بالأحرى قدم خليط من الاثنين، فقد قال دواعش القتل عن الأقباط إنهم جماعة سلطة وأذرع النظام الحالي وإنهم فئة سياسية باغية قبل أن يكونوا طائفة دينية، ووضعوهم في نفس مرتبة النظم التي يحاربونها ويصفونها بالنظم الطاغوتية والمرتدة، واعتبروا أقباط مصر امتداد للصليبين في الخارج ولنظام السيسي في الداخل، ولم يكتفوا ببث الكراهية السياسية إنما روجوا لخطاب حقد اقتصادي واجتماعي وصف المسيحيين بأنهم يسيطرون على 40% من الاقتصاد المصري (كلام فارغ). ثم انتقل بعد ذلك إلى خطاب كراهية طائفي حين بث صورًا لمظاهرات مسيحية خرجت منها هتافات طائفية متطرفة كرد فعل لاعتداءات تعرضوا لها.
صحيح، هناك خط اتخذته القيادة الرسمية للكنيسة وكثير من الأقباط مؤيدًا للنظام الحاكم وهو مشروع. ولكن استغله المتشددون ليحصروا المسيحيين كلهم في خانة التأييد والدعم الكامل للسلطة، واعتبروهم جماعة حاكمة، وشركاء فيما يسمونه بمظالم يتعرض لها المسلمون. والحقيقة أن الأقباط متنوعين ويحملون آراءً واجتهادات سياسية متعددة، وتصويرهم على أنهم جماعة حكم أو سلطة فيه ظلم فادح لهم.
وإذا كان من الوارد الاختلاف مع الطريقة التي يتعامل بها الحكم مع الملف القبطي أو تتعامل بها قيادة الكنيسة الوطنية المصرية مع بعض الملفات إلا أنه لا يمكن تصوير ملايين الأقباط كظالمين ومستغلين كما ظل يروج داعش لسنوات طويلة ليبرر عملياته الإرهابية التي سقط ضحيتها مئات الأبرياء.
إن نظرية الإخوان أن 30 يونيو صناعة مسيحية لأنهم يكرهون الإسلام والحكم الإسلامي، هي كذبة أكبر من كل الأكاذيب السابقة، فقضية الحب والكرة لا مكان لها في دولة القانون. ومن حق المسيحيين أن يرفضوا الإخوان المسلمين وخطاب الإسلام السياسي مثلما هو رأي كثير من المسلمين أيضًا. وعلى ممثلي هذا التيار أن يسألوا أنفسهم “لماذا يرفضوننا”؟ لماذا لم يؤيد المسيحيون أي حكم رفع رايات إسلامية وخلط الدين بالسياسة؟ والإجابة لأنهم تعرضوا في عصره لانتهاكات كثيرة.
وهنا لم يختلف المسيحيين عن غالبية المسلمين الذين رفضوا حكم الإخوان، مع فارق رئيسي أن الأقباط لم يواجهوا خصومهم بالعنف والإرهاب؟ ولم يخرج منهم تنظيم متطرف هدفه اغتيال قادة التيارات الإسلامية مثلما يفعل الدواعش وحلفائهم.
لا يمكن اعتبار معركتنا مع الأفكار المتشددة هي نفس معركتنا مع العنف الإرهاب، ولا يجب أن نتصور أن أدوات المعركتين واحدة، ولا شخوص الأولى هم نفس شخوص الثانية، فمعركة بناء المواطنة هي معركة التقدم ودولة القانون في مصر ولا تخص فقط أو أساسًا إصلاح الخطاب الديني إنما إصلاح المجال السياسي،
أما معركة محاربة الإرهاب وجرائم القتل التي تستهدف المسيحيين، فهنا مواجهتها ستكون بالأمن. وهو ما حدث وحوصر الإرهاب وتراجع تنظيم داعش، وبقيت بيئته الحاضنة التي تتأثر بخطابه وتستمتع لاتهامات سياسية (أكثر من الدينية) باطلة بحق الأقباط، والمطلوب تفنيدها والرد عليها بمشروع ورؤية سياسية.