في باكستان سرّعت مجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية الداخلية وعوامل خارجية متأزمة من عملية الإطاحة بعمران خان، من منصب رئاسة الحكومة. إطاحة انضم فيها خان إلى قائمة مكتملة من رؤساء الحكومة الذين لم ينجح أحدهم في استكمال مدته إلى النهاية. لكن الفارق أن لاعب الكريكت الأسبق كان أول رئيس وزراء يُطاح بتمرد مدني وليس عسكري.
وجه خان أصابع الاتهام إلى الولايات المتحدة -وإن لم يقدم دليلا ملموسا على ذلك- في محاولة لتصوير عملية استبعاده وكأنها تمت بتوجيهات خارجية. لم يكن اتهامه دقيقا وإن كان جزءا من الوقائع ارتبط بالفعل بالولايات المتحدة. إذ أثار نهجه في السياسة الخارجية مخاوف النخبة المدنية السياسية المرتبطة بالأخيرة اقتصاديا، والجيش -صانع السياسية الخارجية- المرتبط بها عضويا.. والجيش، وهو العصب الأهم في نظام الحكم الباكستاني، وقد كان المؤسسة التي دعمت خان في الوصول إلى منصبه الذي رحل عنه بعدما رُفع هذا الدعم.
يمكن فهم ذلك بوضوح في الموقف المتباين من الحرب الروسية على أوكرانيا، فقد رفض خان إدانة الغزو وزار موسكو في أول أيام الحرب وأعلن استمرار شراء القمح والبترول من روسيا، ورد على رسالة وجهها رؤساء 22 بعثة دبلوماسية في إسلام أباد تحثه على إدانة الغزو، قائلا إنهم يعتقدون أن باكستان “عبد” لهم. وهكذا فُسّرت تحركاته كانحياز للمحور الصيني الروسي أكثر من كونها نهجا محايدا. لذلك سعى قائد الجيش، “قمر جاويد”، لمعالجة الوضع مؤكدا أن لبلاده “تاريخ وعلاقة استراتيجية ممتازة مع أمريكا”، والأهم من ذلك؛ أنه انتقد غزو روسيا لأوكرانيا ودعا لوقفه، معتبرا إياه “عدوان ضد دولة أصغر لا يمكن التغاضي عنه “.
تاريخ “البُعد الواحد” والمسارات المتقاطعة
تشي الاضطرابات السياسية الأخيرة في باكستان والمرشحة للاستمرار، بطبيعة العلاقات المُعقدة مع الولايات المتحدة. علاقات وصّفها عمران خان بأنها قائمة على بُعد واحد بالنسبة للولايات المتحدة -يقصد الجانب الأمني- وأنه يجب أن تكون “متعددة الأبعاد” ولا تقتصر على قضية واحدة.. والقضية غالبا ما كانت أفغانستان، سواء في الثمانينيات وقت الغزو السوفييتي أو في مطلع الألفية الثالثة وقت الغزو الأمريكي.
يقول “المجلس الأطلنطي” إن العلاقات بين البلدين تم تأسيسها على أسس مُحددة كروابط معاملات تم فيها ضمان الأمن والمساعدة للولايات المتحدة في مقابل المال لباكستان “وبمجرد أن تتلاشى التهديدات الأمنية، تعود العلاقة إلى وضع يكاد لا يتشاركان فيهما في مصلحة مشتركة من شأنها أن تلزمهما بالتعاون”.
تتفق مجلة “ناشيونال إنترست” الأمريكية مع هذا المنظور. وتؤكد أن العلاقة خدمت بعض المصالح الحاسمة لكلا منهما على مدى العقود الستة الماضية، وكلها كانت مدفوعة بحاجة الولايات المتحدة قصيرة المدى لتعاون باكستان لتعزيز مصالحها الأمنية والاستراتيجية وحاجة باكستان طويلة الأجل لرعاية واشنطن الاقتصادية والاستراتيجية.
اقرأ أيضًا: حروب الاستخبارات الأمريكية «السرية» في أفغانستان وباكستان
يدعونا ذلك للعودة إلى أكتوبر/تشرين الأول 1947 حين كانت الولايات المتحدة الأميركية من أوائل الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع باكستان. وقد رجَّحت الأخيرة منذ تأسيسها كفَّة العلاقة مع الولايات المتحدة على حساب العلاقة مع الاتحاد السوفيتي آنذاك. وتطورت العلاقة على مدى العقود التالية بتقديم امتيازات تدريبية عسكرية للجيش الباكستاني وبناء قواعد جوية أمريكية.
ورغم فرض حظر اقتصادي وعسكري على باكستان خلال حربيها مع الهند -منتصف الستينيات وأوائل السبعينات- خرجت تكهنات تقول إن الولايات المتحدة قدَّمت لباكستان أسلحة ومساعدات عسكرية؛ لوقف اجتياح الهند لمزيد من المدن الباكستانية؛ حيث إن فقدان باكستان كان يعني للإدارة الأمريكية فقدان حليف مهم في الحرب السوفيتية. رغم أنها لعبت على الجانبين وقدمت دعما للهند كذلك اعتبرته إسلام آباد “خيانة” من حليفها.
دور واشنطن السلبي
يقول بيتر أوبورن، كبير كتَّاب الأعمدة السياسية سابقًا بصحيفة “تليجراف” البريطانية، الذي غطى السياسة الباكستانية على مدار عقدين من الزمان إن الولايات المتحدة تعاملت مع باكستان كدولة تابعة منذ استقلالها عام 1947. وقد هندست وكالة الاستخبارات المركزية الانقلاب الذي أنهى 11 عامًا من الحكم المدني في عام 1958، ونصبت أول ديكتاتور عسكري باكستاني، وهو أيوب خان. وأشار الرئيس الأمريكي السابق دوايت أيزنهاور إلى موافقة الولايات المتحدة على النظام الديكتاتوري من خلال زيارته لباكستان بعد ذلك بوقت قصير.
لكن اللافت، بحسب أوبورن، هو أن خمسة رؤساء أمريكيين فقط زاروا باكستان على الإطلاق (أيزنهاور وليندون جونسون وريتشارد نيكسون وبيل كلينتون وجورج دبليو بوش) ولم يسبق لهم زيارة باكستان خلال فترات الحكم المدني. ويشير إلى أن المساعدات الأمريكية دائمًا ما ترتفع بشكل صاروخي خلال الديكتاتوريات العسكرية “ما يسخر من ادعاءات الولايات المتحدة بدعم المؤسسات الديمقراطية”.
توضح “ناشيونال إنترست” أنه يُحسب للولايات المتحدة، في أول مشاركة خلال السنوات الأولى من تاريخ باكستان، تعزيز القدرات الدفاعية والتنمية الاقتصادية لباكستان، مما أدى إلى استقرار الدولة حديثة النشأة. “لكن هذه كانت المرة الأخيرة التي ساعدت فيها الولايات المتحدة باكستان حقًا”.
لعبت واشنطن دورًا مهمًا بشكل خاص في اختلال موازين القوة والضعف الهيكلي للنظام القائم على النخبة في باكستان، بحسب المجلة. وأصبحت في النهاية ركيزة خارجية للحفاظ على النظام. ما أدى إلى خلق سياسات خاطئة من كلا الجانبين.
وتشير “يُشتبه في أن الأحزاب السياسية الباكستانية حاولت في كثير من الأحيان تكوين فكرة، بشكل مباشر أو غير مباشر، عن رد فعل واشنطن على التعيينات أو السياسات المهمة من أجل تجنب تنفير الولايات المتحدة. وهذا يعكس تبعية هؤلاء السياسيين وحرصهم على عدم فقدان ‘عاطفة’ واشنطن أكثر من سيطرة الولايات المتحدة على باكستان”.
لكن في المقابل يُحسب للقادة الباكستانيين، مدنيين وعسكريين على حدٍ سواء، أنهم وقفوا أيضًا في مواجهة الضغط من الولايات المتحدة عندما تعلق الأمر بمصالح وطنية مهمة، كما في حالة البرنامج النووي الباكستاني أو العلاقات مع الصين.
حسابات “الحرب على الإرهاب”
كان لافتا الموقف الذي اتخذه عمران خان بإبداء سعادته برحيل الولايات المتحدة عن أفغانستان، بل وتقاربه مع حركة “طالبان”. واعتبر أن تحالف بلاده مع أمريكا كلّفها الكثير من الهجمات الإرهابية والاضطرابات الأمنية.
ووفقا لـ”ناشيونال إنترست” فقد كانت توترات أمريكا مع خان تتصاعد منذ أن تولت إدارة جو بايدن السلطة. ولم يكن ذلك بسبب سياسة خان الخارجية “المستقلة”، ولكن بسبب “إحساس محتمل بخيبة الأمل في أن بلاده، التي جعلتها النخبة معتمدة على المساعدة الخارجية والتي كان مجتمع الأعمال وجيشها على دراية بفوائد العلاقات الجيدة مع الولايات المتحدة، تتحدى الواقع على حساب مصالح البلدين”.
لكن جذور الدعم الباكستاني رغم الخلافات بشأن الحرب الأفغانية وعدم فك الارتباط بالحرب على الإرهاب هو أن الأموال من واشنطن كانت مفيدة للجيش الباكستاني في تحديث وشراء أسلحة عسكرية. والقيام بنفس الشيء كان يمكن أن يصبح مهمة صعبة، بالنظر إلى الحالة السيئة لاقتصاد البلاد، كما جادل الأكاديمي والسياسي الباكستاني أكبر زيدي. والذي أشار “ذهبت المساعدة من الولايات المتحدة إلى الجيش الباكستاني، مما عزز قبضته على الاقتصاد السياسي للبلاد. كما أن الصور التي يستخدمها الجيش لإبراز تضحياته في محاربة الإرهاب قد حسّنت من شرعيته داخل البلاد”.
استغل الجيش إذا “الحرب على الإرهاب” لجعل أهميته محسوسة واستثمر فيها. و”لقد فعل ذلك ببراعة، وزادت المخاوف الأمنية لواشنطن من خلال دعم حركة طالبان وشبكة حقاني وتوسيع قواعدها في الأراضي الباكستانية”، مثلما يعتقد تحليل “المجلس الأطلنطي”، رغم الآثار السلبية الخطيرة على باكستان أيضًا، حيث أن حركة طالبان باكستان (TTP) وغيرها من الجماعات الإرهابية استخدمت نفس المناطق للاختباء والتحضير لشن هجمات على باكستان.
“قد تكون هناك خلافات طفيفة حول هذه القضية بين القيادة المدنية الباكستانية والجيش. في حين أن القيادة المدنية قد تكون قلقة بشأن الأضرار الاقتصادية الإجمالية والتكاليف البشرية للعبة، إلا أنها قد لا تسبب الكثير من القلق في حساباتها للتكاليف والفوائد بالنسبة للمصالح الاستراتيجية للجيش”، يوضح المركز البحثي البريطاني.
اقرأ أيضًا: الخوف من الصين والنظام العالمي الجديد
ويرى جيمس شويملين، الباحث غير المقيم في برنامج جنوب آسيا في مركز كارنيجي، أنه “من غير المرجح أن يكون لخروج خان من منصبه بمفرده تأثير إيجابي أو سلبي على العلاقات بين البلدين. لكن ادعاءاته بالمؤامرة من المرجح على الأقل أن تؤدي إلى تدقيق صارم في جميع ارتباطات باكستان مع الولايات المتحدة والغرب”.
وقد وصف الدبلوماسي السابق والمتخصص في الشأن الباكستاني، العلاقة بأنها “دورات من تحطيم الفقاعات”، في إشارة إلى أن العلاقات تصبح جيدة عندما تتداخل المصالح الاستراتيجية (مثل الحاجة لتسليح المجاهدين الأفغان أمام السوفييت والمساعدة بعد 11 سبتمبر/أيلول) بينما تحدث الانهيارات عندما تتباعد المصالح، حين تنتهي هذه القضايا.
الصعود الصيني يُباعد المسافات
تراجعت مكانة باكستان في السياسة الخارجية الأمريكية خلال العقد الماضي، حيث تحول اهتمام واشنطن من مواجهة الإرهاب إلى مواجهة الصعود الصيني. وأصبحت واشنطن أكثر ميلا للنظر إلى علاقاتها مع باكستان ضمن إطار أوسع يأخذ في الاعتبار المصالح الأمريكية المتنامية مع الهند.
يظهر هذا التراجع –بحسب مركز “أسباب” للتحليلات الجيوسياسية– في الانهيار الحاد للمساعدات الخارجية التي تتلقاها إسلام آباد من واشنطن؛ فبينما بلغت في عام 2010 ما يناهز 4 ونصف مليار دولار؛ لم تتجاوز في عام 2020 حدود 70 مليون دولار. وعلى العكس من الجهود التي بذلتها واشنطن في السابق لتوازن بين علاقتها مع إسلام آباد وعلاقتها مع الهند، الخصم الرئيسي لباكستان، اتجهت واشنطن مؤخرًا إلى تفضيل علاقتها مع الهند، حيث أقامت أمريكا التحالف الرباعي “كواد”(QUAD) مع كل من الهند واليابان وأستراليا، والذي يرتكز على التعاون في المجالات الأمنية والاقتصادية والتكنولوجية في سياق الصراع الأمريكي الصيني.
بالمقابل تطورت العلاقات الباكستانية مع الصين، إذ وسّعت باكستان علاقاتها الاقتصادية مع الصين واستمرت في سياسة الاقتراض منها بشكل مكثف، وقدمت بكين في السنوات القليلة الأخيرة نحو 11 مليار دولار لباكستان على هيئة قروض تجارية ومبادرات لدعم احتياطيات النقد الأجنبي، بجانب مشروع الحزام والطريق والذي متوقع أن يجلب إجمالي استثمارات -رغم تباطؤها- بقيمة 60 مليار دولار. “لكن كل ما سبق لا يعكس نهاية للنفوذ الأمريكي في باكستان، كما لا يعكس عمق العلاقات الباكستانية الأمريكية على مستوى قادة الجيش والاستخبارات”، وفق تعبير المركز.
القرب المتزايد لإسلام أباد من بكين “سيبقى شوكة في العلاقات الباكستانية الأمريكية” رغم أن إسلام أباد تود من جانبها منع المزيد من الانحدار في العلاقات، بحيث تخفف واشنطن موقفها تجاه القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF) لباكستان. فاستمرارها في البقاء على القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي، يعني أن الحصول على مساعدات مالية من منظمات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبنك التنمية الآسيوي سيكون مهمة صعبة. وهي مساعدات تحتاجها إسلام آباد بشدة في ظل التدهور الاقتصادي.
ووفقًا لمايكل كوجلمان، نائب مدير برنامج آسيا في مركز ويلسون، فإن الجانبين بحاجة إلى أن يكونا أكثر واقعية في توقعاتهما. إذ يجب على الولايات المتحدة أن تدرك أن باكستان لن تجري تغييرات في سياساتها لمجرد أن الولايات المتحدة تريدها أن تفعل ذلك. وبالمثل، يجب على باكستان أن تدرك أن الولايات المتحدة ببساطة “ليست مهتمة بشراكة استراتيجية عميقة”.
بينما يعتقد رئيس مجلس الدفاع في مجلس الشيوخ الباكستاني، مشاهد حسين، أن واشنطن مازالت بحاجة إلى إسلام أباد ربما أكثر مما كانت عليه قبل 20 عامًا، لأن الولايات المتحدة ليس لديها أي حلفاء في هذه المنطقة بخلاف الهند.
ويضيف “الصين وروسيا وإيران وأفغانستان أصبحوا بالفعل خارج نطاق سيطرة الولايات المتحدة. تركيا، حليفهم القديم، تقترب أكثر من موسكو. السعودية تعيد تقييم علاقتها بالفعل لأنها لم تعد تثق في الالتزامات الأمريكية. تُركت باكستان التي تقع في موقع استراتيجي وهي القناة الرئيسية لكابول. لذا، إذا كنت تتحدث عن الاستقرار في المنطقة، فإن إسلام أباد تمتلك المفتاح وواشنطن في أمس الحاجة إليه من أجل ذلك”.