بعد أكثر من عشر سنوات من الحرب في سوريا. يبدو البلد ممزقًا، دون أمل قريب في الوصول إلى تسوية سياسية للنزاع. تحولت البلاد إلى ساحة اختبار لجيوش وأجهزة خمس دول أجنبية هي إيران، وإسرائيل، وروسيا، وتركيا، والولايات المتحدة. إضافة -بالطبع- إلى عدد كبير من الميليشيات المحلية وأخرى عاملة بالوكالة لدول أجنبية. كلها لديها وجود عسكري على الأرض. تتغير مساحات نفوذها طبقًا للكر والفر الموجود على الأرض.

بالنظر إلى الوضع الذي تبدو عليه سوريا اليوم. نجد أن مناطق النفوذ العسكري -بالإضافة إلى مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967- هي أربع مناطق. أولها التي تسيطر عليها الحكومة في دمشق، والتي تضم حوالي % من الأراضي السورية. بينما شمال شرق سوريا يخضع للحكم الذاتي الذي لا تعترف به حكومة دمشق. وشمال غرب سوريا -محافظة إدلب– تحكمها حكومة الإنقاذ السورية. بينما شمال حلب تسيطر عليها تركيا، وتحكمها عبر حكومة مؤقتة معارضة.

في الوقت نفسه، لا تزال بقايا تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” نشطة في الأراضي السورية. مع استمرار الاقتتال الداخلي بين فصائل المعارضة. وكذلك بينها وبين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية. فيما تواصل إسرائيل مهاجمة أهداف مرتبطة بإيران والميليشيات المدعومة من إيران. والنظام -المدعوم من روسيا- لم يتخل عن محاولات استعادة السيطرة على كل سوريا وواصل هجماته في إدلب.

اقرأ أيضا: تحديث كفاءة جيوش الكرملين.. ثمن إنقاذ الأسد في سوريا

روسيا.. من حفظ الدولة إلى حفظ المكانة

دفع الربيع العربي -الذي انطلقت أحداثه في 2011- موسكو إلى اتخاذ موقف أكثر فاعلية في الشرق الأوسط. ومواجهة سياسة تغيير الأنظمة، التي تفسر على أنها مدفوعة من قبل الدول الغربية. مع ذلك، خلال المرحلة الأولى من الأزمة السورية، تجنبت موسكو التدخل المباشر. بدلاً من ذلك، قدم الكرملين الدعم السياسي والإمدادات العسكرية للحكومة في دمشق. في الوقت نفسه، أدلى المسؤولون الروس بانتظام بتصريحات مفادها أن موسكو “لم تكن تحاول الدفاع عن الرئيس الأسد”. بل “كانت تحاول حماية الدولة السورية”.

لكن، دفع ظهور وانتشار تنظيم الدولة في سوريا في 2014. موسكو للتدخل المباشر قبل أن تصبح دمشق مركزًا للإرهاب. ليس ذلك هو الهدف الوحيد. ففي الوقت الذي واجهت فيه موسكو ضغوطًا غربية بشأن احتلال جزيرة القرم الأوكرانية في ذلك الوقت. رأت في سوريا فرصة لتحسين مكانتها الدولية. وإثبات للرأي العام الدولي أن روسيا يمكن أن تلعب دورًا إيجابيًا. وتواجه واحدة من أكثر التهديدات خطورة على الصعيد العالمي، وهي الإرهاب.

كان من المقرر في البداية أن يكون الانتشار العسكري الروسي محدودًا من حيث الوقت والنطاق. اعتبارًا من أكتوبر/ تشرين الأول 2015، كان الهدف هو استقرار الوضع الأمني، وضمان بقاء الحكومة الشرعية، وخلق الظروف للتسوية السياسية. مع ذلك، بحلول نهاية عام 2017 -على الرغم من التحسينات الأمنية الكبيرة- صار جليًا أن روسيا لا تستطيع سحب قواتها بالكامل من سوريا. حيث كان الجيش السوري لا يزال أضعف من أن يحارب الجماعات المسلحة بمفرده.

لماذا استمر الوجود الروسي في دمشق؟

كانت هناك ظروف دولية شجعت موسكو على زيادة وجودها العسكري في سوريا. في ظل التدهور الملحوظ للعلاقات الروسية-الأمريكية، جاءت سوريا كإحدى المناطق التي تنافست عليها القوتان العظمتان. في هذا السياق، أصبحت قوات التدخل السريع الروسية في سوريا جزءًا من المحيط الدفاعي الخارجي الذي يحد من النشاط البحري الأمريكي في شرق البحر المتوسط.

نتيجة لذلك، وعلى الرغم من انسحابها الرمزي الجزئي في عام 2017. أنشأت روسيا قواعد جوية وبحرية دائمة في اللاذقية وطرطوس. وتم نشر عدة كتائب من الشرطة العسكرية الروسية كقوات حفظ سلام -بحكم الأمر الواقع- لحماية ما يسمى بمناطق خفض التصعيد. واتفاقيات المصالحة بين الحكومة السورية وجماعات المعارضة المسلحة، وتم تكليف مئات من المستشارين العسكريين بإعادة بناء الجيش السوري. كما استمرت الشركات العسكرية الخاصة في العمل في البلاد، لتعويض النقص في القوات السورية ذات القدرات القتالية.

هكذا، انجذبت موسكو ودمشق إلى بعضهما البعض. وأصبحا حليفين مقربين بحكم الأمر الواقع، بسبب الظروف والمصالح المشتركة.

اقرأ أيضا: القصف الإسرائيلي على دمشق وتقاطعاته مع المصالح الروسية.. ما القصة؟

استراتيجية روسيا في سوريا

وفق دراسة أعدها خبراء مركز دراسات الحرب. هناك ثلاثة سيناريوهات رئيسية لسوريا في الفترة التي تسبق عام 2030. لكل سيناريو مزاياه وتحدياته الخاصة، لكن الثلاثة جميعها مقبولة بالنسبة لموسكو، لأنها لا تتعارض مع الأهداف والمصالح الاستراتيجية لروسيا.

أول هذه السيناريوهات هو تجميد الصراع. والذي يعتبره الكثيرون هو الأكثر جدوى للفترة القادمة. يتحقق هذا في حال إحجام حكومة الأسد عن تقديم أي تنازلات كبيرة للمعارضة وتنفيذ إصلاحات سياسية. لكن، بدون مصالحة وطنية -محدودة على الأقل- ستبقى البلاد عرضة للتدخل الأجنبي -التركي أو غيره- من خلال دعم مجموعات المعارضة.

عندها، ستبقى استراتيجية الكرملين في الغالب دون تغيير مقارنة بالعام الحالي 2022. خاصةً إذا استمرت المواجهة مع الغرب، واستمرت أهمية القواعد العسكرية في سوريا لأمن روسيا. ستكون روسيا أحد الضامنين الرئيسيين -إن لم يكن الوحيد- لسيادة سوريا ضد التدخلات الأجنبية. وستستمر موسكو في تزويد دمشق بمساعدة عسكرية كبيرة. ليس من المرجح أن تحاول روسيا -علانية- إخراج القوات الأجنبية غير المرحب بها من سوريا، لأن مثل هذه الإجراءات قد تؤدي إلى مزيد من التوترات مع تركيا أو الولايات المتحدة. وستدافع روسيا عن مصالحة وطنية وتدعم جميع صيغ التفاوض. لكنها لن تعتبرها أولوية.

السيناريو الثاني هو دولة مركزية متجددة، وهو الأكثر جاذبية لقاطن دمشق. فهو يشمل استعادة وحدة أراضي سوريا وهياكل حكومية مركزية قوية. لكن، ترى غالبية نخبة السياسة الخارجية الروسية أنه من غير المحتمل أن تعود سوريا إلى وضعها السابق عام 2011. لأن هذا سيتطلب موارد لا تمتلكها الحكومة في دمشق، ولا يستطيع حلفاؤها توفيرها. مع ذلك، فإن خروج الولايات المتحدة من أفغانستان أظهر أن الاعتبارات السياسية المحلية قد تجبر معارضي حكومة الأسد على تقليص نشاطهم. أو حتى الانسحاب الكامل.

احتمالية إصلاحات محدودة

في حالة عودة الدولة المركزية، من المرجح أن تقدم روسيا دعمًا عسكريًا -وبدرجة أقل ماليًا- لعودة دولة بعثية مركزية. إذا كانت الظروف الإقليمية والدولية لمثل هذا السيناريو مواتية. سيكون هذا السيناريو ملائمًا لموسكو لأنه لا يتطلب من روسيا أن تمارس أي ضغط على الحكومة في دمشق فيما يتعلق بموضوع الإصلاحات.

أمّا الخيار الأكثر تفاؤلاً فهو اللامركزية، على الرغم من أنها أيضًا الخيار الأقل ترجيحًا. لأنها تتطلب قدرًا أكبر من المرونة من جانب السلطات السورية. إذا أصبحت حقيقة واقعة، فإنها ستشمل إصلاحًا محدودًا ضمن الإطار السياسي الحالي.

بالتالي يمكن أن تكون بمثابة بديل للفيدرالية -التي تم رفضها – وتسمح بإعادة دمج المناطق الكردية. والأهم من ذلك، أنه سيفتح الطريق أمام مصالحة مع جزء من المعارضة من خلال تقاسم محدود للسلطة. من المنظور الروسي، ينبغي أن تتضمن اللامركزية نقل السلطة إلى مستوى المقاطعات والبلديات-على سبيل المثال- من خلال تمكين المجالس المحلية لاتخاذ قرارات بشأن الشؤون المحلية وتزويدها بمزيد من الاستقلال المالي.

قد تصبح الانتخابات المحلية والبلدية بمشاركة الأحزاب السياسية المختلفة أساسًا للتحرير التدريجي في المستقبل. لكن، قد تتحدى عملية اللامركزية الوحدة الوطنية والاستقرار الداخلي، لأنها قد تشجع الأقليات على المطالبة بالحكم الذاتي.

اقرأ أيضا: تقويض النفوذ الإيراني في سوريا: هل تنجح المساعي الإقليمية؟

إيران.. جاءت لتبقى

منذ بداية الصراع السوري، تمكن نظام الأسد من البقاء، بينما وسعت حليفته إيران نفوذها في جميع أنحاء سوريا. عندما قرر قادة إيران التدخل في الأزمة السورية عام 2011. كان هدفهم الأساسي إنقاذ حليفهم السوري من الانهيار. ثم أدى صعود جماعات مثل تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”. إلى توسيع نشاطها في البلاد.

ينصب تركيز إيران في الأراضي السورية على ضمان نفوذها طويل الأمد في البلاد. ومنع تقويضها من قبل الخصوم. لتحقيق هذا الهدف، ترتكز استراتيجية إيران الحالية في سوريا على ثلاث ركائز. أولها التسلل إلى الهياكل العسكرية والأمنية السورية. فحاولت لعدة سنوات الترويج لعناصر موالية لها داخل الجيش والنظام الأمني السوري. وإنشاء ميليشيات محلية جديدة، ودمج الميليشيات الموجودة في الهياكل الرسمية للجيش السوري.

هناك تقارير تفيد بأن إيران تمكنت من الحصول على الجنسية السورية لعدد كبير من وكلائها الأفغان والباكستانيين -من لواء فاطميون وزينبيون- ودمجهم في صفوف الجيش السوري. سعت إيران أيضًا إلى دمج قوات الدفاع الوطنية، ثم قوات الدفاع المحلي، كوحدات رسمية ولكن موازية في القوات المسلحة السورية. إلى جانب ذلك، تمتلك إيران بالفعل عناصر موالية في المخابرات الجوية السورية، والفرقة الرابعة والحرس الجمهوري. وفي شرق سوريا شكل فيلق الحرس الثوري الإسلامي عام 2021 لواء تابعًا له.

كذلك، تحاول إيران السيطرة على الممرات الاستراتيجية منذ هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في شرق سوريا أواخر عام 2017.  فحاولت تعزيز سيطرتها على معبر البوكمال القائم على الحدود السورية- العراقية. تسمح السيطرة على هذا المعبر لإيران بالحفاظ على اتصال بري مباشر مع حلفائها، من العراق إلى لبنان. هذا هو أحد الأسباب التي جعلت محافظة دير الزور أصبحت منطقة رئيسية في استراتيجية إيران تجاه سوريا على مدى السنوات الأربع الماضية. كما حاولت إيران أيضًا توسيع وجودها في ميناء اللاذقية على البحر الأبيض المتوسط. وتعزيز السيطرة على مطار حلب.

ما هو نهج إيران تجاه سوريا؟

أصبح دور إيران في سوريا متعدد الأبعاد والتعقيدات خلال العقد الماضي. ولكن لتقييم الآفاق المستقبلية بدقة -بالإضافة إلى أولويات إيران- يجب مراعاة مجموعة من العوامل، أولها العلاقة الشخصية الوثيقة بين كبار المسؤولين الإيرانيين -بمن فيهم المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي- بالرئيس السوري بشار الأسد. حيث أن أي تطور يستتبع الإطاحة بالأسد من السلطة يمكن أن يقلل من نفوذ إيران. أيضًا، منذ أن بدأت روسيا تدخلها المباشر في سوريا في سبتمبر/أيلول 2015. عملت طهران وموسكو سويًا بشكل وثيق لإنقاذ الأسد. مع ذلك، كانت هناك منافسة متزايدة بين البلدين لتحقيق نفوذ أكبر في الاقتصاد السوري. وكذلك في الهياكل العسكرية والأمنية.

يضع الإيرانيون في اعتبارهم أيضأ الدور الصيني في مستقبل سوريا. ففي عام 2020، وقعت إيران والصين اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة. في هذا السياق، تسعى إيران إلى تعريف نفسها على أنها في مركز طريق عبور بري يمتد باتجاه البحر الأبيض المتوسط ​​عبر العراق وسوريا، في إطار مبادرة الحزام والطريق الصينية.

يرتبط هذا -بشكل ما- بالانفراج المأمول في مستقبل العلاقات الإيرانية- الأمريكية لإحياء الاتفاق النووي. حيث يمكن لاستعادة الاتفاق أن تقلل من عدوانية استراتيجية إيران في سوريا. من خلال تخفيف التوترات بين إيران من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى. وقد يخفف ذلك أيضًا من حدة المواجهة بين إيران وإسرائيل. التي امتدت منذ فترة طويلة إلى سوريا.

كذلك، يعتقد البعض أن عملية التطبيع العربي مع دمشق، التي بدأت عام 2018، وصارت جلية في الزيارة التي قام بها الرئيس بشار الأسد إلى الإمارات. تهدف -جزئيًا على الأقل- إلى الحد من نفوذ إيران في سوريا.