يمثل الأزهر الشريف مؤسسة تثير عند البعض تساؤلات عديدة ؟ بدءا من أين أتت قوة الأزهر ومكانته إلى مستقبل الأزهر إلى هل الأزهر جاد في تجديد الخطاب الديني ؟

في حقيقة الأمر إن ما يثيره الأزهر من تساؤلات تعود إلي تلك المكانة التي يحظى بها في العالم الإسلامي والعديد من الدول غير الإسلامية حول العالم، هذا ما جعل العديدين يعتبرونه المؤسسة المرجعية للإسلام ، بالرغم من محاولات استلاب هذا الدور عبر عدد من المؤسسات كمجالس العلماء أو الهيئات الإسلامية، لكن كلها لم تستطع أخذ ولو جانبا من مكانته.

من أين أتى الأزهر؟

يعتقد الكثيرون أن الأزهر المدرسة العلمية أتي من الجامع الفاطمي ، لكن الأزهر المدرسة أتي من مدرسة جامع عمرو بن العاص التي أسسها ابنه العالم الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص ،كان جامع عمرو كالجوامع الأولى في ديار الإسلام مقرًا للعلم والعلماء، فتلقى به الطلاب علوم الفقه والتفسير الحديث، والعلوم اللغوية من نحو وبلاغة وأدب، وتاريخ إسلامي، والرياضيات، والفلك. وكان بالمسجد زوايا لتدريس العلم، وقف الخيِّرون عليها أموالًا كثيرة، فكثرت المناظرات العلمية، ومطارحة الشعر، وظهر التنافس بين العلماء والتلاميذ، وخاصة بين المذاهب الفقهية، وسجل المقريزي حالة المسجد العلمية فقال:

“كانت هناك زاوية الشافعي يدرس بها الإمام رضي الله عنه فعرفت به، وتولى التدريس بها أعيان الفقهاء وجلة العلماء” “والزاوية المجدية – بصدر المسجد بين المحراب الكبير ومحراب الخمس، داخل المقصورة الوسطى – رتبها الوزير مجد الدين بن أبي الأشبال” “والزاوية الصاحبية، حول “عرفة” رتبها الصاحب تاج الدين محمد ابن فخر الدين محمد بن بهاء الدين، وجعل لها مدرسين؛ أحدهما مالكي، والآخر شافعي” “والزاوية الكمالية – بالمقصورة المجاورة التي يدخل إليها من سوق الغزل – رتبها كمال الدين السمنودي” “والزاوية التاجية – أمام المحراب الخشب – رتبها تاج الدين السطحي”” والزاوية الزينية، رتبها زين الدين للقراءة”، وهذه الزوايا كانت أماكن داخل الجامع خصصت للعلم وأهله، وكانت تقوم مقام المدارس التي انفصلت وظيفتها عن مسجد عمرو ابتداءً من العصر الأيوبي بالفسطاط بالقاهرة[i]، إلي أ، انتقل علماء جامع عمرو بن العاص تدريجيا من مدرسة عمرو إلي الأزهر وبصورة كلية في نهاية العصر المملوكي .

الجامع الأزهر أو جامع القاهرة كما عُرف عند الشروع في تأسيس حصن القاهرة، هو المسجد الجامع لحصن القاهرة، موضعه من الحصن شاهد على التراجع الديني أمام السياسي في دول الإسلام، فبعد أن كان المسجد هو قلب المدينة وأكبر منشآتها، صار جزءًا منها، لكنه متمم لأركان السلطة في الدولة الإسلامية، شيد الأزهر في الجانب الجنوبي الشرقي لقصور الفاطميين، بالقرب من باب زويلة، حيث تصبح حركة زواره من الراغبين في الصلاة وحضور الخطب والدروس به، ممن يسكنون خارج الحصن سهلة ميسورة، كما أن الجامع قريب من الطرف الجنوبي للقصر الشرقي “مشهد رأس الحسين حاليًا”، شرع جوهر الصقلي في بناء المسجد في يوم السبت لست بقين من جمادي الأولى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة[ii]، أي بعد تسعة أشهر من بدء بناء أسوار القاهرة والقصور، هذا الترتيب في الإنشاء عَكَسَ ما كان معهودًا في مدن الإسلام الأولى: الكوفة والبصرة والفسطاط، حيث كان البَدءُ ببناء المسجد الجامع سنةً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، تم بناء الجامع الأزهر في شهر رمضان من سنة 361 هـ، وأقيمت الصلاة به من اليوم السابع من ذلك الشهر 22 يونيه 972 م، كان الأزهر المسجد الجامع الذي كان يدرس به في العصر الفاطمي المذهب الشيعي الإسماعيلي، ومع انتهاء العصر الفاطمي ، درس به علماء السنة المذاهب الأربعة، ولم يغلق صلاح الدين الأيوبي المسجد بل ظلت الصلاة به وأبطل به صلاة الجمعة فقط التي نقلت إلي جامع الحاكم بأمر الله، ونمت مع الزمن أوقاف المسجد وتزايد الإقبال عليه لكونه مدرسة علمية متعددة المذاهب بها حرية فكرية فجاء له طلبة من الصين إلي المغرب ومن مصر إلى جنوب إفريقيا .

إن هذا يقودنا إلى سلطة المعرفة وإلى سلطة العلماء، وهي سلطة تكشف عن استقلالية وقوة العلم ومؤسساته، فقد كان الشيخ أحمد بن عبد الحق السنباطي أعلن عدم سريان أحكام الوالي العثماني داود باشا لأنه عبد وأحكام وولاية العبيد لا تجوز ولا تسري على الأحرار، فهم الوالي بسيفه ليحد من حياة الشيخ، إلا أن الناس والعلماء والطلاب والجند وقفوا له، فاضطر للجوء للسلطان سليمان القانوني الذي أعتق الوالي وجعله حرًا، وعين الشيخ أحمد بن عبد الحق شيخًا للأزهر فظهر هذا المنصب لأول مرة[iii]. وكان ذلك سنة 945هـ/ 1538م، هذه الحادثة دعمت سلطة ودور الأزهر الشريف، الذي شهد في ذات القرن معارك من مستوى آخر. إذ مع انتشار مشروب القهوة في مكة المكرمة والقاهرة واستنبول، رأى بعض علماء الدين أنه مشروب مسكر، حتى أصدر السلطان العثماني فرحانًا بغلق المقاهي وتجريم شرب القهوة، إلا أن أنصار القهوة لجؤوا إلى مشايخ وعلماء الأزهر، الذين كان لهم رأي آخر، حيث اعتمدوا على التجربة العلمية، إذ قام الشيخ زكريا الأنصاري بإحضار مجموعة من متعاطي القهوة وأمرهم بشر بها أمامه وناقشهم وتأكد له أن القهوة مشروب غير مسكر، فأفتى بحلها وألف في ذلك كتابًا سماه “إيناس الصفوة” وكذلك فعل الشيخ محمد بن إلياس وكذلك الشيخ عبد القادر الجزيري المتوفى 977هـ الذي ألف كتابًا سماه “عمدة الصفوة في حل القهوة” كان هذا سببًا في انتشار المقاهي وسقوط فرمان السلطان سليمان القانوني أمام التجربة العملية من قبل العلماء.

من هنا نستطيع أن نفهم سبب سطوة الأزهر علميا علي العالم الإسلامي كما أننا نستطيع أن نضيف أن اللغة التركية كانت حاجزا وسببا في عدم احتلال استنبول مكانة كبيرة في العالم الإسلامي بالرغم من أنها عاصمة الدولة العثمانية، لكن إلى أين يسير الأزهر؟

استطاع الدكتور أحمد الطيب بسبب من رصانته وقوة شخصيته أن يرسخ مكانة الأزهر، والأزهر لأسباب متعدة ينظر له على أنه محطة للتجديد الفكري للإسلام كدين في عصر يشهد تحولات عميقة، الحقيقة أن الأزهر شهد لفترة جمودا في علومه لكن هذا الجمود كان نسبيا نتيجة للتكرار في بعض الأحيان ونتيجة للتهميش في أحيان أخرى، والواقع يقول إنه حتي في العصر العثماني شهد طفرات غير مرئية للكثيرين نراها في مؤلفات شيخه أحمد بن عبد المنعم الدمنهوري في أواخر القرن 18 الميلادي في الطب وعلوم المياه وغيرها، وكذلك نهضته التي شهدها على يد الشيخ حسن العطار، كما كانت هناك جهود بذلت في التجديد الفقهي في الأزهر لكن وئدت إعلاميا ورسميا، من ذلك اجتهادات الدكتور محمد علي السايس عضو هيئة كبار العلماء الذي توفي سنة 1976 م، ففي الوقت الذي تصاعدت فيه فتاوي تحريم التصوير الفوتوغرافي تصدي هو بالبحث والدرس والمجابهة العلمية بأنه ضرورة علمية وحياتية، كما أصدر كتابا فارقا هو الفقه الاجتهادي الذي يقول فيه: ( الناس بعد ذلك أحوج إليه (الفقه الاجتهادي) لتجدد الحضارات، وتغير الأعراف والعادات، وتبدل المصالح بتبدل الأزمنة والأمكنة، فما يكون صالحا في زمان قد لا يكون صالحا في غيره، وما يكون محققا لحكم الشريعة وأغراضها في مكان قد لا يكون محققا لغاياتها في مكان آخر) ونراه في خطوة أخرى يؤلف كتابا مثيرا لم يأخذ حقه هو كتاب (مقارنة المذاهب في الفقه) ألفه بالاشتراك مع الشيخ محمود شلتوت، وقد ابتدع العالمان في هذا الكتاب نوعا جديدا من دراسة الفقه، أساسه أن توضع المسألة بذكر حكمها في كل مذهب من المذاهب، ثم تعرض أدلة المذاهب، ووجهات النظر التي كانت منشأ اختلاف المذاهب، ثم تناقش الأدلة من جميع الجوانب المتصلة بأخذ الحكم ليستخلص من تلك المناقشات الرأي الذي يراه المؤلفان، هنا المؤلفين بعدا تماما عن العاطفة المذهبية والتقليد، لكن السؤال: إذا كان لدينا فقيه مجتهد بهذا الحجم لما لم تنتشر مؤلفاته ويجري الاعتماد عليها، إن اعتداد الدكتور محمد علي السايس برأيه وشخصيته جعله بعيدا عن السلطة بل نشب بينه وبين الرئيس جمال عبد الناصر خلافا أبعده أكثر، فضلا عن أن مصر في السبيعينيات تركت لجماعات الإسلام السياسي وهمش كبار العلماء وهمشت معهم مؤلفاتهم، في الوقت الذي أدى فيه التوسع غير المحسوب في المعاهد الدينية والكليات الأزهرية إلى الحديث عن الكم والكيف ومستوى الدارسين والخريجين من الأزهر، على الجانب الآخر ظلت الوسائل التقليدية هي وسيلة الأزهر للتواصل فتركت الوسائط الحديثة، فضلا عن عدم نشر اجتهادات العديد من الأزهريين فظلت إما حبيسة الأدراج أو في رسائل علمية لم تنشر ولم يعرف عنها شيئا، انظر إلى جهود بذلت من عدد من الباحثين في كلية القرآن الكريم لاعادة النظر في الوقف والابتداء في قراءة القرأن الكريم، في ما يقرب من 6 رسائل علمية ، لقد وصل الاجتهاد هنا حتي في قراءة القرأن الكريم، وهذا ما تم في خلال السنوات القليلة الماضية، إن مشكلة الأزهر هي إما أن الإعلام لا يجهد نفسه في البحث عما يدور داخل المؤسسة، أو أن إعلام الأزهر لديه مشكلات تواصل مستمر ولديه مشكلات مع اكتشاف القدرات الكامنة داخل المؤسسة، إن هناك جيلا من علماء الأزهر القادمين بصورة عصرية وبرؤى عصرية ابتعثوا لجامعات أوربا خاصة بريطانيا حتى إن الإغراءات تطاردهم لعدم العودة لمصر، ويبقى السؤال حول الدكتور أحمد الطيب الذي كان وراء هذه البعثات وتنشيطها، أليس لنا أن نسأله لماذا يجري وأد اجتهادات وتجديدات علماء الأزهر ، ولنا أن نسأل أين مؤلفات  الدكتور محمد حسين الذهبي الذي اغتيل بسبب من آرائه وأبحاثه حول آراء لا تتوافق مع صحيح الإسلام؟، أين مؤلفاته فلا يعرف منها غير موسوعة التفسير والمفسرون؟، ألم يحن الوقت لبناء ببليوغرافيا شاملة لكل ما يؤلف وألف في الأزهر لكي نعرف منها أين الأزهر من قضايا التجديد ومدى مسايرة الأحكام لمتطلبات العصر على أن تتاح رقميا لكي يعرف من لا يعرف.

 

[i] خالد عزب، الفسطاط، دار الآفاق العربية، القاهرة، 1998م، ص 148:154

[ii] المقريزي، الخطط، جزء2، تحقيق أيمن فؤاد سيد

[iii] حسام عبد المعطي، شيخ الجامع الأزهر في العصر العثماني، مكتبة الإسكندرية، 2016.