تسع سنوات مرت على الإطاحة بنظام جماعة الاخوان المسلمين في مصر، ولا يزال النظام الحاكم يعيد ويزيد في الحديث عنهم: مسلسلات وأفلام، وخطب وندوات. وبعد تلك السنوات التسعة من نهاية حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، قرر النظام إخراج تسجيلات لاجتماعاته السرية التي -رغم أهميتها -لم تعد تهم أحد، ولم تعد لها قيمة حقيقية، لا عند الإخوان وأنصارهم، ولا عند خصومهم وأعدائهم. وبعد قرابة قرن من استخدام حكام مصر للجماعة داخلياً وخارجياً، أتى النظام الحالي بما لم يأت به الأوائل، ألا وهو استخدام أشباحهم.

وبعد عقود من اعتماد الأنظمة على الدراما والسينما في التعبئة الوطنية والدعاية السياسية تحول العمل الدرامي الأهم والأضخم بالنسبة للنظام الحاكم إلى عمل كوميدي يثير ضحك المشاهدين الممزوج بالألم على حال الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية المتردية. وبعد كل تلك السنوات من الحرب -التي دفعنا جميعاً أثمان باهظة فيها -نجد أنفسنا أمام السؤال الجوهري ألا وهو: هل يريد النظام التخلص من الاخوان حقاً؟

لنعد إلى الوراء كي نرى الصورة جيدا

إن الملك فاروق “يريد أن يؤسس مصر على أفضل المناهج، ويسلك بها أقرب الطرق إلى كل خير، وهو بذلك يكسب ولاء أربعمائة مليون من المسلمين في آفاق الأرض تشرئب أعناقهم، وتهفو أرواحهم إلى الملك الفاضل الذي يبايعهم على أن يكون حامي المصحف، فيبايعونه على أن يموتوا بين يديه جنودا للمصحف، وأن الله قد اختار لهذه الهداية العامة الفاروق، فعلى بركة الله يا جلالة الملك ومن ورائك أخلص الجنود”.

كانت هذه العبارات جزء من مقال بعنوان “حامي المصحف” كتبها الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الاخوان المسلمين في عدد صحيفتها رقم 44 الصادر في 9 فبراير/شباط عام 1937، مادحاً الملك “الطفل” الذي لم يكن قد بلغ الثامنة عشر من عمره بعد، وكان لا يزال تحت الوصاية ولم يتسلم مهامه الملكية إلا في شهر يوليو/تموز اللاحق على هذا المقال خلال حفل ضخم احتشد خلاله أعضاء الجماعة في ساحة قصر عابدين مرددين “الاخوان المسلمون يبايعون الملك المعظم”.

ومنذ تلك الأزمنة الغابرة، منذ اللحظة الأولى لخروج الجماعة ككيان سياسي منظم استلهم مؤسسه فيه النماذج الحديدية الصاعدة في أوروبا: الفاشية والنازية، صار الإخوان أداة عظيمة في أيدي الأنظمة لترسيخ سلطتها وسطوتها، بضرب التنظيمات السياسية مثلما فعل فاروق بهم ضد أحزاب الوفد والأحرار الدستوريين، أو ضد الشيوعيين داخل الجامعة، حتى وصل الأمر خلال إحدى جولات الملك مع الحكومة أن طالب حسن البنا بإلغاء الأحزاب السياسية تماما قائلاً “الحياة السياسية يا مولاي أفسدت كل الأعمال، وعطلت كل النواحي من الخير، وأتت على كل جوانب الإصلاح”.

وتتكرر اللعبة بحذافيرها مع ثورة يوليو وخصومها، وأنور السادات ومعارضيه، وحسني مبارك الذي توسع استخدامه لهم إلى خارج البلاد بتخويف الأمريكان والغرب بهم، ثم المجلس العسكري للقضاء على ثورة يناير. وما نراه من تلك النظرات المتأملة للتاريخ أنه عادة ما تستمر تحالفات الكراهية تلك بين الأنظمة والجماعة حتى إذا تعاظمت قوة الأخيرة (خاصة من الناحية العسكرية) جاءتهم الضربة القاسمة التي تعيدهم إلى سيرتهم الأولى.

أمر فاروق حرسه الحديدي باغتيال المرشد الأول ومؤسس الجماعة الذي استشاره يوما في اسم رئيس وزراءه، واعتقلت الحكومات التالية خلفاء البنا من بعده وتم حل الجماعة مرات ومرات، وتعود الكرة مرة بعد مرة، وهو ما يجعل الإجابة على السؤال السابق واضحة تماما، فلا النظام الحالي يريد أن ينتهوا ولا الأنظمة السابقة أرادت ذلك.

لطالما كان الهدف الأسمى للأنظمة المصرية الحاكمة هو الخلود في الحكم والسلطة، والقضاء على أي منافس أو بديل لها، ولطالما كانت الجماعة من أعظم أدوات ضرب تلك البدائل، والتي تراها منافسها الأخطر الذي يجب التخلص منه، فضلاً عن أذرع النظام الأخرى من الأجهزة القمعية التي يأتي على رأس أولوياتها ضرب الأحزاب والتنظيمات السياسية والنقابية وقمعها أو تفجيرها من الداخل. هذا بجانب وظائف أخرى أدتها الجماعة وباقي الجماعات الأخرى -مثل السنة المحمدية -نيابة عن الدولة عبر المشروعات الخدمية والخيرية التي كانت في أوقات كثيرة بديلة عن دور الدولة في ملفات الصحة والتعليم.

في نهاية عام 2011، وخلال الانتخابات البرلمانية الأولى التي تلت الثورة حصلت جماعة الاخوان المسلمين على حوالي 44 بالمائة من مقاعد المجلس بعدد أصوات فاق العشرة ملايين صوت، وفي الانتخابات الرئاسية التي أعقبتها بعد 6 أشهر حصل مرشح الجماعة، محمد مرسي، على أقل من 24 بالمائة بعدد أصوات أقل من ستة ملايين صوت، وبعد سنة واحدة كانت هناك ملايين تملأ الشوارع للمطالبة بالخلاص من حكمهم، وبدلاً من الذهاب إلى انتخابات جديدة لتصويب المسار التي سارت فيه البلاد عام 2011 تم الإطاحة بالمسار كله، وهو ما أعطى للجماعة قبل الحياة من جديد.

لطالما كانت القوة الحقيقية لجماعة الإخوان المسلمين في قدرتهم على استغلال الدكتاتورية والقمع والفقر في نشر فكرهم القائم على خلق مجتمع موازي للمجتمع، ودولة موازية للدولة وامة موازية للأمة، وهو ما يصنع لها شعبية دون أدنى انجاز، فلقد خلقت الجماعة داخل أقبية مظلمة ونبتت عبر أنفاق ظلام الديكتاتورية التي لم يرد لمصر الخروج منها وسلمها الاستعمار للملكية التي سلمتها بدورها للجمهورية، ولو أريد حقاً لهذه البلاد أن تر النور لفتح لها آفاق عبر الديمقراطية وتداول السلطة الذي هو الاختبار الحقيقي لأي قوة سياسية بين الشعارات والعمل الحقيقي، ولنا في الانتخابات المغربية المثل، حيث قام الناخبون بالإطاحة بحكمهم بعد إعطائهم فرصة الحكم التي لطالما صوروا للناس إنها الفردوس الموعود، ليحصد الحزب 12 مقعداً خلال الانتخابات التي جرت نهاية 2021 بعد 125 في الانتخابات التي سبقتها.

عزيزي المنتج الكبير، لا مسلسلات ولا أفلام ولا خطب ولا شعارات يمكنها أن تنتصر على فكر الإخوان الذي تعلم التمدد والانتشار جيداً في ظلام الديكتاتورية والقمع والفقر -راجع التناسب الطردي لأصوات مرسي مع معدلات الفقر في المحافظات -وإيهام الناس بشعارات وأوهام وواقع مواز. ورغم ما تتوهمه بالقضاء على الجماعة، ستعود إليهم من جديد آجلاً أم عاجلاً، ولن تجني البلاد منكم سوى خسارة عمر فوق الأعمار وتدهور فوق التدهور وتعود الكرة من جديد، إذ لا بديل عن الظلام إلا بالنور، ولا بديل عن الديكتاتورية سوى بالديموقراطية والحرية والحكم الرشيد الذي لن يأتي بتشكيل المؤسسات -المفترض انتخابها من الشعب -داخل مكاتب مغلقة واختيار أعضائها بناء على تفضيلات سيادتك، ولا بديل عن التنظيمات السرية إلا بالعمل السياسي الحر والمؤسسات الحزبية في مناخ حر لا يبطش الأمن بها لتشكيلهم تحالف انتخابي أو يعتدي عليهم لعقدهم إفطار جماعي.

وكل ما هو غير ذلك عبارة عن ملهاة، تصنع بالجماعة ومعها، لتخسر مصر بتلك الملهاة الكثير من عمرها وأعمار شبابها وأبنائها الذين يذهبون ضحايا داخل المعتقلات أو داخل تنظيمات سرية غالبا ما تكون نتيجتهما فكر متطرفا معبأ بالكراهية والانتقام والعنف الذي سيجد لنفسه يوما مخرجاً ليدمر نفسه ومن حوله.

الديمقراطية هي الحل.

المصادر

صحيفة الاخوان المسلمين

مجلة النذير، 1938

مذكرات الدعوة والداعية، حسن البنا

فاروق وسقوط الملكية في مصر، لطيفة محمد سالم

تطور الحركة الوطنية، عبد العظيم رمضان

محمود هدهود، ثورة يناير: رؤية نقدية