كلنا، بلا استثناء، يبحث عن الحب.. منذ بدايات المراهقة، مع تغير نبرة الصوت والتفاف الجسد نبحث، مع الخجل وحماس الاستكشاف نبحث أوننتظر. ندخل في علاقات الكثير منها غير السوي، ولكنها تبدأ بالفراشات تطير حولنا في اللقاء الأول فننبهر بهذا الشيء الساحر الذي يفعل الأفاعيل. تمسنا اللعنة فنتخدر ونستسلم فلا نرى، وحين تبدأ الحواس تدرك والعقل يعمل فنلاحظ ونفترق نحزن ونصب اللعنات عليه. نغلق الأبواب ونقسم أننا لن نفتحها مرة أخرى، ولكننا نكون قد ذقناه حلوا.. فكيف ننسى؟  ثم يداعبنا هذا الكائن المسمى بالحب مرة أخرى. يُقلب لنا كشاف النور فنهرول ناحيته في بلاهة وحماس وفرحة وننسى القسم والحزن والفراق ونأمل أننا تعلمنا الدرس ونعد أنفسنا: لن نكرر نفس الأخطاء.. كلنا لا يستطيع مقاومة فكرة الوقوع في الحب.. أن نكون مع شخص أو شريك أو زوج أو حبيب.. نظل نبحث عنه ونتمنى، ولكن هل أدرك بعضنا أننا كنا نبحث بين الأشخاص الخطأ؟ أو أدرك أن هذا النوع من الحب ليس حقيقيا وأن هناك حب آخر أقوى وأبقى؟

(1)

“الحب.. وعذاب الحب.. ووجع القلب”

أصالة -2017

(2)

في مسلسل “فاتن أمل حربي” يخدعنا جميعا أول مشاهده، حين نظن أن السيدات اللاتي تجمعن حول فاتن بالتأكيد يحضروها و”يزوقوها” لعقد قرانها وزفافها. يؤكد ذلك فرحتهن بها وارتباكها وتوترها وفستانها الأبيض البسيط والزينة والبلالين.. نعم، هذا بالتأكيد زواج، ولكن حين يحضر العريس كما نظن. ويجلس أمام المأذون نعرف أنه ليس عريسا وأنها حالة طلاق.. وحين ينتهي إشهار الطلاق ويغادر المأذون وطليقها تعطيها صديقتها ورئيستها في العمل “نقوط” طلاقها احتفاء بها. وكأنها بالفعل عروس ستبدأ حياة جديدة، ثم تصيح: “حفلااااة” فيزغردن ويرقصن على أغنية سميرة سعيد “ما حصلش حاجة”.

وحين يسرق طليقها عفش بيتها وتنام فاتن وبناتها على الأرض، تتفاجأ فاتن في الصباح التالي بسيارة نقل صغيرة تقف تحت البيت عليها عفش بسيط أتت بها ميسون وبقية الصديقات..

حتى الأمهات أو الماميز-مثلما تعودنا أن نطلق الكلمة في سخرية- اللاتي في مركز الشباب في تمرين بناتهن مع بنات فاتن في السباحة والتايكوندو نجدنهن أيضا داعمات. خاصة حين يذهب إليها طليقها في المركز وقت التمرين مهددا وحين تنوي فاتن أن “ترفع قضية على قانون الأحوال الشخصية”..

في مشهد آخر تستنجد بهن صديقتها “سهير” التي تتعرض للضرب من زوجها. فيُسرعن جميعا إليها ويدافعن عنها أمام زوجها ويذهبن معها لعمل محضر في القسم، يحاوطنها بأذرعهن. ويدعمنها بكلمات قليلة مشجعة.. سلسلة من الدعم والحب بلا مقابل، دعم فاتن، دعم فتياتها، دعم سهير. دعم فاتن لزميلتها في السكن في دار الاستضافة، نزيلة مُعنفة تعاني من هلاوس بصرية وكوابيس تختضنها فاتن وتطمئنها وتعرض عليها أن تنام معها في غرفتها مع بناتها.

(3)

أنا واحدة من الأمهات دائما ما أجلس بين الماميز في استراحات التمرين في انتظار بناتنا. وأعرف أن دعم الأمهات لبعضهن حقيقي وواقعي ولا يظهر في المسلسلات ولا تريند على مواقع التواصل الاجتماعي..

عكس ما يشاع عن جروبات الأمهات، فأنا أجد الماميز في التمارين أو على مجموعة تطبيق واتس آب. فهن جميعا داعمات ينقذن من يستطعن إنقاذه، ويساعدن بعضهن بعضا.. نعرف بعضنا ليس بالأسماء فقط. وإنما بقدرة كل واحدة على ما تقدمه للأخريات بلا مقابل، مع الوقت ينمو حب من نوع مختلف، به الكثير من الامتنان والاطمئنان حين نتقابل ونضحك ونحكي.

الدعم والحب يُقدم مجانا بلا شرط، هذه ترعى بنات فلانة حتى تعود من مشوارها. وهذه تلملم شعر ابنة فلانة قبل دخولها لصالة التمرين، وهذه تتطوع وتُحضر لنا يوما طعاما أو تفرق أصابع الموز على الصغيرات في أوقات الراحة بين الحصص.. نوصل البنات في طريقنا لأن فلانة تعبانة ولن تستطيع الحضور لاستلام ابنتها. نُرسل مع بناتنا الحب غير المشروط والسلامات ورسائل أطمئنان للأمهات المنتظرات.

(4)

“أحلام سعيدة”

مسلسل “أحلام سعيدة”.. تجلس ثلاث نساء والرابعة تقف بينهن تلبي طلباتهن. أربعة نساء في أعمار مختلفة ومن طبقات اجتماعية وتعليمية مختلفة ولكنهن يجلسن يتضاحكن ويسخرن ويأتين على سيرة الرجال في حياتهن. يجمع بينهن حادث يُعطل حياة فريدة/ يسرا، فيتحمل البقية عصبيتها وصوتها العالي وتناكتها. وحين يقتربن منها يذوب كل هذا وتظهر الشخصية الرقيقة الطيبة التي تنتظر السؤال والاهتمام. تقترب شيرين وليلى في هدوء وخوف وتتحمل صدفة الخادمة النصيب الأكبر من الزعيق. تتحول جلساتهن لفضفضة وضحك وشكوى ونصايح وأحضان ومواساة تنتج حبا بينهن يساعدهن على المضي والتحمل كل واحدة في مشاكلها بشكل ناعم وبسيط وتدريجي وبلا حوار مباشر فج أو مشاهد خطابية.

(5)

“اتنين اتنين.. أصحاب أصحاب.. يتخانقوا ساعات يتصالحوا ساعات”

فيلم بنات وسط البلد

(6)

في العامين الماضيين ومع إجراءات الغلق بسبب كورونا، صرنا أكثر وحدة وابتعادا عن الناس والأحباء ولكن هذه الوحدة لم تكن سيئة كما ظننا. فقد منحتنا الوقت حتى يصفو ذهننا ونرتب أولوياتنا فيمن نريده في حياتنا، وبسبب مرض الكثيرين منا بالكورونا فقد وجدنا أن الأصدقاء. يجب أن يأتوا في أول القائمة ربما قبل الحبيب، ووجدنا أن الحب ليس فقط في العلاقات العاطفية بين شخصين.

تقول دراسة أجراها تطبيق “هابين” للمواعدة في بداية العام الحالي أن واحدا فقط من ثلاثة يتطلع للوقوع في الحب هذا العام. بينما 37% يبحث عن الزواج من خلال التطبيق، وتشير إحصائية صادرة عن مكتب الإحصاء الوطني في بريطانيا. أن حوالي 3.7 مليون بالغ في المملكة المتحدة (7.2 في المائة من السكان البالغين) إنهم شعروا بالوحدة “كثيرًا” أو “دائمًا” بين أكتوبر 2020 إلى فبراير2021 وهو وقت تطبيق الحظر بسبب الوباء..

حسنا.. يبدو أن الوحدة لم تنل من الصداقة بل عززتها، وجعلت الكثيرين يدركون أن الحب موجود في علاقات أخرى. أنا مررت بهذا أيضا، فأنا شخص يحب الوحدة والجلوس في المنزل والابتعاد عن التجمعات. أهرب من المناسبات الاجتماعية وأرى أنها مشاهد تمثيلية، أصنع في بيتي عالمي الخاص وإن خرجت أستمتع بالخروج وحدي. وكلما أزددت انعزالا صفا ذهني ورتبت الناس من حولي في قائمتي. وأدرك أن الحب بين الأصدقاء لا يعوض حب الحبيب ولكنني أعرف أيضا أن حب صديق حقيقي هو حب دائم ويستمر وبلا فراق منتظر. في وحدتي وجدت أن الأصدقاء وبالتحديد من تبقى منهم ونجا من عملية الفرز- هم الأولى بالحب والمنح والتقدير. فالعلاقات العاطفية قليلا ما تستمر طويلا، وتحدث بشروط ولا تستمر بلا تنازلات. أما الأصدقاء –حين نستبقي الحقيقيون منهم  يصيرحبهم خير وأبقى.