تمت الإشارة في الجزء الأول من المقال إلى أن مهمة المصالحة بين تيارات مصر الفكرية والسياسية المدنية لا تبدأ من فراغ، وأنها راكمت نسقا منتظما من المراجعات في اتجاه الإنصاف والتقارب فيما بينها وأن الاحتفال بالذكرى المائة لثورة ١٩١٩ قبل ٣ أعوام، وبالعام السبعين لثورة 23 يوليو هذا العام إنما تفتح الباب لمزيد من هذا التراكم خاصة من المدرسة العلمية المصرية لكتابة التاريخ.
ويقدم هذا الجزء من المقال جهدا في استدعاء بعض النجاحات والمبادرات التي قامت بها رموز من هذه التيارات على مستوي الكتابة والتنظير وإعلان المواقف.
اقرأ أيضا في المقال الأول
مراجعات التيار الناصري
في التيار القومي الناصري كان الكاتب الكبير محمد عودة رائدا مبكرا ومؤثرا- في جيل من الشباب التفوا حوله وآمن هو بهم في سبعينات القرن الماضي- في مسعي رد الاعتبار لثورة ١٩١٩ قدوة التيار الليبرالي ونموذجها الذي تهتدي به وبزعيميها التاريخيين سعد زغلول ومصطفي النحاس.
فدافع في كتبه المختلفة (ميلاد ثورة- سبع باشوات.. إلخ) عن أن ثورة ٢٣ يوليو – المرجعية العامة للتيار الناصري القومي- ليست على عداوة مع ثورة ١٩١٩ -المرجعية العامة للتيار الليبرالي- وإنما هي الامتداد الطبيعي لها، في تحقيق هدفها الرئيسي وهو الاستقلال وخروج الاحتلال البريطاني والتي كانت ثورة ١٩١٩ قد أنجزته جزئيا بتصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢ بتضحياتها الهائلة من فلاحي وشباب مصر، وجاءت ثورة يوليو لتنجزه كاملا باتفاقية الجلاء ١٩٥٤ منهية استعمارا جثم على صدر مصر اثنتين وسبعين سنة كاملة.
كما حققت يوليو عند الأستاذ عودة هدف العدالة الاجتماعية، وهو هدف آخر ومتأخر نسبيا لثورة ١٩١٩ انتبهت إليه توجهات النحاس ومكرم عبيد الشعبية الأصيلةـ قبل افتراق طرقهما – في تقليل الفوارق الاجتماعية- خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وانتبهت إليه أكثر وأوضح طليعته الوفدية الشابة، ولكن عجزت الحقبة التي يعتز بها وينتمي إليها التيار الليبرالي الوطني المصري عن إنجاز أي شيء نحو العدالة الاجتماعية وتقريب الفوارق الطبقية بسبب مؤمرات القصر والاحتلال ومقاومة كبار الملاك والرأسماليين الوفديين لهذه التوجهات الأصيلة لدى الزعامة الوفدية وطليعتها التقدمية.
أما قطب الناصرية الفكري الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل فإن حلقاته على قناة الجزيرة «تجربة حياة» ٢٠٠٤- ٢٠١٠ التي تعدت المائتي حلقة في سبع سنوات، فكانت نسقا منصفا لمرحلة ما قبل يوليو ولزعامة النحاس، فيما يمكن اعتباره بالقطع نوعا من التطوير الفكري الواضح للوثيقة الفكرية الأساسية ليوليو والتي لعب فيها هيكل الدور الأول في صياغة أفكار عبد الناصر، ألا وهي وثيقة الميثاق الوطني الصادر عام ١٩٦٢ والتي تضمنت نقدا حادا لثورة ١٩١٩.
في هذا النسق يعيد هيكل التوازن للحكم التاريخي ويقلل من أسباب الخصومة بين التيارين. توازن أرى فيه بصراحة أن الأستاذ هيكل أجرى ما يمكن وصفه بمراجعة ضمنية لصياغات حادة جاءت في الميثاق مثل القول في الباب الثالث عن جذور النضال المصري «وركب سعد زغلول قمة الموجة الثورية الجديدة في ١٩١٩» وهي عبارة صارت بين الناصريين والليبراليين خاصة الوفديين أشبه بالجرح المفتوح .
ومما يؤكد أن هذه الرؤية أصبحت أدبًا سياسيا مستقرا عند التيار الناصري أن ابنا بارا فكريا لكل من عودة وهيكل هو الكاتب الكبير الأستاذ عبد الله السناوي يسير في كتابه «أخيل جريحا.. أرث جمال عبد الناصر»، الصادر العام الماضي، على نفس منهجيهما، متحدثا عن مشروع وطني مفتوح علي المستقبل بلورته يوليو ولم تخترعه لوحدها وإنما هي فقط حلقة من حلقات الحركة الوطنية المصرية متممة لثورة ١٩١٩، ويحذر من محاولة الوقيعة بين الثورات والانتفاضات المصرية منذ ثورة عرابي إلي الألفية الثانية، فيقول «الخطر الأكبر هو وجود حالة من القطيعة بين الثورات المصرية منذ ثورة عرابي حتى ثورة 25 يناير 2011، ذلك أن كل ثورة تأتي لتنفي ما قبلها، وكأنه لا يوجد أي تراكم تاريخي للعمل الوطني في مصر، وهو بالطبع أمر غير صحيح يحتاج لمعالجته عبر مزيد من الدراسات التاريخية المدققة».
ويقدم الباحث الناصري الكبير د. محمد السعيد إدريس في دراسته للماجستير عن «الوفد والطبقة العاملة» التي نُشرت في كتاب لاحقا، رؤية بالغة الإنصاف والموضوعية لعلاقة الوفد بالطبقة العاملة المصرية.
والأهم من ذلك أنه في فصله الخاص بالتكوين الفكري لحزب الوفد، اعتبر أن مشروع ثورة يوليو الكبير للعدالة الاجتماعية والانحياز للعمال والفلاحين والطبقة الوسطي هي «الامتداد الطبيعي للفكر السياسي المصري في قضية العدالة الاجتماعية عند الطليعة الوفدية برموز مثل محمد مندور ومصطفي موسي».
مراجعات التيار الليبرالي
يعطي الدكتور محمد أبو الغار أحد أهم رموز التيار الليبرالي الوطني في مصر زعيم ثورة يوليو جمال عبد الناصر حقه فيقول عنه أنه «أهم زعيم مصري في القرن العشرين»، وقيمة الشهادة أن هذا القرن هو الذي شهد أيضا زعامتي سعد والنحاس الليبراليين، وأنه يقوله رغم عدم اقتناعه بوجود مشروع نظري اسمه «الناصرية» .
ويقول المفكر السياسي أ/سمير مرقص وهو ديمقراطي اجتماعي ويعد من أهم المتخصصين في قضايا المواطنة أن ثورة يوليو هي امتداد لثورة ١٩١٩ في هذه القضية «لعبت الطبقة الوسطى دورا هاما في تاريخ مصر منذ ثورة 1919، وفي ثورة يوليو 1952. وأنه إذا كانت حركة الطبقة الوسطى في مصر في ثورة 1919 قد أنجزت المواطنة في بعديها المدني والسياسي، بينما فشلت فيما هو اجتماعي واقتصادي، فإن جمال عبد الناصر ورفاقه في ثورة يوليو جاؤا وأكملوا المهمة وأولوا اهتماما كبيرا بهموم الطبقة الوسطى الجديدة وهموم مختلف الشرائح الاجتماعية الأخرى التي كانت مستبعدة من السلطة والثروة في آن واحد، وقد نجح عبد الناصر فيما يمكن تسميته بالمواطنة في بعديها الاجتماعي والاقتصادي».
مراجعات التيار الماركسي
يظل النقد الماركسي لثورة يوليو من أهم تجارب النقد الموجه لها، إذ أنه ينطلق من نفس أرضية اليسار الاشتراكي، بالاضافة إلي أن بعض أهم رموز التيار الماركسي وأبائه المؤسسين من المصريين شاركوا بفعالية بعد صدور القرارات الاشتراكية ١٩٦١ في تطوير التجربة الناصرية فكريًا وتنفيذيا.
ورغم الجروح التي مازالت مفتوحة بسبب تجربتي الاعتقال والتعذيب الكبيرتين للحركة الشيوعية في سجون يوليو وما صاحبها من تضخيم متبادل بين التيارين في مراحل مختلفة لأخطاء كل منهما بالتسبب في الصدام، إلا أن ميزان الطرفين اعتدل كثيرا سواء بمرور الوقت أو بالتقارب الذي أحدثه النضال ومرات السجن المشترك في عهدي السادات ومبارك.
إن مطالعة لوثائق حزب التجمع الأساسية ومواقف أحزاب مثل التحالف الشعبي الاشتراكي والحزب الشيوعي المصري والحزب الاشتراكي المصري تكشف عن تقدير كبير لتجربة يوليو في العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني والتنمية المستقلة والانتصار للطبقة العاملة والفلاحية بالطبع مع الاستمرار في المآخذ الماركسية المعروفة على التجربة، وأولها بناء اشتراكية بدون اشتراكيين.
يقول د. محمود أمين العالم: «معاداة ثورة عبدالناصر للامبريالية لم يكن مجرد موقف وطني تحرري فحسب، بل كان كذلك موقفاً معاديـا للرأسمالية والرجعية العالمية والعربية والمحلية، وهو بهذا يحمل مضمونا ديمقراطياً متقدماً فضلا عن مضمونه الوطني التحرري. ولم تكن الإجراءات الاقتصادية والاجتماعيـة الـتي اتخذتها ثورة عبد الناصر مجرد إجراءات اقتصادية متقدمـة فحسب، بل كانت تتضمـن دلالات ديمقراطية كذلك مثل القضاء على الملكية الزراعية الكبيرة، والرأسمالية الكبيرة، والارتفاع النسبي للملكيات الصغيرة. وفضلا عن هذا فهناك الإجراءات ذات الطابع الديمقراطي الخالص حتى بالمعنى الشكلي مثل حق العمال الزراعيين في تشكيــل اتحادهم لأول مرة في تاريخهم، ومشاركة العمال في مجالس إدارات الشركات، ولا شك أن مجانية التعليم وإشاعة الثقافة الوطنية الديمقراطية والمفاهيم التقدمية المعادية للاستعمار والاستغلال جوانب ديمقراطية تنسب للتجربة».
وحذر العالم من إهـدار طريق استقلال الثورة واقتصادها الوطني وتقدمها الاجتماعي، وثقافتها التقدمية، «لعلي أقول في غير مغالاة، أن الديمقراطية المنشودة – والتي ما تزال منشودة – تتحقق بالتحالف الوثيق بين اليسار الناصري والشيوعيين المصريين وكل القوى الوطنية والديمقراطية في المجتمـع المصري».
وقال العالم أيضا : «لو أدرك الشيوعيون المصريون جميعا حقيقة ثورة ٥٢ منذ بدايتها، ولو تدعم التحالف بينهم وبين كتلة عبد الناصر، لتجنبت الثورة ولتجنب تاريخ مصر كثيرا من السلبيات والعثرات خلال السنوات التالية».
كلمة أخيرة لابد منها، هل استبعاد الإخوان من هذه العملية يمتد إلى كل من له مرجعية إسلامية؟.. الجواب بالنفي فهناك تيارات تنمني إلى المرجعية الإسلامية ولكنها تمقت الإسلام السياسي ونزوعه المستمر للتطرف والعنف.
ولا يقتصر الأمر فقط كما يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى التيارات الصوفية، ولكن يشمل مجموعات محدودة شابة خرجت على الإسلام السياسي خاصة منذ ثورة يناير، واكتشفت خديعة أساطيره السياسية وتشويهه المتعمد لزعماء مصر ومراحل نضالها المختلفة.
يحتاج هولاء إلى مراجعات شاملة تجعلهم في الوضعية التي توجد فيها الأحزاب المسيحية الديمقراطية في الغرب. فيظل الدين مرجعية قيمية عامة، لكن لا علاقة له بالسياسة اليومية ولا يتحكم في الدولة، ولا يبحث هؤلاء عن خلافة واهمة ولا عن جهاد بالسيف.