تصدر المقال القنبلة (كسينجر وأنا.. مجموعة أوراق) صفحات جريدة الأهرام. وفيه كل هذه الأسرار التي تذاع لأول مرة. وكان هيكل يعرف أنه سيحرج الرئيس السادات إن سمح بتداول الجريدة. وسيحرجه أكثر إن صادرها لأن المصادرة لن تمنع من تداول مقاله في المنطقة العربية كلها بما فيها مصر. فالمقالة تطير إلى بيروت في اليوم السابق على صدور “الأهرام“.

في يوم النشر، وحسب رواية الرئيس السادات يقول: “ندهت هيكل وأبلغته قراري بأن تُعرض مقالاته على الرقيب أو لا تنشر مطلقًا. فقال لي: تسمح لي أسافر في رحلة إلى الشرق الأقصى. قلت له: روح زي ما أنت عاوز وسافر فعلا في رحلة في أوائل سنة 1973، ووصل فيها إلى اليابان، ورجع يكتب عن اتفاق المهزوم والقائد المنتصر في حرب الهند وباكستان، ثم كتب تفاهات، لأن هيكل ليس له أية قيمة فيما يكتبه إذا لم يكن متصلا بالحاكم”.

سدد هيكل ضربته الموجعة في الصميم، وكان منطقه يقوم على أن من سمح بنشر الهجوم ضده، عليه أن يتحمل دفاعه عن نفسه، وقرر من ناحيته أن يتجنب أي تطور جديد في المواجهة بينه وبين الرئيس السادات، فقرر السفر خارج البلاد لمدة طويلة، ومن ناحيته يبدو أن السادات وجد السفر حلا أفضل من أمور قد تفرض عليه مواجهة كانت محتومة مع هيكل، وكأنهما اتفقا على فترة هدنة، تعود فيها القوات إلى الخطوط السابقة على “معركة لي الأذرع” التي لم يكسر فيها إلا لسان موسى صبري الذي منع من الاقتراب من هيكل حتى خرج من الأهرام يوم 2 فبراير سنة 1974.

**

شهد ربيع العام 1973 ربيعا جديدا في العلاقات بين السادات وهيكل، بعد موجة من رياح الخماسين كادت أن تقتلعها، وعاد هيكل إلى مواقعه سالما، وكانت مياه كثيرة قد اندفعت في أنهار متعددة تصل العلاقات بين السادات والبيت الأبيض علنا، وتصله سرا عبر أجهزة المخابرات بصانع السياسة الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر، أحيا السادات حلقة الاتصال عبر كاندال من جديد، وكان اللواء حافظ إسماعيل الذي عينه السادات مستشارًا للأمن القومي ممثله في اللقاء مع كيسنجر، الذي عاد من اللقاء وكتب تقريره إلى الرئيس.

حسب رواية هيكل فقد (تفضل الرئيس السادات فأرسل لي نسخة من محاضر المحادثات مع هنري كيسنجر طالبا رأيي فيها)، بالطبع آثر هيكل ألا يعترض على ما رفضه من قبل، حفاظا على استمرار العلاقة بينه وبين السادات، ولم يبدِ رأيا في أسلوب التفاوض الذي يرفضه، فانصبت ملاحظاته التي ذكرها للرئيس على فداحة التنازلات التي عرضها الجانب المصري.

**

تحسَّب هيكل مبكرًا من أن يقع السادات فريسة سهلة في يد كيسنجر، ولدى أول لقاء بين السادات وكيسنجر في أعقاب أكتوبر 1973 كانت نصيحة هيكل للسادات ألا يتفاوض مباشرة مع كيسنجر، وأن يشكل وفدا موسعا يضم الدكتور محمود فوزي مساعد رئيس الجمهورية، واللواء حافظ إسماعيل مستشار الرئيس للأمن القومي، وإسماعيل فهمي وزير الخارجية، قال هيكل: (أرجوك أن تأذن لي أن أتكلم بصراحة، إن كيسنجر مفاوض ذكي، وقد درس بالتأكيد حقائق أوضاعنا هنا، وهو يعرف أن سلطة القرار كلها في يدك، لهذا فإنه سوف يضغط عليك، ليحصل على أكبر قدر ممكن من التنازلات).

لم يقتنع السادات، ولم يأخذ بنصائح هيكل، وأبلغه قراره النهائي: إن المفاوضات سوف تكون بينه وبين كيسنجر فقط، وهو ما حدث فعلا يوم 7 نوفمبر 1973، إذ جلس الوفدان المصري والأمريكي، بعد أن سلطت عليهما أضواء التليفزيون لالتقاط مئات الصور، ثم خرج الجميع، ولم يبق إلا السادات وكيسنجر.

**

في هذا اللقاء الحاسم والخطير في تاريخ مصر الحديث كله كما وصفه هيكل:

صارح السادات كيسنجر بقوله: إنه ضاق ذرعًا بالاتحاد السوفيتي، وأنه قرر أن ينفض يده نهائيًا من أية علاقة معه.

وأكد السادات لكيسنجر: إن حرب أكتوبر سنة 1973 (التي كانت نيرانها لم تُطفأ بعد) سوف تكون آخر الحروب مع إسرائيل.

وتحدث السادات مع كيسنجر عما سمًّاه فشل التجربة الاشتراكية في مصر، وأعرب له عن أنه يريد التوجه إلى تنمية من نوع جديد.

وانتهى الاجتماع بقبول السادات النقاط الست التي بعثت بها جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل، وعندما سُئل كيسنجر بعد ذلك من مندوب مجلة “نيويورك”: كيف استطاع في ثلاث ساعات فقط، أن يقنع السادات بقبول نقاط جولدا مائير؟، كان جواب كيسنجر: (إنني لم أبذل أي مجهود، فما كدت أدخل، حتى وجدت الرئيس السادات جالسا على حجري).

**

ليس صدفة أن يكون الخلاف العلني الأول بين السادات وهيكل بسبب كيسنجر، ثم كان الخلاف طريقة وأسلوب السادات في التعامل مع السياسة التي صنعها كيسنجر وخطط لها، هو القشة التي قصمت ظهر العلاقة بين هيكل والسادات، ثم كان مقال عن بريق كيسنجر الذي ربما عمي عيون البعض هو آخر ما كتبه هيكل في الأهرام قبل قرار السادات بإقالته في اليوم التالي لصدور الأهرام وفي صدر صفحته الأولى مقال (الظلال والبريق).

تحدث هيكل في آخر مقالاته عن “الظلال” التي تسقط على الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، و”البريق” الذي يتوهج حول وزير الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر، وانتهى فيه إلى القول بأن الظلال والبريق معا لا يكفيان لتغيير سياسة الولايات المتحدة المنحازة تاريخيا وواقعيا للكيان الصهيوني في إسرائيل.

وحرص هيكل على التأكيد على أن الولايات المتحدة لها في الشرق الأوسط مجموعة من الأهداف الدائمة التي لا تتبدل وبمكن تلخيصها في عدة أمور:

ـ حماية أمن ومستقبل إسرائيل.

ـ ضمان الحصول على البترول العربي واستمرار تدفقه بسعر معقول.

ـ إخراج الاتحاد السوفيتي من المنطقة العربية.

ـ تكريس النفوذ الأمريكي في المنطقة وجعله النفوذ الأوحد.

ـ الحيلولة دون قيام قوة عربية كبرى في هذه المنطقة بما في ذلك حجب الدور المصري الطبيعي واعتراض طريق قيام الوحدة العربية بكل الوسائل.

**

في أعقاب إقالته من رئاسة الأهرام، ابتعد هيكل عن المشهد العام، وتحركت الاتصالات بين واشنطن والقاهرة وتطورت إلى ما لم يكن متوقعًا قبل شهور قليلة، وفي يوم 20 أكتوبر 1974 وصل كيسنجر إلى المنطقة وزيرا لخارجية جيرالد فورد هذه المرة، والتقى الرئيس السادات، ولم يفاجأ الرئيس كثيرا حين وجد أن كيسنجر يطالبه بتخفيف طلباته من أجل الوصول إلى اتفاق ثانٍ لفك الارتباط، وقام كيسنجر بشرح مطول لأحوال جيرالد فورد أمام السادات، الذي أحس بإحباط شديد، خصوصا وأنه كان على وشك السفر إلى الرباط لحضور اجتماع قمة عربي تقرر له يوم 28 أكتوبر.

وهي القمة التي كان معروضًا عليها إقرار منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ولم يكن كيسنجر يريد لهذا القرار أن يمر في الرباط، أو على الأقل ألا توافق عليه مصر، وفوجئ السادات بطلب كيسنجر بعرقلة صدور هذا القرار.

**

حسب وصف هيكل فقد كان الرئيس السادات يشعر بحيرة شديدة، جعلته يأخذ المبادرة ويتصل بهيكل بعد انقطاع تام في العلاقات بينهما، فوجئ هيكل باتصال السادات الذي دعاه إلى لقائه فورا في بيته، وقد وجده في انتظاره على سلم الباب الخارجي، وأخذه إلى استراحة الهرم، وهناك استمر اللقاء بينهما أكثر من أربع ساعات، أفاض فيها الرئيس السادات في شرح همومه منذ آخر لقاء بينهما، في ظروف مختلفة سبقت قبل ثمانية شهور.

لم يسهب هيكل في تفاصيل ما دار بينهما في هذا اللقاء، ولكن الصحفي الأمريكي إدوارد شيهان ذكر في كتابه (العرب والإسرائيليون وكيسنجر) أن كيسنجر هو أول وزير خارجية أوجد للولايات المتحدة سياسة عربية مترابطة تقوم على صياغة تحالف بين واشنطن والقاهرة، وتعتمد بشكل خاص على صداقة كيسنجر والرئيس السادات، وقد افترض كيسنجر أنه باتفاقه مع الرئيس المصري سوف تتبعه الدول العربية.

وذكر شيهان أن هيكل أخبره في القاهرة بعد الاتفاق الذي أبرمه كيسنجر بين مصر وإسرائيل أن السادات مستاء على المستوى الاستراتيجي، وأن كيسنجر يدمر ما استثمره طويلًا في السادات.

**

مرة أخرى يوم 9 فبراير سنة 1975، يعود كيسنجر إلى مصر، ويتوجه مباشرة إلى أسوان، حيث ينتظره السادات هناك، ومعه كبار مساعديه، وكان السادات طلب إلى هيكل أن يصحبه إلى أسوان، وحسب تعبير هيكل فإنه رجاه أن يعفيه من هذه المهمة، خاصة، وأنه وضع رأيه وتصوراته أمام الرئيس، ورأى أن في ذلك كفاية، حتى لا تحدث التباسات لا مبرر لها.

كان هيكل يريد أن يلعب في الخفاء، ولكن حاجة السادات إلى هيكل كانت أكبر من الشكليات التي يحاول هيكل أن يراعيها، وفي اليوم الذي كان مفروضا أن يصل فيه كيسنجر إلى أسوان فوجئ هيكل بطلب من الرئيس السادات يدعوه إلى أسوان، ووضعه أمام الأمر الواقع، وأبلغه أن طائرة الرئاسة جاهزة لنقله إلى هناك.

عندما وصل هيكل إلى أسوان، كان السادات مجتمعا مع كيسنجر في استراحة “الخزان”، فتوجه هيكل إلى فندق “كتراكت الجديد”، فالتقى هناك بوزير الخارجية إسماعيل فهمي، الذي أطلعه بناء على تعليمات من السادات، على كل الأوراق التي أرسلها كيسنجر قبل وصوله، بما في ذلك ما نقله من مقترحات وصياغات إسرائيلية.

**

وكذلك التقى هيكل في أسوان بالفريق عبد الغني الجمسي، وأحس أن ذلك العسكري المحترف الكفء يواجه أزمة ضمير، لا يعرف كيف يتصرف تحت ضغطها. ولا شك أن هذه الحالة التي كان فيها السادات، والاتجاهات الجديدة التي بدأت تُسفر عنها محادثاته مع كيسنجر، كانت صدمة شديدة لكثيرين حول السادات ومن بينهم هيكل بالطبع.

كانت تلك التوجهات الجديدة تتناقض مع المعتقدات التي تبناها وصاغها في عهد عبد الناصر، ولم يكن سهلا على هيكل وقد شاهد الدموع تطفر من عيني الفريق عبد الغني الجمسي قائد القوات المسلحة، وهو مغلوب على أمره في أسوان، أن يواصل أداء الدور المطلوب منه مع أنور السادات، فقرر العودة إلى القاهرة.

**

لعب كيسنجر دورا رئيسيا في قصة إبعاد هيكل عن السادات، بعض هذا الدور معلن، ومعروف، وبعضه الآخر سري ومكتوم، وتبدى ذلك في لقاء السادات وكيسنجر في أسوان، يقول أحمد حمروش: روى لي الصديق مصطفى بهجت بدوي (رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير جريدة الجمهورية في ذلك الوقت) أنه كان مع هيكل في أسوان لمقابلة أنور السادات، وأنه لاحظ حرص هيكل على سرعة العودة للقاهرة دون لقاء مع أنور السادات.

كامل زهيري حكى لي تفاصيل هذه الشهادة فقال: بعد أن كتبت يومياتي ضد كيسنجر بمناسبة جولاته المكوكية في ذلك الوقت، أثناء السعي وراء اتفاقية لفصل القوات الثانية، فوجئت بوصول كيسنجر إلى مصر، وسافر إلى أسوان رئيس تحرير الجريدة الأستاذ مصطفى بهجت بدوي، حيث يجتمع السادات مع كيسنجر، فقررت تأجيل نشر اليوميات، ونشرت بدلا منها يوميات أخرى عن شأن عراقي، مبتعدا عن الشأن المصري، وتطوراته في ذلك الوقت، وفوجئت بأن مصطفى وصل القاهرة قبل أن تنتهي المباحثات، وذكر لي أنه رجع على طائرة الرئاسة صحبة هيكل.

**

قلت من قبل إن الأستاذ كامل زهيري هو أول من لفت نظري إلى الدور الذي لعبه كيسنجر في إبعاد هيكل عن السادات، وقال لي بالحرف: من حديث طويلٍ مع مصطفى بهجت بدوي، استنتجت أن كيسنجر رفض أن يقترب هيكل من المفاوضات، وأذكر أن كيسنجر سافر إلى روما خلال جولته نفسها، ومن هناك تحدث عن هيكل بطريقة غير لائقة، وقال: الصحفي إياه، أو شيئا من هذا القبيل.

وكان آخر ما ذكره لي الأستاذ كامل زهيري حول هذه النقطة قوله: أكاد أجزم أن كيسنجر وقف بقوة وراء إبعاد هيكل عن السادات، لأنه تأكد أن وجود هيكل إلى جوار الرئيس، قريبا من أذنه، ومؤثرا في قراراته، قد يفسد “طبخته” التي يحاول تمريرها على السادات، كان يريده بمفرده، كي يؤثر فيه أكثر، ويلعب على نقاط ضعفه بطريقة مفتوحة، ومن دون عوائق.

 

وهذا ما حدث للأسف.

**