تعلَّمْتُ من العمل الدبلوماسي أهميةَ وصف الواقع بصورة دقيقة بصرف النظر عن رأيي فيه، حتى يتم اتخاذ قرارات السياسة الخارجية عن علمٍ، ووَعْى ٍ، وإدراكٍ للواقع القائم؛ ولا تصبح مجرد ردود أفعال لمبادرات أطراف خارجية، ولا تعبيرا عن أفكارٍ مُشَوَّشَةٍ عن واقعٍ لا يوجد إلا في ذهن مُتَّخِذِ القرار.

وسأحاول في مقالى هذا وصف ما أُدْرِكُ من تطوراتٍ نظرية وعملية لمفهوم الشرق الأوسط الجديد؛ لعلِّى أُسْهِمُ بذلك في عرض خصائص الواقع الجديد القديم للشرق الأوسط أمام القارئ، ليتخذ ما يشاء من قرارات بشأن قناعاته بخصوص الوضع الإقليمى والسياسة الخارجية.

كوندوليزا رايس: طَلْقُ الشرق الأوسط الجديد، النَقْدُ، والمزيد:

يرتبط مصطلح الشرق الأوسط الجديد بالسيدة كوندوليزا رايس وزيرة خارجية الولايات المتحدة السابقة، التى أشارت إليه فى مناسباتٍ كثيرة، أبْرَزُها في مؤتمر صحافي لها في يوليو 2006 أثناء اشتعال الحرب الإسرائيلية على لبنان -التى كانت تهدف إلى تأديب حزب الله، ونزع سلاحه، وتحرير جنديين إسرائيليين كان قد أسَرَهُمَا في عملية نوعية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلية. فقد ذكرت الوزيرة الأمريكية أنها لا تسعى للتعجيل بوقف إطلاق النار لمجرد إعادة الوضع إلى ما كان عليه؛ واعْتَبَرَت أن الحرب الإسرائيلية على لبنان، وما ترتب عليها من عُنْفٍ ودمار، بمثابة “طَلْقِ مَخاض ولادة شرق أوسط جديد؛ وأن أية تحركات للولايات المتحدة يجب أن تدفع نحو شرق أوسط جديد وليس العودة للشرق الأوسط القديم”.* ثم أوْضَحَت خلال مؤتمر صحافي مشترك مع يهود أولمرت، رئيس وزراء إسرائيل وقتها، خلال زيارتها لإسرائيل بعد ذلك ببضعة أيام، أنه قد “حان وقت شرق أوسط جديد؛ وأن الولايات المتحدة تريد سلاما قابلا للدوام، وأن الحل القابل للدوام يجب أن يُعَزِّزَ قوى السلام وقوى الديمقراطية في تلك المنطقة”.

وقد أثارت تصريحات كوندوليزا رايس تلك تحفظاتٍ وانتقادات لدى حكومات الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة التى اسْتَنْكَرَت سَعْىَ الولايات المتحدة لفرض الديمقراطية عليها؛ واعتَبَرَت ذلك تدخُّلا في الشئون الداخلية، يهدِّدُ بقاء تلك الحكومات التى قدَّرَت أن معايير الديمقراطية الأمريكية لن تنطبق عليها. ولم تتطرق تلك الانتقادات الحكومية إلى العُنْصُرِ الآخَرِ للشرق الأوسط الجديد في تصريحات رايس، وهو السلامُ، باعتباره لا يُشَكِّلُ تهديدا لها. وقد تعرَّضَت تصريحات رايس لانتقادات كذلك من عدد من المثقفين والنخب العربية التى تحفَّظت على فكرة التدخل لفرض الديمقراطية بعد تجربة الغزو الأمريكى للعراق؛ وتحفَّظت كذلك على التطبيع والتعاون مع إسرائيل.

ثم تطور نقدُ المثقفين العرب القريبين من دوائر الحكم تدريجيا إثْرَ ثورات/انتفاضات الربيع العربى ليقتصر على رفض التدخل الغربى من أجل تحقيق التحول الديمقراطى؛ واعْتَبَرُوا أن الثورات/الانتفاضات العربية إنما جاءت نتيجة مؤامرات أجنبية تهدف إلى بَثِّ الفوضى البناءة. كما تعرَّضَت تصريحات رايس لنوعٍ آخر من النقد من عدد من المراقبين وعلماء السياسة الغربيين المُهتمين بالمنطقة، الذين اعتبروا تَصَوُّرَ الحكومة الأمريكية أن باستطاعتها تحقيق الديمقراطية في الدول العربية نوعا من السذاجة، إن لم تكن الوقاحة، المشوبة بالجهل، خصوصا بعد فشل الغزو الأمريكى للعراق في تحقيق ذلك، وما أدى إليه من عدم استقرارٍ مُزْمِنٍ، وتفاقمٍ للعنف والإرهاب في العراق.

لكن تجدر الإشارة إلى أن جوهر تصريحات كوندوليزا رايس بشأن الشرق الأوسط الجديد لم يتضمن أفكارا جديدة حقيقةً. إذ إن فكرة أن النظم الديمقراطية تميل للتحالف فيما بينها، وأن الديمقراطية تساعد على تحقيق السلام والتعاون بين الدول، مقارنةً بالنظم المستبدة التى تَسْتَسْهِلُ ممارسةَ العنف وشَنَّ الحروب، فكرة قديمة، ازدهرت في سياق الحرب الباردة، وعادت الآن للصدارة مع الغزو الروسي لأوكرانيا. كما أن مسألة التركيز على المصالح المشتركة بين أعداء الأمس من أجل التعاون في مواجهة أعداء وتهديدات مستحدثة، ليست بجديدة هى الأخرى. وقد تكررت الفكرتان في سياقات مختلفة في كتابات العلوم السياسية، ونظرية العلاقات الدولية.

منهج الفسيفساء: مستجدات التحالف، ومستجدات العداء:

كما أن تطبيق هذه الأفكار على منطقة الشرق الأوسط سبق بعقود تصريحات كوندوليزا رايس هذه. فقد برز منهج مستحدث في القرن الماضى لمعالجة العالم العربى ليس ككيان متماسك تجمعه عناصر اللغة، والتاريخ، والثقافة، والدين؛ بل كفُسَيْفِسَاء من الأقليات الطائفية والعرقية التى تعايشت في المنطقة على مر السنين، بينها ما بينها من تنافُسٍ، وحروبٍ، ومواجهات، تفاوتَت في حِدَّتِها وفي آثارها على ترسيم الحدود القائمة لدول المنطقة، وعلى مدى تمثيل تلك الأقليات وتمتُّعِها بحقوقها الأساسية داخل تلك الدول. ويخْلُصُ ذلك المنهج إلى أن وجود إسرائيل في المنطقة لا يُشَكِّلُ تغييرا جذريا للنمط السائد في الشرق الأوسط عبر التاريخ، بل هو استمرار لذلك التنوع الفسيفسائي؛ وأن من الطبيعى أن تتلاقى مصالح الأقليات من أجل التنسيق المشترك للحصول على حقوقها الطبيعية من حيث الاعتراف بها، وتشكيل كيانات أو دول تُعَبِّرُ عنها.

وقد تزامن بروز ذلك المنهج مع زيادة الاهتمام العالمى بالمنطقة في أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973، وما تخلَّلَها وتَبِعها من تعليق الدول العربية صادرات البترول للغرب للضغط لوقف المساعدات العسكرية لإسرائيل من جهة، ثم رفع سعر التصدير من جهة أخرى. ثم برز ذلك المنهج بوضوح أكبر إثْرَ نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979؛ وتأسيس جمهورية إسلامية، اعتبرتها الدول العربية الخليجية السُنِّية تهديدا مباشرا لشرعيتها بسبب قيامها نتيجة ثورة شعبية ضد نظام إمبراطوري، فضلا عن أنها مثَّلت نموذجا مُنافِسا للشرعية المستندة إلى الإسلام، وتبنِّيها لفكرة تصدير الثورة، ثم نصرة المستضعفين، ولا سِيَّما من الأقليات -والأغلبيات- الشيعية في الدول العربية؛ هذا، بالإضافة إلى سلبية نظرة الغرب للثورة الإيرانية بسبب عدائها المطلق لإسرائيل والولايات المتحدة، التى اعتبرها مرشدُ الثورة الشيطانَ الأكبر. وقد تصرَّفَت دول الخليج من الوهلة الأولى على هذا الأساس، فشَجَّعت رئيس العراق السابق صدام حسين على غزو إيران للإطاحة بالثورة في سنواتها الأولى؛ وأمَدَّتْه بالدعم المالى لتعويض خسائره في الحرب؛ قبل أن ينقلب هو عليها، ويغزو الكويت عام 1990 بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية. وقد عَزَّزَ ذلك توجه إيران نحو دعم الأقليات الشيعية في تلك الدول، والانزلاق أكثر نحو التعصب الطائفي، حتى وصل الأمر إلى ما هو عليه الآن من تمدد إيرانى لمساندة الأحزاب الشيعية في لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن، ودعم الأقليات الشيعية في دول الخليج، كوسيلة متقدمة للدفاع عن وجود النظام الإيرانى من الخارج، والهجوم على خصومه الإقليميين في عقر دارهم.

وبدأت خلال تلك الفترة تتردد على استحياء أفكار بشأن وجود مصالح مشتركة بين بعض الدول العربية وإسرائيل ضد التمدد الإيرانى، وبين بعض الأقليات العربية وإسرائيل لتحقيق مصالح تلك الأقليات. وكان تحالف جيش لبنان الجنوبي بقيادة سعد حداد، ثم أنطوان لحد، مع إسرائيل أثناء الحرب الأهلية اللبنانية في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضى، الذى أسفر عن إنشاء كيان مستقل عن الدولة اللبنانية في جنوب لبنان لبضع سنوات -قبل أن ينهار ذلك الكيان ويهرب لَحْدٌ إلى إسرائيل حيث افتتح مطعما صغيرا، وأقام حتى وفاته مَحْسُورا بسبب عدم حصوله على التقدير الذى كان يعتقد أنه يستحقه من إسرائيل- تعبيرا عمليا مُبَكِّرا عن تلك الأفكار. بينما يُعتبر ما يتردَّدُ عن التعاون القائم بين الأكراد في سوريا والعراق من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى تعبيرا عمليا مُعاصِرا عن نفس الأفكار.

لم يكن تحالف بعض الطوائف المسيحية مع إسرائيل المظهر الوحيد لذلك؛ فقد تطور اتجاه فكرى محدود في مصر نحو التخلى عن القضايا العربية، ولا سيما القضية الفلسطينية، بعد زيارة الرئيس الأسبق أنور السادات للقدس عام 1977، والتوصل لاتفاقية كامب دافيد عام 1979، ورفض منظمة التحرير المشاركة في آلية السلام الناتجة عنها، وما ترتب على ذلك من مقاطعة عربية لمصر. لكن ظل ذلك الاتجاه لفترة طويلة مقتصرا على دوائر محدودة من المثقفين، والأكاديميين، ورجال الأعمال المستفيدين من التطبيع.

الأصل: شمعون پيريز، والمسار الثانى لعملية السلام:

أما مؤلِّف مصطلح الشرق الأوسط الجديد الحقيقى فهو شمعون بيريز رئيس، ورئيس وزراء، ووزير خارجية إسرائيل الأسبق الذى توفي منذ بضع سنوات. فقد ألَّف كتابا بهذا العنوان نُشِرَ عام 1993، قبل تصريحات كوندوليزا رايس بثلاثة عشر عاما، في توقيت معاصر لانطلاق عملية السلام الثانية التى بدأت بمؤتمر مدريد للسلام عام 1991، وأسفرت عن اتفاق أوسلو عام 1993.

وقد عبَّر بيريز في كتابه هذا عن تطلعه لشرق أوسط جديد تتعاون فيه الدول العربية مع إسرائيل لمواجهة التهديدات المشتركة من إيران والإرهاب -الإسلامى- بصرف النظر عن حل القضية الفلسطينية؛ ويتم من خلاله توظيف أموال الخليج النفطية، مع العبقرية التقنية والتجارية والعسكرية الإسرائيلية من أجل تحقيق الأمن والتنمية لدول المنطقة. وكانت إسرائيل قد بدأت بطرح أفكار مُشابهة؛ وشَرَعَت في تجربتها خلال عملية السلام الثانية، بتشجيع من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، من خلال ما أُطْلِقَ عليه “المسار الثانى Track Two” لعملية السلام، الذى تقوم فكرتُه على تشكيل مجموعات غير رسمية للتفاوض بين مسئولين حكوميين حينا، وغير حكوميين أحيانا، من كُتَّاب، وأكاديميين، وخبراء تقنيين من الدول العربية المشاركة في عملية السلام، والدول العربية الأخرى التى تقبل بذلك، وإسرائيل لمناقشة أوجه التعاون المشترك في مختلف المجالات؛ بصرف النظر عن المسار الأول الذى يركِّزُ على القضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال، عسى أن يؤدى التعاون في المجالات الأخرى إلى تليين المواقف بشأن القضايا الأصلية. وقد تضمنت اجتماعات المسار الثانى هذا، ضمن ما تضمنته، مجموعة عمل لتحقيق الأمن الإقليمى وإجراءات بناء الثقة ونزع السلاح تعثَّرت بعد بضعة اجتماعات عندما أدرك الجانب المصرى أن إسرائيل لا تعتزم التعامل بجدية مع الهدف الرئيسى للجانب العربى في هذه المناقشات الذى كان يتمثل في إنشاء منطقة خالية من السلاح النووي في الشرق الأوسط، رغم ما قدمته مصر من تنازلات -بما في ذلك القبول بأن يكون الهدف هو نزع جميع أسلحة الدمار الشامل من المنطقة، وليس السلاح النووي فقط، استجابة لوجهة نظر إسرائيل بتحقيق نوع من التوازن في أهداف المنطقة الخالية لتشمل التخلص من القدرات العسكرية غير التقليدية المتوفرة لدى بعض الدول العربية، إلى جانب القدرات النووية الإسرائيلية. فقد انتهى الأمر إلى تركيز الجانب الإسرائيلي على مواجهة القدرات النووية المحتملة لإيران -والعراق آنذاك، وأسلحة الدمار الشامل العراقية، وحث الدول العربية على الانضمام لاتفاقيتي حظر الأسلحة الكيماوية والبيولوجية؛ وعندما يأتى الحديث عن القدرات النووية الإسرئيلية، يشترط المفاوضون الإسرائيليون إبرام معاهدات سلام بين إسرائيل وجميع دول المنطقة بلا استثناء لضمان أمن وبقاء إسرائيل، قبل التفكير في التنازل عن الأسلحة النووية. وقد اكتسبت فكرة المسار الثانى تلك زخما مستقلا حتى انفصلت عن المسار الأول، وتجاوزته بأنْشِطةٍ، واجتماعاتٍ، ومحافِلَ لا حصر لها، منها ما هو مستمرٌ، ومنها ما انْدَثَرَق، تضمنت بحث مختلف أوجه التعاون بين دول المنطقة، بما في ذلك اجتماعات التعاون لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا MENA، وترتيبات التجارة الثلاثية بين مصر والولايات المتحدة وإسرائيل من خلال المناطق الإقتصادية المؤهلة المعروفة بالكويزQIZ، والاتحاد من أجل المتوسط، والاجتماعات التى تنشط أحيانا وتذبل أحيانا أخرى بأسماءٍ مُتفاوتة من أجل مناقشة إنشاء منظمة إقليمية تعمل من أجل تحقيق السلام والأمن القومى لدول المنطقة. 

تطورات ما بعد الربيع العربي: الوضع الطبيعي الجديد:

بعد هذه المراجعة لمختلف التَجَلِّيات النظرية لمفهوم الشرق الأوسط الجديد حسب مبلغ علمي من دراستى الأكاديمية، وخبرتى العملية، ومتابعتى لتطور الأحداث الإقليمية والدولية؛ تجدر مراجعة التطورات العملية المرتبطة بولادة شرق أوسط جديد التى تسارعت خلال الأعوام القليلة الماضية، بعد تَعَثُّر الربيع العربي.

فرغم استمرار التحفظ الشعبى النسبى في مصر على إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل، تزداد وتيرةُ الاجتماعاتِ الرسميةِ المعلنة بين كبار المسئولين المصريين والإسرائيليين على مختلف المستويات من القمة إلى ما دون ذلك، سواءً على هامش المحافل العالمية مثل الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو في القاهرة، أو شرم الشيخ، أو تل أبيب، أو صحراء النقب، أو غيرها؛ وتبادُلِ حضور المنتديات والاجتماعات التقنية الإقليمية في مختلف المجالات مثل البترول، والزراعة، والصناعة، والتجارة، والمياه، والأمن؛ كما تتواصل أنشطة التعاون الطبيعية بين عدد من الشركات المصرية الخاصة مع خبراء ومتخصصين إسرائيليين في مجالات الزراعة، والمياه، والمنسوجات، والاستثمارات المالية، وغيرها. وتستمر نفس الأنشطة على نمط مشابه بين إسرائيل والأردن. هذا عن الدول العربية التى بدأت مسيرة التطبيع مع إسرائيل مُبكرا. وينطبق الأمر على قطر التى تحتفظ بعلاقات رسمية مع إسرائيل من خلال مكتب اتصال يتم تفعيله أو تجميده حسب تطور الأحداث، ويلتقى مسئولوها ويتصلون بنظرائهم من إسرائيل عند الحاجة.

أما الدول العربية الأخرى فقد حدثت تطورات نوعية على مستوى العلاقات المعلنة والرسمية مع إسرائيل -وأَقْتَصِرُ هنا على الأحداث التى تتمتع بصِفَتَىِّ الإعلان والرسمية، ولا أعتزم الانزلاق إلى تناول الأنباء غير الرسمية أو الشائعات التى تتردد بين الحين والآخر عن اجتماعات سرية، مع موريتانيا مثلا أو السعودية. فقد أطلق الرئيس الأمريكى السابق مبادرة صفقة القرن التى تقوم على نفس عناصر الشرق الأوسط الجديد بشأن السلام والتعاون وتوجيه الاستثمارات من الدول العربية الغنية إلى إسرائيل، والأراضى الفلسطينية المحتلة، مع إغفال عنصر الديمقراطية. وقد رحَّبَت بالمبادرة/الصفقة الدول العربية المعنية، لكن الإدارة الفلسطينية لم تستطع قبولها لِما تشكله من تهديد جوهرى لشرعيتها. وقام رئيس وزراء إسرائيل السابق بزيارة معلنة لعُمان عام 2018، قبل وفاة السلطان قابوس. ثم تلا ذلك إبرامُ اتفاقات السلام والتعاون الإبراهيمية بين إسرائيل، وكل من الإمارات، والبحرين عام 2020 برعاية الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامپ (ربما في إطار صفقة القرن بعد إسقاط الشق الفلسطينى الذى لم يقبله الفلسطينيون)، ومساندة وتأييد الإدارة الأمريكية الحالية؛ ثم الاتفاقُ المشابه بين إسرائيل والمغرب؛ وتبادُلُ الوفود والزيارات بين إسرائيل والسودان بعد الثورة السودانية. وتسارعت وتيرةُ الزيارات المتبادلة والتعاون على جميع المستويات الشعبية والرسمية بين كلٍّ من الإمارات والبحرين، وإسرائيل. وتم التوصل إلى اتفاقات تعاون في مجالات عدة أبرزها التجارة والاستثمار، والأمن والتعاون العسكرى بين الإمارات وإسرائيل؛ وبين إسرائيل والمغرب.

وبرزت مساهمة الإدارة الأمريكية الحالية في دعم ذلك التوجُّه عمليا من خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكى الأخيرة لإسرائيل في نهاية الشهر الماضى، وترتيب اجتماع سداسي في قرية/مستوطنة سْدِي بوكر في صحراء النقب (حيث عاش ودُفِن بن جوريون مؤسس دولة إسرائيل بعد اعتزاله العمل السياسى، وتقع داخل حدود إسرائيل وفقا لقرار التقسيم الصادر من الأمم المتحدة عام 1948) بين وزراء خارجية إسرائيل، والولايات المتحدة، والإمارات، والبحرين، والمغرب، ومصر؛ أشار على إثره الوزير الإسرائيلي إلى تطلع بلاده لتكرار ذلك الاجتماع ليصبح نواة لتحالف إقليمي يعالج المشاغل الأمنية المشتركة لتلك الدول تجاه التهديد النووي الإيرانى، والتهديدات الإرهابية، إلى جانب تحقيق التنمية المستدامة؛ كما أشار إلى التعاون من أجل مواجهة التحديات الاقتصادية الناتجة عن الحرب الروسية ضد أوكرانيا. وأبرز وزير خارجية الإمارات سعادته بالاجتماع، وبإعادة اكتشاف المصالح التى تجمع بلاده بإسرائيل، وحرصه على تعويض الفرص والسنوات الضائعة قبل إقامة العلاقات الرسمية بين البلدين. هذا، وقد حرص وزير خارجية مصر على توضيح أن مشاركة مصر في الاجتماع لا تعنى اعتزامها الدخول في أحلاف ضد أحد؛ كما أشار إلى القضية الفلسطينية وأهمية حلها من خلال إقامة دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولة إسرائيل. وحرص وزير خارجية الولايات المتحدة كذلك على الإشارة إلى أهمية حل الدولتين.

وقد احتفى المحللون الإسرائيليون بالاجتماع السُداسى، حتى أن أحدهم -هلال فريش من معهد القدس للأمن والاستراتيجية- ذكر أن ذلك الاجتماع قضى على نظرية “الشارع العربى” التى تَعْتَبِرُ أن الجماهير العربية سوف تنتفِضُ ضد أى حكومة تجرؤ على إقامة سلام مع إسرائيل، وعَقَّبَ “أننا نشهدُ أن الشارع العربي أصبح واجهة متداعية.”**

وبصرف النظر عن أهداف وتطلعات مختلف الأطراف المُشاركة في ذلك الاجتماع، لا شك أن مشاركتها فيه تعكس إدراكا ما لمصالح مشتركة تتضمن تحقيق منافع ما، ودرء تهديدات أخرى. ولا شك أن تحقيق تلك المنافع ينطلق من إدراك تلك الأطراف لمصالحها الوطنية وأمنها القومى الذى يمر عبر مرآة المصالح المباشرة للمشاركين بما في ذلك مواجهة تهديدات أمنية وجودية، وتحديات ترتبط بالأوضاع الإقتصادية والاجتماعية.

الشرق الأوسط القديم المُسْتَدام:

بالتوازي مع ترسخ عناصر الشرق الأوسط الجديد الذى كان يتطلَّع إليه شمعون بيريز قبل ثلاثين عاما، وبشَّرت به كوندوليزا رايس منذ خمس عشرة سنة، المتعلقة بالسلام والتعاون والاستثمارات بين الدول العربية وإسرائيل -عدا الديمقراطية حتى نَتَوَخَّى الدقة؛ لا يجب أن يفوتَنا أن خصائص الشرق الأوسط القديم ما زالت تنضح على ذلك الوضع الطبيعى الجديد -the new normal كما يُقال باللغة الإنجليزية. إذ يستمر النشاط الاستيطاني في الأراضى المحتلة بصرف النظر عن شكل التحالف الحكومى في القدس وأشخاصه؛ وتستمر العزلة الدولية المفروضة على السلطة الفلسطينية بسبب عدم قدرتها على قبول مشروع صفقة القرن؛ ويستمر الحصار المفروض على غزة لمحاولة منع، أو بالأحرى إبطاء وتيرة الانفجارات الدورية المتوقعة ضد إسرائيل؛ وتستمر العمليات الفدائية من وجهة النظر الفلسطينية -الإرهابية من وجهة النظر الإسرائيلية- ضد أهداف إسرائيلية عسكرية ومدنية؛ ويستمر القصف الإسرائيلي الدورى لأهداف مدنية وعسكرية في غزة، وفي سوريا حسب الحاجة؛ ويستمر تراجع المد الديمقراطى في دول الربيع العربى. وقد أكَّدَت التطورات السياسية الأخيرة في تونس؛ والحرب الإسرائيلية ضد غزة في مارس 2021، التى أعْقَبَت التوصل إلى الاتفاقات الإبراهيمية بفترة قصيرة؛ والهجمات الفلسطينية المتتالية التى أسفرت عن مقتل عدد من الإسرائيليين، والفلسطينيين، بالتزامن مع انعقاد اجتماع سْدِى بوكر، وبعده، استدامةَ الشرق الأوسط القديم الذى يرفض أن ينزاح ليُفسح المجال للمولود الجديد.

أرجو أن أكون قد أوضحْتُ فيما تَقَدَّمَ ملامح واقع الشرق الأوسط الجديد القديم، لتشجيع القارئ على بلورة ما يراه من تصورات، واتخاذ ما يراه من قرارات عن علمٍ ووعىٍ وإدراك، بشأن تطلعاته لملامح شرق أوسط أفضل يتفق مع مصالح حاضره ومستقبله، إذا شعر بالحاجة إلى تغيير شرق أوسطه الحالى. فقد آن أوان طرح رؤية عربية لشرق أوسط مختلف، لعلَّنا نشهد مخاضَه ونُسْهِمُ في تشكيله ولو بعد حين، بدلا من الاكتفاء بمتابعة بنات أفكار الآخرين.

————————————

*

https://2001-2009.state.gov/secretary/rm/2006/69331.htm

**

https://www.israelhayom.com/2022/03/28/blinken-will-find-a-united-front-at-negev-summit-expert-predicts/