تهدد الحرب الروسية-الأوكرانية الإمدادات العالمية من السلع الغذائية الزراعية الهامة. حيث يمثل البلدان 53% من التجارة العالمية لزيت عباد الشمس. و27 % من تجارة القمح. لكن، أدى التهديد المتزايد للأمن الغذائي العالمي إلى فرض حظر على الصادرات. وارتفاع حاد في أسعار كلا المنتجين.

تشتد الأزمة بالنسبة للقارة الأفريقية. حيث تعتمد أفريقيا أكثر بكثير من معظم القارات على الصادرات الغذائية الروسية والأوكرانية. تستورد 25 دولة أفريقية أكثر من ثلث قمحها من أوكرانيا وروسيا. وتستورد 15 دولة أفريقية أكثر من النصف. بالنسبة للاقتصادات الأفريقية التي لا تزال تعاني من الاضطرابات الناجمة عن وباء كوفيد 19، فإن ارتفاع الأسعار يمثل ضربة قاصمة لشعوب هذه البلدان.

وبينما يركز صناع السياسة الأوروبيون على القضايا الأخرى المتعلقة بالحرب قبل أن يعالجوا أزمة الغذاء. تعمل الصين وروسيا على زيادة نفوذهما في أفريقيا على حساب أوروبا. هنا، يُشير خبراء إلى أن هذه الأزمة توفر فرصة لإثبات قيمة الشراكة بين أفريقيا وأوروبا. والتي بدت في تصويت الدول الأفريقية على القرار الأممي الذي يدين العدوان الروسي على أوكرانيا.

على الرغم من أن الدبلوماسيين الأوروبيين ضغطوا على الدول الأفريقية لدعم القرار. إلا أن العديد منهم امتنعوا عن التصويت، أو صوتوا ضده، أو لم يشاركوا في التصويت. يجادل صانعو السياسة الأوروبيون المتشددون -وهم أقلية- بأنه يجب أن تكون هناك عواقب على الدول الأفريقية التي لم تدعم القرار. قد يكون أحد الخيارات هو قطع المساعدات عن أولئك الذين صوتوا ضدها. لكن، هذا من شأنه أن يخلط بين الانتقام واستجابة استراتيجية موجهة نحو المصلحة.

اقرأ أيضا: الألمان يذوقون من كأس العقوبات.. ارتفاع قياسي للأسعار.. وأزمة الطاقة تصل إلى الاستحمام

دروس استجابة أوروبا وروسيا لأفريقيا أثناء الوباء

في تحليله، يرصد ثيودور ميرفي، مدير برنامج أفريقيا بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية. العديد من أوجه الشبه بين أزمة الغذاء الحالية والتزاحم على لقاحات كوفيد-19 في الأيام الأولى لوباء كوفيد 19.

تعاملت أوروبا مع توفير اللقاح لأفريقيا على أنه جهد إنساني. في حين أن روسيا والصين جعلته يتعلق بالمصالح. من الدافع الخيري تدفقت استجابة إنسانية: مبادرة COVAX. وهي آلية متعددة الأطراف لتجميع الموارد العالمية.

يقول ميرفي: بينما صاغت أوروبا القضية على أنها التزام إنساني تجاه أفريقيا. تعاملت روسيا والصين مع اللقاحات كوسيلة لبناء نفوذها في القارة. هذه هي الطريقة التي ظهرت بها عملية التسييس الجيوسياسي للقاحات في أفريقيا. يجب على أوروبا أن تطبق الدروس المستفادة من تلك التجربة في استجابتها لأزمة الغذاء.

يضيف: عند القيام بذلك، يجب على القادة الأوروبيين محاولة فهم كيف حولت الصين وروسيا تبرعات اللقاحات إلى سلعة جيوسياسية. ولماذا أدت استجابة أوروبا -التي تحركها الأعمال الخيرية- إلى حدوث رد فعل عنيف في أفريقيا.

كان القادة الأفارقة غاضبين من حقيقة أن نهج أوروبا تجاه التبرع باللقاحات وضع بلدانهم في مؤخرة قائمة الانتظار. وقتها، ردوا بالضغط من أجل حل بقيادة أفريقية للأزمة. لكن عندما طلبوا الوصول المجاني إلى براءات اختراع اللقاحات، زعمت الحكومات الأوروبية أنها غير قادرة على إجبار شركات الأدوية على منحها. عززت هذه الحادثة التصور السائد للنفاق الأوروبي بشأن هذه القضية.

في الوقت نفسه، انتهزت روسيا والصين الفرصة لاكتساب ميزة تنافسية. فعلوا ذلك جزئيًا عن طريق تجنب التعددية. خدم هذا الغرض المزدوج المتمثل في إضعاف الاستجابة المتعددة الأطراف لأوروبا والغرب. وفي نفس الوقت، رفع مستوى المساعدة الثنائية. هم أيضا أعطوا الأولوية للتواصل الاستراتيجي. وكان الترويج الإعلامي لشحنات اللقاح الخاصة بهم لا يقل أهمية عن الإمدادات نفسها.

نفاق أوروبا ومصالح روسيا

يلفت مدير برنامج أفريقيا بالمجلس الأوروبي إلى أنه في النهاية. كان نفاق أوروبا هو الذي جعل استراتيجيات اللقاحات الروسية والصينية فعالة للغاية “دعت أوروبا إلى المساواة في توزيع اللقاحات. مع اكتناز الجرعات في الوقت نفسه، وحرمان أفريقيا من وسائل تصنيعها لنفسها. في المقابل، وضعت روسيا والصين احتياجات الدول الأفريقية -والدول النامية الأخرى- قبل التزاماتها المحلية. بينما كانت أوروبا تكدس، قامت روسيا والصين بالتصدير”.

بهذه الطريقة، لم يكن البلدان بحاجة إلى تقديم تبرعات أكثر من أوروبا. أو توفير الوصول المجاني إلى براءات اختراع اللقاحات الخاصة بهما -والتي لم تكن مطلوبة بسبب جودتها المشكوك فيها كما يقول ميرفي- بل كانت بكين وموسكو بحاجة فقط للإشارة. إلى أنه في حين أن أوروبا فشلت في الوفاء بالتزاماتها، كانا يعطيان الأولوية لاحتياجات أفريقيا. وعلى الرغم من أن الغرب كان أكبر مساهم عالمي في اللقاحات -كماً ونوعاً- لكنه خسر معركة الدعاية.

تأتي أزمة الغذاء في أعقاب الانهيار الاقتصادي الذي أحدثه الوباء للعديد من البلدان. والذي أدى إلى زيادة سريعة في ديون البلدان الأفريقية. لكن، أحد الاختلافات الرئيسية بين التدافع على اللقاحات وأزمة الغذاء هو أن الصين لا تملك الموارد اللازمة للتنافس مع أوروبا. عادة ما تنتهز الصين الفرصة لبناء نفوذها، لكنها -هذه المرة- لا تستطيع أن تلعب بالجغرافيا السياسية بمخزونها من السلع الزراعية، التي تتعرض بالفعل لضغوط. وقت أزمة اللقاحات كان يمكن لبكين أن تضع أهدافها الجيوسياسية فوق التزاماتها المحلية. لكنها ترى الأمن الغذائي المحلي على أنه قضية وجودية.

أمّا روسيا، فقد حدد الكرملين قوته في مجال الأمن الغذائي حتى قبل غزوه الشامل لأوكرانيا. حيث صاغ عبارة “دبلوماسية القمح“. هكذا جاء تحذير روسيا الأخير من أنها لن تزود سوى أصدقائها بالسلع الغذائية الزراعية. إن العوائق الحالية التي تحول دون استخدام روسيا للأمن الغذائي -مثل اضطرابات الشحن والحصاد- لن تستمر طويلاً. وقد يكون للعقوبات الغربية على التجارة الزراعية الروسية تأثير أكبر، لكنها لن توقف الصادرات الروسية إلى الأبد.

اقرأ أيضا: في قلب العاصفة.. ماذا سيحدث إذا توقف تدفق الغاز الروسي إلى أوروبا؟

كيف يجب أن تستجيب أوروبا؟

بينما تنوي روسيا بوضوح استخدام قطاعها الزراعي لتحقيق مكاسب جيوسياسية. فإن الكتلة الغربية تتمتع -بشكل جماعي- بوضع جيد لمساعدة أفريقيا في مخزون الغذاء الفائض. وفي النهاية حلول طويلة الأجل. “يجب أن يفكر الغرب في كيفية استخدام هذا الأصل المهم بشكل استراتيجي. سيكون من الخطأ إحالة هذه القضية إلى العمل الإنساني الخالي من الفوائد. بدلا من ذلك، يجب على الغرب أن يزاوج الإنسانية مع الاستراتيجية”، وفق ميرفي.

يشير مدير برنامج أفريقيا إلى أهمية عدم انتظار وصول أزمة الغذاء إلى ذروتها، والاستجابة للنداءات القادمة من أفريقيا. بل ينبغي على أوروبا أن تعبر عن نيتها في التصرف الآن. ووضع إطار لنهجها على أنه نابع من المصلحة المشتركة – وليس الأعمال الخيرية- وهذا من شأنه أن يثبت التزام أوروبا بشراكة بين أنداد.

أيضا، على أوروبا أن تدرك أنه سيكون من المستحيل التعاون مع الصين وروسيا بشأن هذه القضية. يجب على القادة الأوروبيين تشكيل تحالف للراغبين في التعامل مع أزمة الأمن الغذائي، والسماح لشركائهم الدوليين بالانضمام إلى الجهود حيثما أمكن ذلك. ومن المزايا الجيوسياسية الإضافية لهذا النهج، أنه سيفتح الباب أمام الدول التي لم تنحاز إلى أوروبا أو الصين أو روسيا – مثل الهند والإمارات- والتي تتنقل حاليا بين الكتل الجيوسياسية المتنافسة.

يجب أن ترحب أوروبا برغبة الدول الأفريقية في التحول بعيدًا عن التبرعات وتحسين قدرتها الإنتاجية باعتباره مصلحة مشتركة. وعليها أن تأخذ زمام المبادرة. بالإعلان عن نيتها استخدام الأزمة كمحفز لتقوية شراكتها مع أفريقيا من خلال تنمية القطاع الزراعي في القارة. بالفعل، تتمتع أفريقيا بالقدرة على أن تصبح منتجًا رئيسيًا للقمح. وهو الأمر الذي من شأنه أن يحسن الأمن الغذائي لأوروبا وكذلك أمنها.